رواية "الجثث" للكاتب والمترجم الروسي ألكسي بوليارينوف، هي واحدة من أشهر الروايات الروسية الصادرة هذا العام. رواية ديستوبية من الطراز الرفيع تضعنا أمام عالم مليء بتماثيل ملحية مرعبة ومجتمع إنساني لا هدف له، يحاول التعايش مع قدرٍ كبير من الحزن والأسى. وإذا لم يكن هذا العالم مثيرًا للإعجاب، فلا بد من التعاطف مع شخصياته التي تحاول التخلص من أحزانها.
قبل التطرق إلى عالم الرواية، علينا في البداية فهم عنوانها الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، لكنه في الواقع ليس كذلك. كلمة "الجثث" (Кадавры) من (cadaver)، وهي تسمية قديمة أو قليلة الاستخدام للإشارة إلى جثة أو جيفة، كانت تستخدم في الأساطير السلافية للإشارة إلى الأموات الأحياء، أو الأشياء غير الحية المتحركة، والتماثيل، والتماثيل النصفية، والأصنام، والصور الشخصية، والحيوانات المحنطة، وما إلى ذلك.
ومع أن هناك كلمات أخرى في اللغة الروسية بمعنى "الجثة" أو "الجسد" أو "الميت"، لكن بوليارينوف اختار هذه الكلمة تحديدًا، بمعناها المزدوج المربك، لإضافة معان مختلفة للعمل، فما نحن أمامه هو ظاهرة غريبة لتماثيل أو جثث حقيقية لا نعلم حقًا، وكذلك شخصيات هذا العالم، ما إذا كانت جثثًا بشرية أم مجرد قطع من الملح.
عالم الرواية
في عام 2000، ظهرت "جثث الأطفال" في جميع أنحاء البلاد، وهي عبارة عن تماثيل ثقيلة من الملح برزت من الأرض بلا سبب واضح. وقد جرى اختيار هذا الاسم للإشارة إليها بسبب شكلها القرب من الأطفال الصغار.
لا يمكن نقل التماثيل أو تقطيعها، وكان الحل الوحيد للتخلص منها هو تفجيرها، لكن ذلك سيؤدي إلى انبعاث الملح الذي يجعل الأرض المحيطة بها قاحلة ويضر بالغلاف الجوي. لذا، تحظر السلطات العبث بالجثث، بل وتحظر الأبحاث الخاصة بها، وعن تأثيرها المرعب على المجتمع.
ولمدة 30 عامًا، لم يُكتشف سر الجثث. بطلة الرواية، داشا، باحثة تعود إلى موطنها، بعد عدة سنوات مضت على هجرتها الاضطرارية منه، بتصريح من الصين لجمع البيانات حول الجثث. تحاول داشا فهم سبب زيادة الانبعاثات الملحية بشكل كبير في المناطق الجنوبية، ويساعدها في ذلك شقيقها ماتفي الذي يبدو إنسانًا عاديًا فقد هدفه في الحياة.
يسعى الأخوان إلى جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول هذه الجثث، بالإضافة إلى التواصل مع السكان المحليين الذين أصبح الموتى جزءًا من حياتهم اليومية منذ فترة طويلة. ويتم تقديم معظم المعلومات حول العالم في شكل قصاصات من الصحف وأجزاء من المقالات والدراسات العلمية. على سبيل المثال يتم وصف رد الفعل الأول لظهور الجثث من خلال كتاب "فلكلور الكوارث". وعدا عن ذلك، يتم حذف اللحظات الحساسة بشكل خاص في النصوص واستبدالها.
ومن خلال عالم الرواية البديل، لا يشكل ظهور الجثث الحدث المهم الوحيد في هذه النسخة من روسيا، فقد شهدت كوبا حربًا أهلية، وتجري الصين توسعًا "سلميًا" في أراضي جارتها. لكن السلطات تركز بشكل أساسي على مكافحة أولئك الذين يجرون أبحاثًا غير رسمية حول الجثث الملحية.
الحياة مع الموتى، والحزن النازح، والتطرف الديني، وخيال الطفولة
من المذهل كيف أنه بإمكان تغيير واحد فقط في العالم أن يؤدي إلى بنية اجتماعية جديدة. ظهور هذه التماثيل في الشوارع لبعت أدوارًا كثيرة، فقد رأينا تأثير هذه الظاهرة على الأطفال، إذ أدى تفكير الأطفال البسيط إلى تقديم تفسيرات كثيرة ساذجة ونسج قصص مرعبة وأساطير ذات جذور بعيدة، ذلك أن الأطفال مرغمين على التعايش مع وجودها في الشارع يوميًا، وعلى العكس من الكبار، يقدّم الأطفال سلسلة من محاولات التأقلم والتفسيرات.
