"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية". ربما يكون هذا الشعار الأبرز والأكثر حضورًا في وسط القاهرة أيام ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، التي أُجهضت وأُفرغت من مضمونها في السنوات التالية في خضم الصراع بين المؤسسة العسكرية وجماعة "الإخوان المسلمين"، الذي دفعت المنطقة نفسها، أو وسط البلد كما تعرف بين المصريين، ثمنه بخضوعها لتغيرات وفق منطق استهلاكي بحت يفرّغها من أي مضامين سياسية أو احتجاجية كونها كانت يومًا قبلةً للمتمردين. فما الذي جرى في تلك المنطقة السحرية؟
تمر منطقة وسط البلد بمرحلة تحول عميقة، لا على مستوى طلاء البنايات التي تعود إلى الحقبة الخديوية/الملكية فقط، بل حتى على صعيد روح المكان ووظيفته اللتين مسّتهما هذه التحولات. فهذا الحيز الذي شهد أيام الثورة المصرية في موجاتها المتتالية، انتهاءً بـ30 حزيران/يونيو 2013، بدا وكأنه يخضع لإعادة تصور من قبل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي (تولى الحكم في حزيران/يونيو 2014)، لتفريغه من أي حمولة سياسية أو روح تمرد، بل وإغراقه في أجواء استهلاكية ترفيهية بحتة تكرس فوارق طبقية لا تعترف بالعدالة الاجتماعية (أحد شعارات الثورة المصرية الرئيسية).
إن إعادة تنظيم المدن عقب الثورات والانتفاضات وحركة المواطنين المتمردين ليست جديدة بحسب المنظر الاجتماعي والجغرافي ديفيد هارفي، الذي ضرب في كتابه "مدن متمردة" من الشوارع التي شقّها أوسمان في باريس، منتصف القرن التاسع عشر، مثالًا على ذلك، إذ اعتُبرت تلك الشوارع: "حتى في وقت تنفيذها وسيلة للسيطرة العسكرية على المواطنين المتمردين".
أما في حالتنا، فإن إعادة تنظيم القاهرة الكبرى لا تقتصر على شق الطرق والكباري فقط (وما أكثرها في يومنا هذا!) بل تشمل إعادة هيكلة المدينة وظيفيًا وأمنيًا لتخضع لتصورات طبقة رأسمالية متحالفة مع الطبقة العسكرية الحاكمة، بهدف طرح الطبقة الوسطى "المتمردة" جانبًا وحذف حضورها من فضاء المدينة بوصفها طبقة تنتج "المتمردين" الذين يحملون بذور الثورة. أي استخدام أنماط من الحضرنة بهدف تركيز المال والسلطة في جانب مجموعة وشرائح بعينها على حساب أغلبية الشعب المصري، وهو أمر واضح في منطقة وسط البلد القريبة من ميدان التحرير، رمز الثورة سابقًا. إذ إن الشوارع، بعد توسعتها، لم تعد متاحة للمشي على الأقدام ولا عبورها لكونها مصممة لمصادرة حق المواطنين في المدينة وحصر حركتهم في استخدام السيارة، ما أنتج مصطلح "المواطن السيارة".
الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه قال صراحةً، في إحدى خطبه للشعب المصري، في أيلول/سبتمبر عام 2016، إن الجيش المصري لديه القدرة على الانتشار في جميع أنحاء القطر المصري في مدى لا يتجاوز 6 ساعات، مضيفًا: "ما حدش يفتكر إننا هنسبها أو نسمح إنها تضيع مننا ونضيع الناس معانا، وأنا مسؤول أمام الله والناس".
وربما يُفسر ما سبق الاهتمام المبالغ فيه بالطرق والكباري، التي تسارع الحكومة المصرية لإنشائها بكثرة مفرطة في القاهرة وغيرها من المحافظات، من الناحية الأمنية، بوصفه وسيلة لتمكين الجيش من الانتشار في 6 ساعات لحماية الدولة. لكن السؤال هنا: الحماية مِن مَن؟ تبدو الإجابة جلية في خطابات السيسي المتكررة التي يصب فيها جام غضبه على ثورة يناير وما ألحقته من خراب بمصر، على حد زعمه.
إذن، ثمة رغبة ملحة لدى النظام المصري في السيطرة على الشارع لمنع تكرار ما حدث في يناير عام 2011، حتى لو وصل الأمر إلى حذف قدرة الناس على المشي في الشوارع. فما هي انعكاسات هذه الرغبة على منطقة مثل وسط البلد، التي تعد تاريخيًا نقطة التجمع الأبرز لأي نشاط ضد السلطة؟
في الحقيقة، جرّب النظام المصري العديد من الأدوات لتجريد المنطقة (تضم ميدان التحرير غربًا مرورًا بشارع طلعت حرب والشوارع المتفرعة منه، وصولًا إلى شارع 26 يوليو [شارع فؤاد سابقًا] شرقًا) من مضامينها السياسية، وخلص إلى إعادة هندسة الدور الوظيفي لها بحيث يطغى عليها الطابع الاستهلاكي الترفيهي لضمان استجلاب جمهور مختلف عن الجمهور التقليدي "المسيّس"، ابن الطبقة الوسطى الذي عرفته وسط البلد لعقود طويلة.
