البحث عن يمين

في البحث عن "يمين"

28 أغسطس 2024

كان العالم شابًا.. ويساريًا بالطبع. أما اليمين فقد كان رجعيًا وعفنًا وأنانيًا وضيق الأفق ومعاديًا لمسيرة التاريخ المتجهة حتمًا وأبدًا نحو اليسار، وبالتالي فهو لا يليق إلا بالعجائز. كان اليمين ببساطة شتيمة من نوع ما، ولكنها شتيمة ظلت معلقة في الهواء، إذ لم نجد من نصفعه بها، ذلك أننا كنا في بلاد لا يمين فيها، أو بالأدق: لا يمين فيها يجرؤ على القول إنه يمين!

للوهلة الأولى يبدو شخصي غير ملائم بالمرة ليكون نموذجًا عيانيًا في الحديث عن اليمين واليسار، أما الوهلة الثانية فتؤكد، خلاف ذلك، أنه ملائم تمامًا.

عندما غادرت قريتي إلى الجامعة، أواسط الثمانينات، كنت لا أعرف شيئًا عن اليسار واليمين إلا شذرات قرأتها في بعض الكتب، ولم أكن أعرف يومها أنها مسائل تعنيني في شيء. لم أكن أعرف أنني يساري أم يميني، والأهم أنني لم أكن أعرف أنه يتوجب علي أن أكون يساريًا أو يمينيًا. غير أنني صادفت الكثير من زملاء الدراسة الجامعية ممن بدوا أنهم يعرفون، ويعرفون كثيرًا، وكانوا، قبل لقائي بهم بسنين، قد أراقوا أطنانًا من الكلام في هذه المسألة التي أكدوا لي أنها خطيرة جدًا ومصيرية. ولقد أخبرني بعض هؤلاء أنني يساري طبعًا، وساقوا لي شواهد وأدلة لا تُدحض على ذلك. فأنا قارئ جيد للكتب، أي أنني عاقل وفهيم، وابن عائلة فلاحين فقيرة، ولا شك أنني مؤمن بالعدالة الاجتماعية وبحرية المرأة، وطامح بالتأكيد إلى الثورة على التقاليد البالية والعادات السيئة الموروثة.. "فماذا تكون إذن بربك؟ يميني؟!". هكذا حسموا الأمر بالنسبة لي.

اكتشاف أني يساري بالفطرة، بالولادة، لم يشكل أي فارق في حياتي. لم يزدني شيئًا ولم ينقص مني شيئًا. ولأنني تكاسلت عن الدخول في أي حزب، وانسحبت ضجرًا من أول جلسة تثقيف عقائدي أعدت من أجلي، فقد صرت أشبه بمسلم لا يصلي ولا يصوم، مسيحي لم يزر أي كنيسة البتة. 

ومع ذلك فقد ظلت بداهة أن يكون المرء يساريًا. الشخص الطبيعي الذي يتوفر على الحد الأدنى من العقل والضمير لا بد أن ينتمي إلى اليسار ويعادي، بملء جوارحه، اليمين.. كل يمين. ولكم راعني أن أشاهد في برنامج على تلفزيون بلد عربي شقيق، رجلًا وقورًا وأنيقًا، يقول بملء فمه أنه يميني، كان يمينيًا وسوف يبقى. إذ كيف لرجل أن يعترف بأنه رجعي ومتخلف ومعاد للشعب؟!

لم تسر حياتي في ظل الانتماء المكتشف حديثًا على ما يرام، إذ سرعان ما اكتشف أصدقائي اليساريون في سيرتي ما جعلهم يرتابون بي، فقد جئتهم مشبعًا بقراءات غير مناسبة: طه حسين، توفيق الحكيم، عباس محمود العقاد، نجيب محفوظ.

ولقد شرح لي "مُنظّر الشلة" المشكلة على النحو التالي: "هؤلاء كتاب ليبراليون، عاشوا التجربة الناصرية وحاولوا مجاراتها، ولكنهم في العمق ظلوا أوفياء للعصر الليبرالي السابق على ثورة يوليو.. والمصيبة أن كثيرًا من أفكارهم الليبرالية قد تسرب إليك دون أن تدري، إلى رؤيتك للمجتمع والتاريخ والعالم"!