أما بالنسبة إلى عالم الكبار، تُظهر الرواية كيف تصبح هذه الجثث رمزًا للاختلال الاجتماعي والسياسي، حيث تتعايش الشخصيات مع هذه الظاهرة كواقع محتوم، ما يعكس عجز النظام عن حل الأزمات أو إزالتها بشكل فعلي. ومع الوقت، يؤدي الاعتياد على وجودها إلى حالة من الخدر النفسي، إذ تتوقف الشخصيات عن السؤال عن أسباب المشكلة أو حلولها، ما يشير إلى فكرة أن التعايش مع الأزمات يمكن أن يُرسخ حالة من الاستسلام الجماعي.
وبذلك، لا تعكس الرواية مجرد خيال ديستوبي، بل تقدم نقدًا اجتماعيًا حادًا لكيفية تعايش المجتمع مع الأزمات التي تفقد بمرور الوقت قدرتها على الصدمة، وتتجذر في الحياة اليومية دون أي أمل في التغيير الفعلي. هذا المزيج بين الرمزية والواقع يمنح الرواية بعدًا فلسفيًا عميقًا، إذ تدفع القارئ إلى التفكير في كيفية مواجهة الأزمات المزمنة في حياته اليومية، سواء أكانت شخصية أم جماعية.
هناك جانب آخر من التأثيرات الاجتماعية عبّر عنه الكاتب من خلال مصطلح "متلازمة الحزن النازح" الذي استخدمه بكثرة في الرواية، ويشير إلى الحالة التي يعتقد فيها الشخص بأن التمثال الملحي هو طفل متوفى يعرفه نتيجة لازدواجية معنى كلمة الجثث التي قد تشير إلى شيء جامد أو شيء تحول من الحياة إلى الموت، سواء كان هذا الطفل ابن أو صديق في الطفولة.
وغالبًا ما يكون مرتبطًا بشعور عميق بالذنب. فالأطفال الموتى في الرواية، باستثناء بعض الحالات النادرة، يمثلون الذنب الشخصي أو الجماعي. موتهم يعني أن البالغين: لم يتمكنوا من حمايتهم، لم يتوقعوا ما قد يحدث، لم يهتموا كفاية، تقاعسوا عن التحرك، لم ينقذوهم، لم يجدوا الدواء في الوقت المناسب، أو حتى لم يرسلوا ما يكفي من الأموال من ميزانية الدولة إلى المؤسسات الخيرية.
كتب الصحفي أرتيوم روغانوف في نقده للرواية: "الملح الذي يحيط بكل شيء في الرواية يشير إلى قصة المرأة العاصية التي تحولت إلى عمود من الملح في العهد القديم، وأيضًا بشكل رمزي إلى الدموع، وإلى الحزن الذي لا يمكن الفرار منه إذا سمحت لنفسك بالالتفات إلى الماضي. بتعبير آخر الجثث هي تذكير بالذنوب الشخصية، وأيضًا بطرد البشرية من الجنة إلى عالم يموت فيه الأطفال إذا لم يعتن البالغون بهم. ويتبين أن الموضوع الرئيسي للرواية هو استكشاف فني لكيفية تعامل الأشخاص المختلفين مع الشعور القوي والدائم بالذنب. البعض يغطي الجثة بأوشحة دافئة في الشتاء ويقرأ لها القصص قبل النوم، في محاولة للتكفير عن خطيئته. بينما يحاول البعض الآخر تدمير الجثة بأي ثمن، غير مهتمين بأن الانبعاثات الملحية قد تؤدي إلى كارثة عالمية، وربما إلى نهاية العالم".
ويتناول ألكسي في هذه الرواية فكرة سبق أن اشتغل عليها في روايته "الشُعب المرجانية"، وهي فكرة التطرف الديني والجماعات في العالم المعاصر، لكن بطريقة مختلفة؛ إذ تكون واحدة من تداعيات ظهور الجثث الملحية تكوين ديانة سرية غريبة.
تظهر هذه الديانة وتنتشر على يد حداد يتحول فيما بعد إلى قديس في نظر أتباعه، الذين يؤمنون بأنه إذا تم دق مسمار خاص في رأس الجثة، فإن الحزن والشعور بالذنب سيختفيان. لكن هذه الممارسات تنقلب عليهم، إذ إن بعضهم لم يشعر بالراحة رغم ذلك، واستمر في دق المسامير في رأس الجثث جثةً بعد أخرى. بينما توحد آخرون مع الفكرة، وقادهم الشعور بقدسية ما يفعلونه إلى الانعتاق بالفعل واختفاء الحزن من حياتهم.
هذا الجزء هو امتداد للرواية الأولى عن الطوائف والمعتقدات، لكنه في هذه الرواية يشرح ظاهرة البداية ويتساءل عما قد يدفع الناس إلى خلق ديانة وممارسات جديدة تمامًا؟ ويجيب بنفسه بقوله إن العجز عن إيجاد التفسيرات هو ما يدفع الناس إلى الاستعداد لتقديم إيمان أعمى في مقابل بعض الإجابات، أو ربما هي مجرد محاولة لتسكين الآلام أو البحث عن غفران، عمن يخبرهم بأنهم فعلوا المطلوب منهم ويمكنهم الآن العيش بسلام.
