كتاب "العرب العثمانيون".. ما الذي حدث قبل قرن؟

3 سبتمبر 2024
غلاف كتاب العرب العثمانيون.. الخلافة، السياسة، والقومية

رغم مرور أكثر من مئة عام على انهيار نظام الإمبراطورية والانتقال إلى نظام الدول الإقليمية، فإن الأسئلة لم تتوقف حتى اليوم حول أسباب تراجع العرب بعد انتقالهم إلى الدول القوميّة الحديثة. ومن أجل الإجابة على سؤال "ماذا حدث؟"، تظهر أهمية الرجوع إلى جذور التاريخ القريب من أجل تحليل التحولات التي مرّ بها العرب كـ"أُمّة"، ومآلات هذه التحولات في ظل التغيرات العالمية.

ومن المعروف، وفقًا لكثير من الباحثين، أن العرب لم يعرفوا شعورًا وطنيًا أو قوميًا، بالمعنى الحديث، إلا في بدايات القرن الماضي. وأن قسمًا من العرب ساهم في الانفصال عن الدولة العثمانية من خلال ما تعارف المؤرخون على تسميته بـ"الثورة العربية الكبرى" التي قادها والي الحجاز، المُعيَّن من قبل الباب العالي، الشريف حسين؛ ما أدى إلى تقسيم المشرق العربي وتسليمه للإمبرياليتين البريطانية والفرنسية.

وقد يظنُّ البعض أن العودة إلى مراجعة التاريخ ليست مفيدة لواقعنا اليوم، لكننا في الحقيقة، ما زلنا نعيش حتى الآن تبعات هذه الأحداث من ناحية، كما أننا في حاجة اليوم لإعادة النظر إلى التحول الأهم في تاريخ العرب من ولايات عثمانية إلى دول قومية، وإعادة النظر أيضًا في كثير من الآراء التي كُتبت حول تلك المرحلة، وصارت من المُسلَّمات، من ناحية أخرى. 

ورغم أن قسمًا كبيرًا من التاريخ العربي والتركي، حول تلك المرحلة، قد كُتب تحت تأثير العصبية القومية؛ فإن العقود الأخيرة شهدت اهتمامًا كبيرًا بدراسة العالم العربي تحت الحكم العثماني، وفقًا لمصادر محلية وغربية. كما أن التاريخ العثماني الذي كان يُدرس في العقود الماضية من قبل المؤرخين الأتراك، داخل حدود الأناضول، صار يُدرس الآن من منظور أوسع، سواء في أبعاد التاريخ الكلي أو الجزئي، ومن جوانب مختلفة. وهذا هو أهم ما يميز كتاب المؤرخ التركي زكريا قورشون، الصادر حديثًا عن "مؤسسة وقف للنشر" بعنوان "العرب العثمانيون.. الخلافة، السياسة، والقومية (1798-1918)".

وفي ظلِّ قلَّة الأبحاث حول "العرب العثمانيين" في الدراسات التركية، يأتي كتاب زكريا قورشون، البروفوسير المختص في تاريخ الدول العربية والدولة العثمانية، كمحاولة لسدِّ الثغرات في هذا المجال البحثي، ويُكمل ما بدأه في كتابه السابق "العلاقات التركية – العربية في مفترق طرق". ويعترف قورشون في مقدمة كتابه الجديد أنه جاء كمحاولة لتحسين عمله القديم الصادر قبل أكثر من ثلاثين عامًا، بعد مراجعة أفكاره، في ضوء الوثائق الجديدة التي عُثر عليها في الأرشيف العثماني، وخصوصًا بعد رَقمَنته. 

