هي حلقة من سلسلة سفك دماء الفلسطينيين لم تتوقف؛ جثث متناثرة هنا وهناك، جثث في كل شارع وعنف مروّع، سرقة، اغتصاب، تعذيب، تشويه، قتل، تصفيةُ أُسَرٍ بأكملها، سحق رؤوس الأطفال والرضع على الجدران، وبتر أعضاء الضحايا قبل قتلهم، حفرة كبيرة لكل الجثث المتعفنة، وجثث جماعية بلا قبور!
حدث كل ذلك دون محاسبة، وتحوّل إلى صدمة جماعية محفورة في الذاكرة الجمعية، وآلام مزدوجة متوارثة لا يمكن التعافي منها. هكذا يروي التاريخ الشفوي الفلسطيني مجزرة صبرا وشاتيلا على لسان من عاشوها، وقد وثقته المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت في كتاب "صبرا وشاتيلا.. أيلول 1982"، وهكذا يكون كل يوم في غزة منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عبارة عن صبرا وشاتيلا جديدة.
"كي لا ننسى" كان هذا هو الشعار الدائم أثناء إحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، الذي يرتبط بضرورة الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية جيلًا بعد جيل. لكن هذا العام، وبعد زيارتي المخيم، وجدت عيون الناس، التي لا تتوقف لحظة عن الحديث عن غزة، تطرح سؤال: "كيف ننسى ودمنا في غزة لا يزال يُسفك ويُستباح أمامنا على الشاشات؟".
72 ساعة من القتل المتواصل
تعود أحداث المجزرة إلى يوم 16 أيلول/سبتمبر 1982، حيث اتفقت قيادة ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية، الجناح العسكري لـ"حزب الكتائب اللبنانية"، والجيش الإسرائيلي بقيادة وزير الدفاع حينها آرييل شارون، على جلب مئات المقاتلين من ميليشيا القوات اللبنانية إلى بيروت الغربية. وما إن دخلوا إلى صبرا وشاتيلا حتى بدأوا عملية قتل وذبح ونهب واغتصاب استمرت لأكثر من 40 ساعة أُطلقت خلالها القنابل المضيئة في سماء المخيم لكي لا تتوقف المجزرة!
وبحسب "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، قُتل خلال 72 ساعة فقط 3500 فلسطيني ولبناني، إذ تواصلت عمليات القتل من الساعة السادسة مع غروب شمس يوم الخميس في 16 أيلول/سبتمبر، وحتى الساعة الواحدة ظهرًا من يوم السبت 18 أيلول/سبتمبر. وقامت الجرافات، خلال الأيام الثلاثة للمجزرة، بإخفاء المئات من جثثهم تحت الركام، أو دفنهم في مقابر جماعية.
لماذا شاتيلا؟ لذلك غزة..
بالعودة إلى الأحداث التاريخية التي طرأت على صيف لبنان عام 1982، فقد بدأت إسرائيل عملية اجتياح وهجوم واسع النطاق تحت عنوان "سلامة الجليل"، التي قالت إنها تهدف إلى القضاء على "منظمة التحرير الفلسطينية" وبنيتها في لبنان، وبالتالي إعادة تشكيل الواقع السياسي في المنطقة لصالح دولة الاحتلال.
وبعد التقدم العسكري السريع الذي أحرزه الجيش الإسرائيلي حينها، إذ وصل إلى مشارف العاصمة بيروت وفرض حصارًا على سكانها بدأ بقطع المياه والكهرباء عن المدينة، وسط قصف عنيف استمر أكثر من 80 يومًا؛ ارتأت المنظمة خروج قادتها ومقاتليها من بيروت بعد اتفاق مع المبعوث الأميركي ضَمِنَ فيه وقف إطلاق النار وتعهد بحماية المدنيين.
وبعد خروج المنظمة مباشرةً، وقعت المجزرة التي لم يكن هناك أي ذريعة لدى إسرائيل وأعوانها لارتكابها سوى الانتقام من الحاضنة الشعبية للمقاومة، والقضاء على إرادة الفلسطينيين وردعهم وتطويع وجودهم وقتل أكبر عدد ممكن منهم. وهو ما تؤكده طبيعة الجريمة من اقتحام منازل المدنيين العُزّل وقتلهم بأبشع الطُرق، ومن ثم التفشي بالضحايا حتى يكونوا عبرةً لكافة الفلسطينيين. وقد اعترف الإسرائيليون أنفسهم بأن الهدف من المجزرة الانتقام هو من الفلسطينيين وتهجيرهم أيضًا، حيث قال الصحافي الإسرائيلي آمنون كابلويك، الذي كان شاهدًا على ما حدث يومها، إن: "المجزرة ارتكبت عمدًا وكان الهدف من ورائها تهجير الفلسطينيين من بيروت ولبنان".
وهدف الأمس هو هدف اليوم أيضًا في قطاع غزة، حيث تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية ضد أهله ومقومات الحياة فيه، معتمدةً سياسة التصفية بهدف إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم من القطاع، حيث تعمد يوميًا إلى استهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات النازحين والأبنية، وقصف وقنص وتجويع والتنكيل بالفلسطينيين بسكانه بهدف التخلص من أكبر عدد منهم. وفي كلا الحالتين الجاني والضحية واحد. إذ إن سياسة إسرائيل الاستعمارية تتطلب، دائمًا، قتل كل ما هو فلسطيني والتخلص منه
ولعل أوضح أوجه التشابه بين الإبادتين يتمثل ببشاعة الجريمة وفظاعتها وخصوصية التغطية الإعلامية لكلا المذبحتين. فعلى الرغم من أن صبرا وشاتيلا لم تكن المجزرة الوحيدة بحق الفلسطينيين، لكنها حظيت خلال 24 ساعة بصدى بارز في الصحافة العالمية، وتداولتها قنوات التلفزة الأجنبية والمحلية وأدت إلى إدانة وغضب دولي واسع، حيث وصفتها الأمم المتحدة بأنها فعل من أفعال الإبادة الجماعية.