"الجثث" رواية رمزية فلسفية خيالية مع لمسة صوفية وبعض الغموض. يمكننا قراءتها كدستوبيا تتحدث عن عالمنا المستقبلي، أو رواية رمزية عن عجز الإنسان وسط مجتمعه، أو فلسفية عن الحزن والبحث عن الإجابات، أو مجرد رواية خفيفة لمغامرة بين التماثيل الغامضة.
في أحد المواقع الخاصة بتقييمات الرواية، وجدت تعليقان من قارئين مختلفين، أولهما رأى أن الرواية ما هي إلا نقد حاد وواضح لسياسات الدولة الروسية الحالية لناحية تهميش لبعض القضايا وتحجيم البحث العلمي، ما يعني أنها صورة أو نبوءة لما ستصبح عليه روسيا إذا استمرت في سياساتها الحالية. أما القارئ الثاني، فإن رأيه يعبّر عن رواية أخرى مختلفة تمامًا، إذ رأى أنها رواية إنسانية تتحدث عن الحزن، وأن والكاتب لا ينتقد أي شيء على وجه الخصوص، فهو يتحدث فقط عن المجتمعات الحديثة التي تهمش فكرة مشاركة الحزن والمشكلات، وعن كيفية التعامل مع الصدمات أو التعايش معها.
كل الاحتمالات واردة. وبإمكاني القول هنا إن القارئ، وليس الكاتب، هو المتحكم الوحيد في قصتها واتجاهاتها. هناك الكثير من الروايات التي يلعب فيها الكاتب دور الموجه، فيخبرنا على سبيل المثال عن التاريخ والمكان، ويوجهنا إلى الحرب، ويقول بشكل واضح "انتبهوا إلى مضار كذا! انظروا ماذا تفعل بنا الحرب أو الحكومة أو حتى السجائر"، بمعنى أننا ندخل الرواية ونحن نعرف ماذا يريد منا أن نراه، وهذا الأمر غير موجود في رواية "الجثث".
ألكسي بوليارينوف كاتب ومترجم يُعتبر من أبرز الأصوات الأدبية الشابة في روسيا اليوم. وُلد في عام 1986 وقضى طفولته في مناطق مختلفة من روسيا، الأمر الذي أثر على تجربته الإبداعية وأسلوبه الأدبي. اشتُهِرَ بعد نشره مجموعة من الروايات والقصص التي تمزج بين الواقعية والمفاهيم الفلسفية والرمزية.
بدأ بوليارينوف بكتابة روايات تحمل أفكارًا مميزة، لكنها تخفي الكثير من الأفكار المعقدة. ففي روايته الأولى "مركز الجاذبية"، لا نقفز إلى المستقبل مثل كل روايات اليوتوبيا المعتادة، بل نكون على مشارف التغيير الذي يقود إلى هذه اليوتوبيا، حيث يقوم بوصف التغييرات التي تدخلها الحكومات في نظام الحياة شيئًا فشيئًا. أما أبطال الرواية، فهم مجموعة مختلفة من الناس: صحفي شاب، وفنان، وهكر، يعيشون في موسكو، ويحاولون مواجهة التحول إلى عالم جديد شجاع. لذا، يحمون عائلاتهم وأحبائهم وأوطانهم الذين هم مركز الجاذبية في عالمهم.
روايته الثانية "الشُعب المرجانية" سرد متعدد الطبقات يعكس التوتر بين التقاليد والحداثة، أو كما يصفها النقاد "حرب الأجيال". تتبع الرواية ثلاثة أبطال: "كيرا"، التي تعيش في مدينة شمالية مغلقة تعتمد على الصيد التقليدي وتواجه تحديات اجتماعية. و"لي"، الباحث في الولايات المتحدة. و"تانيا"، مخرجة أفلام وثائقية تعيش في موسكو.
وعلى الرغم من تباعد حياتهم، إلا أن قوى غامضة وتوجهات دينية متطرفة تتسرب إلى حياتهم، ما يجعلهم يواجهون أسئلة عن الشر المتأصل في المجتمعات والهوية.
تجمع الرواية بين الأسطورة والواقع وتعرض أشكال الطوائف الدينية الحديثة، وحازت على شهرة كبيرة خاصةً بعد وصولها إلى نهائية جائزة "nos"، وجائزة "الكتاب الكبير" في عامي 2019 - 2021، وقد فازت بالفعل بجائزة اختيار الجمهور عام 2019.
بوليارينوف أيضًا مترجم عمل على ترجمة عدة أعمال، أبرزها رواية "Infinite Jest" لديفيد فوستر والاس. يقيم حاليًا في تبليسي في جورجيا بعد مغادرته روسيا إثر الحرب في أوكرانيا.