يتتبع قورشون في كتابه حكم العثمانيين للأراضي العربية، ولكن ليس خلال أربعة قرون، إذ يركز على ما تعارف المؤرخون على تسميته بـ"القرن التاسع عشر الطويل" أو "قرن التحولات الكبرى". ويتطرق المؤرخ التركي أثناء مسحه الشامل لتلك المرحلة إلى أوضاع العرب الذين عاشوا في ظلِّ حكم الدولة العثمانية، ومسار علاقتهم بمركز الدولة، وصولًا إلى مرحلة انفصال المناطق العربية عن الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، لكنه لا يتناول العرب والأتراك كأمتين مستقلتين، بل كعنصرين من الدولة نفسها. بالإضافة إلى حركات التمرد التي شهدتها المنطقة العربية، وطرق تعامل العثمانيين معها بين القمع والحلول التوفيقية. ويعتمد قورشون في هذا الكتاب على العديد من المصادر التركية والأرشيف العثماني، والمصادر الغربية أيضًا.

تهديدات ضد العثمانيين في الولايات العربية

من أجل فهم أوضاع الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية في المرحلة المعنية بالكتاب (1798 – 1918)، يحلل قورشون الأحداث السياسية التي جرت في القرن الأخير للعرب تحت سيطرة وخلافة الدولة العثمانية. وفي هذا السياق، يتناول التهديدات الداخلية والخارجية التي واجهت العثمانيين في تلك المرحلة بالولايات العربية، ويرى أن أول تهديد داخلي حقيقي كان بظهور الحركة الوهابية، باعتبارها أهم حدث ديني وسياسي في منطقة الخليج. وأن هذه الحركة قد أثرت، بلا شك، على هيبة العثمانيين في المنطقة العربية، وخصوصًا بعد استيلاء الوهابيين على مكة ومنع اسم السلطان العثماني في خطبة الجمعة، الذي يعني إلغاء حاكمية الدولة العثمانية التي وقعت بين شقي رحى القوى الأوروبية من ناحية، وهذه الحركة المحلية الدينية السياسية من ناحية أخرى.

المؤرخ التركي زكريا قورشون
المؤرخ التركي زكريا قورشون (ميغازين)

كما يعتبر قورشون أن غزو نابليون لمصر، الذي غيَّر تاريخ الولايات العربية - العثمانية لمئة عام، بحسب تعبيره، هو التهديد الخارجي الأكبر الذي شهدته الدولة العثمانية في المنطقة العربية، حيث يرى أن أهم أثر خلَّفه غزو نابليون لمصر هو إضعاف المماليك الذي تسبب في خلو الساحة لمحمد علي، الذي تحوَّل من جندي عثماني إلى والي مصر وحاكمها، بعد أن تخلَّص تدريجيًا من كل المعارضة المحلية، وهو الذي جعل المصريين (بعض العرب العثمانيين) يشعرون بأن الدولة العثمانية غير قادرة على حمايتهم. كما يرى أن غزو نابليون لمصر جعل للإنجليز دورًا في تقرير السياسة في مصر والمشرق العربي، وخصوصًا بعد أن استعانت الدولة العثمانية بهم في دعم وجودها ضد محمد علي باشا.

ويربط قورشون بين هذين التَّهديدين الداخلي والخارجي، لأنهما تسببا في ضعف هيبة الدولة العثمانية في المنطقة العربية، بعد أن شعر العرب العثمانيون بأن الدولة غير قادرة على حمايتهم. فمثلما استعانت الدولة العثمانية بالإنكليز ضد محمد علي باشا، اضطرت أن تستعين أيضًا بمحمد علي نفسه في حلِّ مشكلة الوهابيين، وهو ما نجح فيه الباشا بالفعل، وأعاد مكة والمدينة إلى سلطة الدولة العثمانية عام 1812. 

الإدارة العثمانية للمناطق العربية

من المعروف أن العرب كانوا أكثر الأعراق من حيث عدد السكان والانتشار في الدولة العثمانية خلال الفترة محل الدراسة، إلا أن هيمنة الإدارة العثمانية على العالم العربي لم تكن هي نفسها في كل مكان، وتشكَّلت بتأثير الظروف والجغرافيا. ويرى قورشون أنه من غير الممكن الحديث عن وحدة اسمها "الجغرافيا العربية" عام 1517 عندما ضمَّ السلطان سليم الأول بلاد الشام ومصر إلى الدولة العثمانية، إذ كانت هناك بنية سياسية مشتتة، كما أن التمردات التي شهدتها الولايات العربية خلال تلك الفترة بقيادة بعض الإداريين القدامى (المماليك) على الإدارة الجديدة، مثل تمرد جان بردي الغزالي المملوكي على الإدارة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني عام 1521، لم تكن ثورات ذات قاعدة عريضة تمثل الشعب.