وعلى عكس ما أراد صاحبي، فقد كان وقع "الليبرالية" على مسمعي سحريًا، وهكذا صار ذلك العصر الليبرالي المذكور محور بحثي الدؤوب، مقصدي السري الحميم، وبشيء من القناعة وبكثير من المناكفة، قررت أن أجازف: فإذا كان أحبائي هؤلاء ليبراليين فأنا كذلك وليكن ما يكون.

ولكن القناعة والمناكفة كانت بحاجة إلى بعض الشجاعة وهو ما كنت أفتقده حينها، فأبقيت الأمر بيني وبين نفسي، إلى أن جاء إلينا مخرج مصري بصحبة فيلمه (أظن إذا لم تخني الذاكرة أن المخرج كان رأفت الميهي والفيلم هو "سمك لبن تمر هندي"). وفي الندوة التي عقدت بعد الفيلم سُئل المخرج عن انتمائه السياسي فقال أنه بلا انتماء محدد، ولكن "إذا أصررتم فأنا ليبرالي أجنح نحو اليسار". ياااه.. يا للجواب ويا للحل الذي قدمه لي. "أنا مثله إذن"، هكذا قلت لأصدقائي، "ليبرالي أجنح نحو اليسار"، مشددًا على "أجنح نحو اليسار"، ومطمئنًا إياهم بأن أخلاقي وتربيتي المنزلية لا تسمح لي أن أنحدر لأن أغدو يمينيًا لا قدر الله. 

ما هي إلا سنوات حتى تشقلب العالم رأسًا على عقب. انهارت أيديولوجيا كبيرة وإمبراطوية عظمى ودول وأنظمة، وتحطمت شعارات وتبخر كلام كثير كثير. صفعتنا الأحداث وعلمتنا، وكذلك علمتنا الكتب التي ظلت المناجم الأغنى للاقتراحات المثمرة والاكتشافات المنورة والصفعات المحفزة.

قرأت في كتاب لفؤاد زكريا، المفكر المصري المعروف، مقالًا بعنوان "اليمين واليسار في الفلسفة"، فيه مقارنة بين الفلسفة اليمينية التقليدية والفلسفة اليسارية، والمقال أعمق من أن يكون هجاء لهذه أو تقريظًا لتلك، وهو على كل حال يصل إلى نتيجة متشائمة مفادها أن المذهبين ـ التيارين كليهما سيقودان الفلسفة إلى طريق مسدود. ومع ذلك فثمة هنا تعداد أمين لميزات كل منهما، فيلحظ الكاتب أن الفلسفة اليسارية تشارك، وفق فهم أصحابها على الأقل، في "صنع التاريخ وفي تغيير أحوال المجتمع، أي أنها تنتقل من حالة التفكير النظري البحت إلى حالة التطبيق العملي الفعلي، وتضع لنفسها أهدافًا تسعى إلى تحقيقها بالفعل، ولا تكتفي بتأملها من بعيد فحسب". غير أنه بالمقابل يقول كلامًا ينطوي على إعجاب واضح بالفلسفة اليمينية التي استطاعت "أن تبني لنفسها تراثًا ضخمًا يرجع إلى أكثرمن ألفي عام، وظل هذا التراث يتراكم ويزداد تشعبًا وتنوعًا على الدوام. وخلال هذا التاريخ الطويل كان الفكر الفلسفي التقليدي يزداد دقة وعمقًا بالتدريج، حتى أصبح له أسلوبه الشديد التعقيد، ومصطلحه العظيم الدقة، وتميز بقدرة فائقة على التجريد والتحليل العميق".

