محطة تلفزيونية تقدم على قناتها في "يوتيوب" فيديو تحت هذا العنوان المثير "هل يعقد ترامب صفقة كبرى سريعة مع بوتين.. خبير استراتيجي يفجر مفاجأة". والمفاجأة التي يفجرها الخبير هي، ببساطة، أنه لا يعرف إذا كان هناك مثل هذه الصفقة فعلًا، وأنه من المبكر حسم رأي واضح في شأن ذلك!
ويبدو أن الخبير موثوق للغاية من قِبل المذيع والمحطة، ومحط يقين من قبلهم أنه الرجل الذي يعرف كل شيء، وهكذا كانت مفاجأة كبيرة لهم أن يقول: لا أعرف، ولقد أرادوا أن يشركونا، نحن جمهورهم، بهذا الأمر العجيب.
موقع إلكتروني لجريدة عربية يضع هذا العنوان: "العثور على كنز كبير من الثروات الباطنية في هذه الدولة".. وطبعًا هذه الدولة لها اسم، واسمها ليس كلمة بذيئة لا سمح لها، وذكره ليس ممنوعًا وفق أي قانون للنشر في العالم. وكل ما هنالك أن الجريدة أرادت لنا أن نشحذ حدسنا، ونبادر إلى التوقع، ونُفعّل معلوماتنا الجغرافية القديمة. وانسجامًا مع هدف الجريدة، فلن أقول لكم اسم الدولة.. توقعوه بأنفسكم، أو اقرأوا الموضوع في الجريدة وهي تخبركم إذا رغبت.
جريدة عربية أخرى أدمنت وضع عنوان واحد، مع تنويعات بسيطة عليه. يقول العنوان: "عالم الزلازل الهولندي يضرب مجددًا: زلزال كبير في هذا التوقيت وفي هذا المكان". وظلت الجريدة تكرر العنوان مع تنويعاته لأكثر من سنتين وبشكل شبه يومي، حتى وقع في ظن الكثيرين منا أن هذا العالِم هو مصدر الزلازل وسببها الأوحد، وأنه لا سبيل للخلاص من هذا الكابوس إلا بالخلاص من الرجل نفسه. ولأن الأمر هنا لا يتعلق بصفقة ولا بكنز مدفون، بل بزلزال ضخم، فإن معظمنا سيبادر إلى نقر الزر المطلوب والدخول إلى موضوع العنوان، لنجد أن العالم الجليل قد فرش أمامنا عدة المُنجّم متحدثًا بلغة الطلاسم عن اصطفافات نجوم وترتيب كواكب، مستنتجًا وجود فرصة كبيرة لحدوث زلزال بين يومي 15 و25 أيلول/سبتمر، مع فرصة أقل بين 10 و30 تشرين الأول/أكتوبر. وإذا لم يحدث، فبين أول وآخر الشهر الذي يليه، أما المكان فلا يأتي على ذكره، ما يعني أنه ربما يكون البيرو أو ماليزيا على قدم المساواة. باختصار: العالم يتوقع زلزالًا ما في أي توقيت وفي أي مكان.. ما يمنح مصداقية أكيدة له وللجريدة التي تواظب على تبني نبوءاته!
وأخبار الفن أيضًا: "فنانة تصفع صحفيًا في مطعم.. من هي؟"، "ممثل مشهور يفاجئ جمهوره: في هذا اليوم سوف اعتزل.. من هو؟"، "لهذا السبب انسحبت الفنانة فلانة من التصوير"، "مخرج مشهور يقول رأياً صادما بهذا الفنان الكبير"..
عناوين بسلاسل لا تنتهي من المجاهيل: من هو، من هي، لهذا السبب، هذا الفنان... ولن نعرف الأجوبة إلا بعد تورطنا في القراءة، لنكتشف أننا لم نعرف شيئًا عن أي شيء، فما إن ننقر الزر إياه الذي يدخلنا في متن الموضوع حتى نكتشف أن الفنانة، التي بالكاد سمعنا باسمها قبل اليوم، كادت.. كادت (وربنا ستر) أن تصفع شخصًا ظنته صحفيًا ولم تفعل إذ اتضح أنه عامل في المطعم. وأن الممثل المشهور ليس مشهورًا بالمرة إذ انه لم يظهر إلا في عملين، أما يوم اعتزاله فهو "ذلك اليوم الذي أشعر فيه بأنني غير قادر على العطاء" بعد عمر طويل طبعًا. أما الرأي الصادم الذي قاله المخرج عن الفنان الكبير فهو: "هو حاجة هايلة وعظيمة ربنا يخليه لينا"!
ولا شك أن هذه الصحف لا ترغب بإخبارنا هذه الحقائق الهائلة بدءًا من العناوين. كما أن الجريدة إياها لاتستطيع تنبيهنا إلى أن عالم الزلازل لا يملك تحديد مكان وزمان الزلزال القادم، وما إذا كان هناك زلزال أصلا. والمحطة التلفزيونية ليس من مصلحتها إعلامنا في العنوان أن الخبير الاستراتيجي قال إنه لا يعرف شيئًا حول سؤال الحلقة الأساسي.. ولو فعلت ذلك لما سجلنا أنفسنا في قائمة الزوار والقراء التي تتباهى بها أمام قرائها ومشاهديها ومعلنيها.