ويرى قورشون أن الحفاظ على إدارة مركزية مستقرة في منطقة كبيرة مثل الجغرافيا العربية كان أمرًا صعبًا. وكانت هذه مشكلة للإدارات السابقة للدولة العثمانية أيضًا، ولا تزال مشكلة حتى اليوم. كما يرى أن العثمانيين تمكنوا من القضاء على الفوضى والارتباك في المنطقة وتوحيد العرب تحت سقف سياسي ومظلة آمنة. وبما أن هذه المظلة حظيت بقبول اجتماعي كبير، لم تحدث فيها أعمال شغب واسعة النطاق. والواقع أن السلطات العثمانية لم تلجأ إلى العقاب بدافع الانتقام بعد أي تمرد، وفقًا لقورشون، الذي يذكر أن الحكم العثماني، الذي دام أربعة قرون في العالم العربي، كان يتغير ويتطور حسب الزمن والمنطقة، وأن هذا الادعاء لا يعني أن كل شيء كان يسير على ما يرام في الولايات العربية.

كثيرًا ما تحدث المؤرخون العرب والأتراك، على حد سواء، عن حفاظ العثمانيين على النظام الإداري للولايات العربية. وهذا ما يراه قورشون أحد أهم عوامل استقرار الأوضاع في الولايات العربية التي حاولت أن تتَّبع في حكم البلاد العربية أسلوبًا يتناسب وطبيعة هذه البلاد وعاداتها وتقاليدها ونظام الحكم السائد فيها من قبل، إلى جانب محاولتها تكييف النظام السابق مع نظامها المركزي الخاص. 

وهذا ما يؤكده المؤرخ التركي البارز إلبر أورطايلي في كتابه "حقائق التاريخ التركي الحديث"، إذ يقول: "حتى احتلال محمد علي باشا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت الولايات العربية تتمتع بمكانة أكثر استقلالية داخل الهيئة الإدارية العثمانية، مقارنة بمنطقة البلقان. وكان للسلالات المحلية رأي في الإدارة، ولم يتم تطبيق نظام التيمار على نطاق واسع (قام النظام التيماري على تصرف الزعماء وأرباب التيمارات، وليس الدولة، في الجزء الأكبر من عائدات تيماراتهم أو زعاماتهم، مقابل أعداد مقاتلين مجهزين للحروب على نفقتهم عند الحاجة إليهم). ومع ذلك، مع الإصلاحات المركزية في فترة التنظيمات، دخلت الولايات العربية في نظام الحكم المركزي، مثل ليبيا ودمشق وحلب وفلسطين ولبنان والعراق (الموصل وبغداد والبصرة) وسواحل لبنان".

لقد تمت التقسيمات الإدارية للولايات العربية وفقًا لاحتياجات المناطق، وأُديرت هذه الأماكن من خلال الولاة الذين كانوا يحملون رتبة باشا أو وزير. ومن المعروف أن العرب قد تولوا مناصب مختلفة في جميع أركان الدولة العثمانية، مثل منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) وشيخ الإسلام، والوالي. ومن أبرز الشخصيات العربية التي حظيت بمناصب رفيعة في الدولة العثمانية: أحمد عزت العابد، والشيخ أبو الهدى الصيادي، والقس لويس صابونجي. كما أن خريجي الأزهر بالقاهرة والمدارس في دمشق وطرابلس وحلب كانوا يشكلون العمود الفقري للحكومة العثمانية في مجال القانون. وبحسب قورشون، فقد استفاد السلطان عبد الحميد الثاني من هذه الشخصيات في التقرب إلى العرب. 