وأيضًا فهمت من ويل ديورانت (دروس من التاريخ) أنه إذا كانت سمة اليمين هي المحافظة وسمة اليسار هي التغيير، فإن كليهما ضروريان لحياة البشر. إنهما قدما التاريخ الإنساني، فإن خسر إحداهما صار أعرج ومشوهًا.. نحتاج اليسار كي ينبهنا إلى ضرورة إعادة النظر بمسلماتنا وتقاليدنا البالية وأعرافنا التي لم تعد صالحة لعصرنا، كي يطرح أفكارًا مختلفة ويحقق إنجازات جديدة. ونحتاج اليمين لمعاندته التغيير والتجديد مشكلًا بذلك مختبرًا للأفكار وغربالًا لها، حاجزًا يسقط الكثير من الاقتراحات الهشة والعابرة دون أن يقوى في النهاية على إسقاط تلك الاقتراحات الأكثر وجاهة وإقناعًا. ونحتاجه كذلك ليوقف التغيير بعد أن يكون قد حقق أهدافه، فيساعدنا على هضم المتغيرات المستجدة وعلى تحويل الإنجازات إلى مؤسسات وقوانين وتقاليد تساهم في استقرار نسبي لمجتمعاتنا. لو كان العالم يمينًا فحسب لما عرف إلا الجمود والمراوحة في المكان، ولو كان يسارًا فقط فسيعيش في ظل دوامة من التغيير الدائم المدوخ بلا هدف ولا بوصلة ولا استقرار.

أما جورج طرابيشي فقد أوضح لي، (كتاب في ثقافة الديمقراطية)، أن مقولة اليمين واليسار رغم أنها "بالأساس مقولة صراعية، إلا أن الديمقراطية تقدم لهذا الصراع إطارًا أكثر سلمية وأكثر اعتدالًا بكثير من من ذاك الذي يتلبسه في ظل الأنظمة اللا ديمقراطية". اليمين واليسار إذن هما عكازتا الديمقراطية، "وطردًا مع استقرار الديمقراطية، تنزع مقولة اليمين واليسار إلى أن تتجرد من طابعها الأيديولوجي لتأخذ شكل اختلاف في طريقة العمل وفي البرامج المقترحة لحل مشكلات المجتمع... وحتى إذا انصب الخلاف بين اليمين واليسار على المبادئ والقيم، فإنه لا يأخذ شكل نفي متبادل، بل يقتصر على اختلاف وتفاوت في درجة التركيز والتشديد. فاليميني يبدو أشد تمسكًا بقيمة الحرية، بينما اليساري بدون أن ينفي قيمة هذه الأخيرة، يبدو أشد تعلقًا بمبدأ المساواة".

كم صارت بعيدة تلك الأيام التي كان فيها اليمين شتيمة أخافها، وتهمة يصعقني أن أجد من يعترف بها!

ولقد مرت لحظة شاطرت فيها بعض أبناء جيلي في الاعتقاد أن غياب اليمين (غير الديني) عن حياتنا كان واحدًا من أسباب مشكلاتنا الراهنة، وأننا كنا بحاجة إلى يمين يجاهر بأنه يمين، يجادله اليساريون ويجادلهم، يحفزونه ويحفزهم.

غير أنها كانت لحظة عابرة، إذ سرعان ما تنبهنا إلى سذاجتنا، فلم تكن المشكلة الكبرى في غياب اليمين وتفرد اليسار، أو كما كان يحلو للبعض أن يقولوا بأن "اليسار كان هشًّا وعلى السطح، فيما كان اليمين في العمق، متغلغلًا في ثنايا المجتمع وممسكًا بمفاصله".

المشكلة أكبر من ذلك وأعمق، وهي أننا نعيش في مجتمعات بلا سياسة، دون مستوى السياسة، تحت خط السياسة. حكام ورعايا، والحكام لا يعنيهم اليسار واليمين، كما أن الرعايا لا يهمهم إن كانوا يساريين أم يمينيين.. وإلى أن ندخل في "حظيرة" السياسة سيبقى السؤال عن اليمين واليسار مثل سؤالنا إن كان سكان المريخ إناثًا أم ذكورًا.

في ظل السياسة ربما نجد يمينًا عاقلًا ومعتدلًا ويسارًا أكثر كفاءة. وربما تتجسد على أرض الواقع مفردات اليسار واليمين والوسط وتفرعاتها واشتقاقاتها والخلطات بينها. 

وبالنسبة لي، من يدري، ربما يأتي يوم يغدو فيه انتماء حقيقيًا ذاك الادعاء المراهق الذي أطلقته أمام أصدقائي القدامى: "ليبرالي أجنح نحو اليسار"!

الكلمات المفتاحية