ويقال إن هذا هو الإعلام الجديد، إنها "روح العصر" التي تقتضي التجديد والمواكبة وتفرض الإعلاء من صفات الإثارة والتشويق والجذب، وليس مهمًا إن كانت العناوين تعكس حقيقة موضوعاتها، ليس مهمًا إن كانت الموضوعات تجيب عن أسئلة العناوين، بل ليس مهمًا بالمرة إن كان ثمة صلة، أصلًا، بين الموضوعات وعناوينها.
إنه "أسلوب صحفي جديد ومتطور وعصري"، يقول رؤساء ومديرو التحرير. غير أننا نعرف، وهم يعرفون أننا نعرف، أن ذلك مجرد حيلة اقتضتها المنافسة الشرسة مع وسائل السوشيال ميديا ومنصات الإعلام الجديد. منافسة فرضت معايير وقيم صحفية مختلفة، أبرزها أن الأولوية هي لأعداد الزوار والقراء بأي طريقة وبأي ثمن، مع التضحية بالمصداقية والعمق والتأثير ووفاء القارئ/المشاهد النابع من الثقة.
ويذكر طلاب الصحافة كيف كان أساتذتهم يلحون عليهم، بطريقة وسواسية، أن تكون عناوينهم جذابة رشيقة ومشوقة، ولكنها أيضًا صادقة وتعكس مادة الموضوع ولا تخرج عنه ولا توحي بأكثر مما ينطوي عليه، أو تعد بما ليس فيه. كانوا ينبهون "تستطيع أن تخدع القارئ مرة بعنوان خلبي، ولكنك سوف تخسره إلى الأبد إذ لن يعود إلى شراء جريدتك".
وليت الأمر كان مقتصرًا على العناوين، وإلا لكان الكلام يدور حول موضوع تقني تفصيلي لا يعني الكثيرين، لكن الأمر تعدى ذلك إلى صياغة المواد الصحفية نفسها، فصارت كبسولات سهلة الهضم سريعة الذوبان، وسريعة النسيان كذلك. صارت أشبه بالـ"بوستات" التي يكتبها شاب ضجر في حسابه على الفيسبوك، مخاطبًا بها أصدقاء يعرف أنهم أكثر ضجرًا منه.
من المفهوم أن يكون هذا هو الحال في وسائل الميديا الجديدة، ولكن أن تحاول الصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية العريقة الركض في هذا المضمار، أن "تسوق في هذا السوق"، هو أشبه بذلك الرجل الكهل الذي خاف إذ رأى نفسه يمشي حثيثًا إلى طور الشيخوخة، فأراد إيقاف الزمن بل إعادته إلى الوراء، فلبس بنطال جنز مقطع وسترة هيبية، وأطال شعره وربطه في جديلة، ووضع حلقًا في إذنيه، ومشى متراقصًا يترنم بأغاني الراب، وراح ينافس المراهقين على مغازلة فتياتهم. والنتيجة مؤكدة: لن يحظى بإعجاب الشباب بل بسخريتهم، ولن يستطيع خطب ود واحدة بينهم، في الوقت الذي يكون قد خسر فيه هيبته ووقاره.
هناك ميل عند كثير من البشر إلى الخلط بين التجدد والمواكبة والانفتاح على المتغيرات من جهة، وبين تملق الجديد، كل جديد، ومداهنة المستقبل والتفريط بكل شيء في سبيل إرضائه من جهة أخرى.
وثمة مثال تاريخي بارز، فقد أشارت السريالية، منذ مئة عام، إلى المستقبل، بل إنها نطقت باسمه، وأعلنت، بين ما أعلنت، أن الرواية ستموت قريبًا، ذلك أن الجديد القادم والوشيك لن يكون قادرًا على تحمل "هذا الفن الثرثار والمترهل". وقد تحمس كثيرون لهذه النبوءة، وخافوا أن يعاكسوها فيخسروا احترام المستقبل، فتسابقوا إلى نعي الرواية بعد لعنها والسخرية منها. وها نحن ذا اليوم، فأين السريالية من الرواية التي بقيت حية وتزداد تألقًا وازدهارًا؟!
مواكبة الصحافة للمستجدات التكنولوجية أمر ضروري، ويقتضي طرح أدوات جانبًا واستحداث أدوات أخرى، التخلي عن أساليب عتيقة وتبني أساليب عرض وصياغة أكثر عصرية، لا أن تُضيّع شخصيتها، وتهدر هويتها التي بنيت عبر خبرات متراكمة من عقود وقرون، وتنسى دورها ووظيفتها والأهداف التي ولدت من أجلها.
الصحافة أداة معرفة أساسًا، وسيلة لإخبار الناس بالوقائع والأحداث الحاصلة في كل الميادين: السياسة، العلم، الأدب، الفن، الرياضة. ولذلك، يجب أن تبقى موظفة كفوءة عند رب عمل وحيد هو القارئ المهتم، الشغوف بالمعرفة، والذي يمتلك فضولًا دائمًا إزاء العالم ومجرياته. ولا بأس أن تقوم، إلى جانب ذلك، بتسلية القارئ والترفيه عنه. أما أن تنقلب الأولويات فتغدو الصحافة سيركًا دائمًا للإثارة الزائفة والصخب المفتعل وللمفاجآت التي لا تفاجئ أحدًا، فهذا يعني أننا نقف أمام أي شيء آخر إلا الصحافة.