وجدير بالذكر في هذا السياق أن الضباط العرب الذين تدربوا في المدارس العسكرية التي أنشئت في المركز (إسطنبول) أو في الولايات العربية لم يخدموا في الجيش العثماني فحسب، بل لعبوا أيضًا دورًا نشطًا في العملية التي أدت إلى تأسيس الدول العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.

تطورات وتحالفات عالمية جديدة

يعتقد قورشون أنه كان من المستحيل ألا تؤثر التطورات والتحالفات العالمية على الإمبراطورية العثمانية، كالتحالف الفرنسي – الروسي (1892 – 1914)، الذي انضمت إليه انجلترا لتشكِّل قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تمتلك أراضٍ واسعة في أوروبا وآسيا وإفريقيا فحسب، بل كانت تتمتع أيضًا بأغنى تنوع ديني وعرقي في العالم. فإلى جانب إلى الأتراك المسلمين، كان العرب والأكراد والشركس والألبان والبوسنيون واليونانيون المسيحيون الأرثوذكس والبلغار والصرب والرومانيون، إضافةً إلى اليهود والأرمن والكاثوليك والموارنة مواطنين عثمانيين. 

ويرى أن مسألة تقاسم الأراضي العثمانية في حال سقوطها، والتي عُرفت بـ"المسألة الشرقية"، كانت نتاجًا لهذه التطورات، وخاصة بعد معاهدة برلين 1878، وأن السلطان عبد الحميد الثاني كان مضطرًا بعد اعتلائه العرش أن يتبع سياسة التوازن بين القوى دون الميل إلى أي طرف. ومع إعلان الدستور العثماني الأول عام 1876، قام عبد الحميد بإدخال العديد من التجديدات في النظام الإداري، كما نصَّت مادتان في هذا الدستور على أن السلطان العثماني هو سلطان المسلمين كافة، وبدأت إرهاصات سياسة "الوحدة الإسلامية" التي انتهجها عبد الحميد.

ومن أبرز الملاحظات التي يذكرها قورشون في هذا السياق، أن السلاطين العثمانيين لم يشعروا بالحاجة إلى التركيز بشكل خاص على فكرة "الخلافة" حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، لأنهم كانوا أقوى حكام العالم الإسلامي، وقد تم قبولهم بالفعل باعتبارهم "خلفاء" من قبل جميع المسلمين، باستثناء بعض الطوائف المحدودة.

ومن المعروف أنه رغم قبول السلطان العثماني باعتباره الحامي و"الخليفة" لجميع المسلمين، منذ ضمِّ العثمانيين لمصر تحت حكمهم عام 1517، على يد السلطان سليم الأول، فإن السلاطين العثمانيين لم يكونوا بحاجة إلى التذكير بذلك في علاقاتهم مع الدول في مراسلاتهم الرسمية. وبحسب قورشون، لم يتم إدراج الخلافة في وثيقة دولية موقعة بين دولة مسلمة ودولة مسيحية إلا في اتفاقية كوجوك كاينارجا عام 1774 بين روسيا والدولة العثمانية، لأول مرة، وأخذت مكانها في القانون الدولي. والسبب الرئيسي لذلك هو أن روسيا التي انتصرت في الحرب على العثمانيين، مُنحت حماية الأرثوذكس من رعايا الحكم العثماني، فأراد العثمانيون أيضًا خلق توازن من خلال تولي حماية المسلمين الذين يعيشون تحت السيطرة الروسية.

وهذا ما يُفسِّر أنه في ظل التغيرات والصراعات الدولية، كان السلطان عبد الحميد الثاني أكثر سلاطين الدولة العثمانية استخدامًا لفكرة "الخلافة" في مواجهة "الأفكار القومية" التي بدأت تنتشر في كل مكان بالقرن التاسع عشر، وكان لا بد من معارضتها بفكرة "القومية الدينية". كما كان يعتقد أن وحدة المسلمين هي أفضل جواب على الغرب في قضية المسألة الشرقية.