أما في غزة، فالتغطية الإعلامية مستمرة لمذبحة ما تزال مستمرة منذ قرابة العام لم تؤدِ هذه التغطية ولا الإدانات والشجب والاستنكار إلى وقفها حتى اللحظة. كما لم تثنِ المواقف الدولية والإقليمية إسرائيل عن وحشيتها في كلا الظرفين التاريخيين اللذين يتشابهان إلى حد كبير من حيث الصمت والتواطؤ العربي، والضوء الأخضر الغربي، وعجز مواثيق الأمم المتحدة عن ردع إسرائيل رغم إدانتها في محكمة العدل الدولية لأول مرة في تاريخها.
وبعد ما يقرب من عام على الإبادة، يتساءل الجميع: متى تتوقف إسرائيل عن سفك الدماء؟ لكن دولة الاحتلال لا تقدم ضمانات يمكن أن تؤدي إلى وقف المذبحة، وقد بررت حربها منذ اليوم الأول، ولا تزال تفعل ذلك، بقولها إن هدفها القضاء على "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية.
وهو ما يعيدنا إلى ما حدث في صبرا وشاتيلا بعدما خرجت منظمة التحرير من بيروت، إذ إنه رغم الضمانات التي أعطيت حينها لحماية أرواح المدنيين مقابل خروج المنظمة، إلا أن الفلسطينيين ذبحوا مباشرةً بعدها، ولم تنته سلسلة سفك الدماء رغم إعلان وقف إطلاق النار عدة مرات، ولم تُنه إسرائيل احتلالها الناجم عن حرب 1982 إلا بعد ثلاث سنوات عام 1985، حيث انسحبت من المناطق التي احتلتها حينها وظلت محتلة جنوب لبنان وأبقت على حزام أمني بمساعدة ميليشيات أنطوان لحد يغطي حوالي 8% من الأراضي اللبنانية.
كيف يعيش الناس في شاتيلا بعد 42 سنة على المجزرة؟
بينما يتأثر من يتابع المجازر من بعيد بصداها ويتذكرها كحدث سمع عنه وأفجعه، يبقى من عاشوا التجربة والحدث والمأساة متذكرين الجريمة بحذافيرها، باعتبارها سلسلة طويلة لدماء لم تجف وجريمة مستمرة وطويلة ضد شعب بعينه. إنّ الناس في شاتيلا يحملون على أكتافهم عبء آلامهم المزدوجة وموت أهلهم المتربص لهم في كل مكان وذاكرتهم الحسية الماضية والحاضرة والمستقبلة.
وعندما يسألون عن المجزرة، يستطردون في رواية تاريخ طويل يبدأ بالنكبة ولا ينتهي، إذ لم تكن صبرا وشاتيلا تجربة العنف الوحشي الوحيدة التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي، فقد تم تدمير ثلاث مخيمات فلسطينية بالكامل، وهي: النبطية، جسر الباشا، وتل الزعتر.
كما وقعت مجازر عديدة أخرى في مخيمات عدة، مثل برج الشمالي والرشيدية وعين الحلوة. ودمرت المخيمات عدة مرات، وحوصرت مدة ثلاث سنوات بعد خروج المنظمة (1985-1987). وبينما يتذكرون كل هذا، ويعيشون في ظل الفقر وحسرة الحرمان من الوطن والأرض والحقوق الأساسية المعيشية، لا يتوقفون عن النظر إلى أهلهم في فلسطين.
أسير في شاتيلا، أرى الحزن والقهر والغضب محفورًا على وجوه الناس، وألاحظ أن العديد منهم يحفظون صور القتل والدمار وقصص أهلهم التي يشاهدونها من بعيد، والتي تعزز عندهم شعور العجز والقهر وتذكِّرهم بعمق مأساتهم وهزائمهم المتتالية، وتزيد من تمسكهم بالمقاومة طالما قضيتهم متروكة بلا حل. أسألهم عن المجزرة، فيجيبون بـ"غزة"، فيتحول تعبير محمود درويش في قصيدته "مديح الظل العالي": "صبرا هوية عصرنا حتى الأبد" إلى "غزة هوية عصرنا حتى الأبد".
أحيا أهالي شاتيلا ذكرى المجزرة المروعة هذا العام. وبعد 42 عامًا، لا يزال الناجون وعائلاتهم ينتظرون القصاص، حيث أكدوا أنهم ما زالوا يحتفظون بقوائم بأسماء الشهداء والضحايا، ويؤكدون أن هناك متهمون معروفين، سواء من حرض أو قام بالجرائم، وأنه واجب علينا تجاه هؤلاء الضحايا أن نطالب بالقصاص لحقهم مهما طال الزمن.
إنّ جريمة بلا عقاب تعطي الدافع لتكرار مئة جريمة غيرها ويُمهِّد لها توافر السلاح والمال والغطاء السياسي اللازم. ومثلما أعلن الرئيس الأميركي عام 1982 أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، مبرِّرًا جرائمها بحيث تبقى دون عقاب، فعل الرئيس الحالي جو بايدن الأمر نفسه، وسيفعل ذلك من سيخلفه أيضًا، سواء دونالد ترامب أو كاملا هاريس.