البداية تجلت مع طمس معالم الثورة، وإزاحة كل معالمها بإزالة كل الجرافيتي المصاحب لأيام يناير، خصوصًا في شارع محمد محمود الذي شهد مواجهات قاسية بين فصيل من الثوار وقوات الشرطة. كما أُزيل مبنى الحزب الوطني الحاكم سابقًا الذي كان يقبع على طرف الميدان الشمالي الغربي، والذي أُحرق في أحداث الثورة الافتتاحية (28 كانون الثاني/يناير)، ذلك أن وجوده محترقًا يذكر الشعب، أكثر مما ينبغي، بقدرته على هدم مركز صنع القرار في السلطة الحاكمة.
ثم جاءت الخطوة التالية بإعادة تخطيط الميدان ليتناسب مع رؤية السلطة الجديدة التي استدعت الميراث المصري القديم كأداة لمناكفة تيار الإسلام السياسي، فتم نصب مسلّة مصرية وحولها أربعة كباش جُلبت من الأقصر، مع إضاءة الميدان بشكل جديد ضمن تطوير شامل انتهى بنقل المومياوات الملكية من المتحف المصري في التحرير إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط، في احتفالية حضرها رأس النظام.
وكان واضحًا للجميع مدى اهتمام السلطة بهذا الحفل الذي استُخدم فيه ميدان التحرير كساحة استعراض دشّن لتيار يعرف في مصر باسم "الكمايتة"، وهم من المهووسين بالحضارة المصرية القديمة بشكل يجعلها في حالة تضاد مختلق مع المكون العربي. لكن الأهم أنهم من أشد أنصار الرئيس السيسي إخلاصًا لدرجة تبرير ما لا يمكن تبريره من أخطاء الحكومة المباشرة.
لكن الأهم بعد تطوير ميدان التحرير ليحمل بصمة "الجمهورية الجديدة" هو حجبه عن الناس، حيث شُدِّدت القبضة الأمنية حول مداخله، بل إن "كافيه لابوار" بالميدان، التابع لشركة حلويات مصرية معروفة مملوكة لرجال الأعمال المصري صلاح دياب؛ وضع على مدخله بوابة أمنية للكشف عن المعادن بجوارها فرد من الشرطة المصرية، وذلك في مشهد يكرس الهاجس الأمني الذي يحيط ميدان التحرير الخاضع بالكامل للقبضة الأمنية للنظام، الذي لم يكتف بذلك بل سارع إلى تفريغ الأماكن ذات الرمزية في محيط الميدان، إذ من المقرر إخلاء البرلمان والمقار الحكومية مع انتقالها إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
وسيتم تحويل مبنى وزارة الداخلية بمنطقة لاظوغلي القريبة من ميدان التحرير، إلى: "مركز للابتكار وريادة الأعمال وجامعة فرنسية ومركز لفنون الاقتصاد الإبداعي، وعدد من الفنادق فئة ثلاث نجوم لخدمة طلاب الجامعة ورواد منطقة وسط البلد من السائحين الشباب"، بحسب ما أعلنته الحكومة المصرية ممثلةً في وزيرة التخطيط هالة السعيد، في نيسان/أبريل 2023. ويبدو هنا أن الحكومة المصرية تستهدف نوعية معينة من الشباب هم بطبيعة الحال أبناء الكمبوندات، الذين لا علاقة لهم ببقية الشعب المصري، ويعيشون في مستويات اجتماعية واقتصادية عالية تمكنهم من الالتحاق بالجامعة الفرنسية ذات المصاريف المرتفعة جدًا.
وتم الانتهاء أيضًا من إخلاء مثلث ماسبيرو، وهي منطقة سكنية تقع شمالي الميدان وكانت تعيش فيها بعض الفئات الأكثر فقرًا في القاهرة. وقد شكلت المنطقة هاجسًا أمنيًا أيام الثورة، فتم التخلص منها بإزالتها ونقل غالبية سكانها بعيدًا عن منطقة وسط البلد، ثم إقامة مجموعة من الأبراج السكنية القبيحة بينما يجري العمل على بناء مجموعة أخرى من الأبراج السكنية والإدارية، وهي حزمة من المباني تعيد هندسة تلك المنطقة لتصبح سكنًا للأغنياء مع توفير فضاءات للأنشطة الاستهلاكية، أي استنساخ بائس لفكرة "داون تاون" مدينة نيويورك.
لذا، لم يكن غريبًا أن تتحول وسط البلد إلى مركز استهلاكي بامتياز، وساحة مفتوحة لتناول الطعام والمشروبات الساخنة في "الكافيهات" غربية الطراز، وليس المقاهي الشعبية التي ميزت المنطقة، فما نحن أمامه هو بداية تحول وسط البلد ونشاطها التجاري من فضاء أو حيز لبيع الملابس والأحذية بشكل أساسي، ومساحات متناثرة لممارسة أنشطة ثقافية في مرتبة تالية، وهي كلها أنشطة تخدم أبناء الطبقة الوسطى، أو حاملي ثقافتها؛ إلى فضاء استهلاكي بالأساس يقدم مساحات للتنزه بين محلات لبيع الوجبات السريعة والكافيهات الغربية، ويوفر سلعًا معينة للطبقات الأعلى دخلًا.