القومية العربية في سياق تلك المرحلة

يخصص قورشون الفصل الأكبر من كتابه لمسألة نشأة القومية العربية، وجميع التنظيمات العربية القومية، وأهمية هذه التنظيمات وتأثيرها على العرب. إلى جانب مناقشة الأسس الفكرية لجمعيات ورجال القومية العربية، وقراءتها في سياقها التاريخي. 

منذ وقوع مصر فعليًا تحت الاحتلال البريطاني عام 1882، أصبحت مركزًا للمعارضة ضد السلطان عبد الحميد. وكان الصحافيون البريطانيون والفرنسيون والأرمن واليونانيون والسوريون المعارضون لعبد الحميد يعملون في مصر تحت رعاية البريطانيين. ويرى قورشون أن مصر في ظل هذه الأجواء أصبحت مركز نشاط المستشرق البريطاني ويلفريد سكاوين بلنت، الذي أراد إحياء "الخلافة العربية" بدلًا من "الخلافة العثمانية". وأن هذه الأنشطة تسببت في رد فعل عنيف، وظهور زعماء مثل مصطفى كامل في مصر للدفاع عن سياسات عبد الحميد ضد البريطانيين. 

"تمرد الشريف حسين" وليس "التمرد العربي"

وفي تقييمه لـ"الثورة العربية الكبرى" المعروفة في التاريخ التركي باسم "التمرد العربي"، يرى قورشون أن البنية الإدارية العثمانية في الجغرافيا العربية قد تغيرت كثيرًا في الفترة ما بين 1517 – 1914، وأنه من المهم دراسة هيكل الإدارة العثمانية وظروف تلك المرحلة بشكل جيد، والبحث في أسباب الداعمين لتمرد الشريف حسين، الذي يُرجعه قورشون إلى فكرة أن عدم وجود سلطة قوية هو الذي جعل بعض القبائل تدعم تمرد الشريف حسين.

السلطان العثماني عبد الحميد الثاني
السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (ميغازين)

ويلاحظ أن جزءًا كبيرًا من قوات الشريف حسين كانت من العرب البدو، وهذا ما يسمح بتفسير طبيعة التمرد. وبالنظر إلى إجمالي القبائل التي عاشت في الجغرافيا الممتدة من الحجاز ومركزها نجد، وجزء منها يمتد باتجاه اليمن وحدود العراق، يمكننا القول إن الذين أيدوا الشريف حسين يمثلون عُشر إجمالي عدد السكان. ومن ناحية أخرى، يرى أن نصف العالم العربي كان تحت الاحتلال بالفعل، ولم يكن له صلة قوية بالإمبراطورية العثمانية. ولكن إذا نظرنا إلى المدن التي ظلت تحت الحكم العثماني، سنجد أنها شهدت تضامنًا كبيرًا بين الشعب والجيش العثماني. 

ويؤكد قورشون على أن لورانس الذي تم تكليفه بتنظيم الشريف حسين نيابة عن البريطانيين، كان يهدف إلى فصل العرب عن الأتراك من خلال التأكيد المستمر على فكرة الوحدة العربية. واستنادًا إلى تباين مواقف قادة العرب من "الثورة العربية الكبرى" 1916، يرى قورشون أنه من الخطأ تسميتها في الدراسات التاريخية التركية بـ"التمرد العربي"، ويُطلق عليه "تمرد الشريف حسين".

ووفقًا للعديد من الوثائق التي تبين أن موقف قادة العرب من الدولة العثمانية و"تمرد الشريف حسين" لم تكن متشابهة، يورد قورشون بعض الأمثلة، كدعم آل رشيد في الجزيرة العربية للعثمانيين، كما يفرق بين موقف قادة العرب في شمال اليمن وجنوبه. ففي الشمال كانت التمرُّدات ضد العثمانيّين لا تتوقّف، وتُؤكّد العديد من الوثائق على اتفاق الأدارسة في شمال اليمن مع الإنكليز الذين قدّموا لهم الأسلحة لمواجهة العثمانيّين بعد أن عقدوا معهم معاهدة صداقة عام 1915. وعلى العكس من ذلك، كان الإمام يحيى المتوكّل، في الجنوب، يدعم العثمانيّين سرًّا، وقد استمر في التواصُل معهم خلال حرب الاستقلال، كما يذكر موقف عجمي باشا السعدون، آخر أمير لاتحاد قبائل إمارة المنتفق التي امتدت من شمال وشمال شرق الجزيرة العربية إلى وسط العراق، الذي وقف مع العثمانيين ضد الإنكليز. 

لعل أبرز ما يميز كتاب زكريا قورشون عن غيره من الدراسات التركية التي تتناول تلك المرحلة الشائكة من عمر الأمتين العربية والتركية، هو عمله على تفنيد الرواية الرسمية التي كُتبت حول العرب في مرحلة الحرب العالمية الأولى، واتهام العرب بـ"طعن الأتراك من الخلف"، وهو ما يفتح للباحثين الأتراك من بعده، قبل القراء، آفاقًا جديدة للبحث وإعادة النظر في تلك المرحلة وما كُتب عنها وتناقلته الأجيال. بالإضافة إلى محاولته التفريق بين سياسات الإدارة العثمانية وجمعية الاتحاد والترقي، التي قامت بالانقلاب على العثمانيين، وبالتالي الفرق بين نظرة العثمانيين للعرب، ونظرة قادة الجمعية القومية العنصرية لهم. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

جورج طرابيشي.. عندما كان النقد الأدبي ممتعًا

كان جورج طرابيشي يؤمن، ويطبق ما يؤمن به، أن لكل رواية أو قصة قفلها الخاص، وبالتالي فلا بد من البحث عن مفتاح مناسب لها

2

رواية "الجثث".. تماثيل من الملح تشبه الأطفال

هذه الرواية ليست مجرد خيال ديستوبي، بل هي أيضًا نقد اجتماعي حاد لفكرة تعايش المجتمعات البشرية مع الأزمات بدلًا من البحث عن حلول لها

3

ما بين الكواكبي والرحالة العربي.. طبائع الاستبداد الراسخة

بعد قرن من كتاب الكواكبي، يتناول الرحالة العربي الاستبداد بأسلوب مشابه، مبرزًا الفروقات بين الاستبداد التقليدي الذي يعتمد على السلطة المطلقة، والحديث الذي يستغل الخطاب الأيديولوجي لاستمالة الجماهير

4

كتاب "غرباء على بابنا".. صناعة الذعر تجاه المهاجرين

يُبيّن زيجمونت باومان في كتابه كيفية قيام وسائل الإعلام والسياسيين في الغرب باستبعاد المهاجرين من دائرة التعاطف وتحويلهم إلى مصدر تهديد أمني واقتصادي لتحقيق مصالحهم

5

من أروى صالح إلى عنايات الزيات.. مجتمع يعيد إنتاج خيبات نسائه

تجارب أروى صالح وعنايات الزيات القاسية مع المجتمع، والتي قادتهما إلى مصير مأساوي، انعكاس لهذا المجتمع الذي يُعيد إنتاج خيبات نسائه مرةً بعد أخرى

اقرأ/ي أيضًا

رواية الجثث

رواية "الجثث".. تماثيل من الملح تشبه الأطفال

هذه الرواية ليست مجرد خيال ديستوبي، بل هي أيضًا نقد اجتماعي حاد لفكرة تعايش المجتمعات البشرية مع الأزمات بدلًا من البحث عن حلول لها

آية حسن حسان

كتاب الحيوات المهدورة

كتاب "الحيوات المهدورة".. أناس لا حاجة للحداثة بهم

يرى باومان أن إنتاج النفايات البشرية أو البشر الضائعين (الزائدين عن الحاجة) هو نتيجة حتمية للتحديث وبناء النظام القانوني والتقدم الاقتصادي

عمر عابدين

سفينة الفلاسفة

رواية "سفينة الفلاسفة".. اللقاء الغامض بين لينين وستالين

يعالج ميشائيل كولماير في روايته تاريخ روسيا في القرن العشرين من خلال حكاية تدور حول رهاب المؤامرة وإرهاب الدولة

كاميران حوج