إذن، لن تكون الغاية من التوجه إلى وسط البلد، بعد اليوم، شراء الملابس كما اعتادت الأجيال السابقة وإنما الاستهلاك، ذلك أن المكان سيتحول إلى مول مفتوح بحجم القلب التجاري للمدينة (أي بشكل أفقي) يقدّم لروّاده الجدد الطعام السريع بمختلف أشكاله، وذلك بالإضافة إلى حضور الكافيهات الحديثة التي تُلقي بالمقهى التقليدي إلى الهامش.
والملاحظ أن الصعوبة التي كان يجدها المرء بحثًا عن مطاعم في منطقة وسط البلد لم تعد موجودة لأنها تتكاثر الآن بسرعة، فهناك مطاعم مصرية وأخرى سورية ولبنانية، ناهيك عن سلاسل وجبات الطعام السريع والكافيهات العالمية. وهذا التحول يحصل بصورة ستجعلنا نرى منطقة وسط البلد بشكل آخر، وستخدم شرائح عمرية وطبقية مختلفة عن رواد وسط البلد التقليديين، أي باعتبارها رمزًا للرأسمالية الاستهلاكية.
تبدو السلطة هنا حاضرة وتستثمر في هذا التحول. ومع أنها لا تصنعه وحدها، لكنها تستثمر فيه بكثافة، فهو يمضي في تصور يفضي إلى تفريغ منطقة وسط البلد من أي رمزية سياسية، وتحويلها إلى منطقة كرنفالية احتفالية وليس فضاءً سياسيًا يحتفي بالسياسة، بعد تفريغ المنطقة من رمزيتها السيادية بالمضي في نقل مرافق الدولة منها إلى العاصمة الإدارية، فضلًا عن تحويل الأيقونة الحكومية، مبنى مجمع التحرير، إلى رمز المرحلة الجديدة كفندق ومول تجاري، أي كرمز للاستهلاكية المنتصرة التي تكتسح كل شيء في المنطقة؛ إلى نموذج مصغر شديد الرمزية لما يحدث في مصر كلها.
إذن، تشهد وسط البلد تحولات تاريخية وفارقة في شكلها وطبيعة وظيفتها، فضلًا عن دورها في إعادة تخيل النظام الحاكم لوظيفة هذه المنطقة في إطار رؤيته الأكبر والأوسع لفضاءات المدينة ذاتها، بالتوازي مع تحول اجتماعي حقيقي في الذهنيات غاطس في الاستهلاكية والبهرجة عند شرائح من الطبقات الأعلى دخلًا في مصر، والمشبعة بالثقافة الغربية ونمط الاستهلاك الأميركي.
وهذا، بلا شك، الدافع الأساسي وراء كل هذه التحولات الكبيرة التي تُلقي بتاريخ منطقة وسط البلد، السياسي والنضالي والثقافي، في الخلفية الباهتة بهدف إبقاء الصورة المبهرجة للمباني العائدة للعصر الملكي بطرازها الأوروبي وسط سيل من الاستهلاكية على النمط الأميركي.
هنا يجد بعض المصريين تعريفهم لذاتهم المعولمة والمعزولة عن التربة المصرية في الوقت ذاته، ما يكرّس حالة الاغتراب التي يستثمر فيها النظام السياسي لتثبيت حكمه على شرائح مجتمعية لا منتمية، ولا تحمل همًا لمشاكل وطنها!
وهنا تبدو شعارات الثورة المصرية "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" غريبة هي الأخرى، فوسط البلد في نسختها الجديدة مصممة بشكل حصري لمن يملك القدرة على الدفع، أي أنها باتت ساحة جديدة للفصل الطبقي. وهنا أيضًا، في وسط البلد، لا بد أن يبدأ النضال من جديد دفاعًا عن الحق في المدينة ومنع مصادرة السلطة لكل إمكانات التغيير في الشارع المصري.
نختم هنا بكلمات ديفيد هارفي التي تصلح لكي تكون بداية عمل لمواجهة محاولات السلطة المتحالفة مع الرأسمالية العالمية وتجليها الاستهلاكي دفاعًا عن وسط البلد، إذ يقول: "يجب ألا يفسر الحق في المدينة باعتباره حقًا فيما هو قائم بالفعل، بل كحق في إعادة بناء وإعادة خلق المدينة ككيان سياسي اشتراكي بصورة مختلفة تمامًا، صورة تقضي على الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، صورة تشفي جراح التدهور البيئي الكارثي، ولكي يحدث ذلك، يتعين وقف إنتاج أنماط الحضرنة المدمرة التي تسهل التراكم الأبدي لرأس المال".