في عالم تسوده الممنوعات، تبرز مسألة اللوبي الصهيوني كموضوع شائك في الواقع السياسي الغربي، حيث إن مجرد الإشارة إلى تأثيرات هذا اللوبي على السياسات الغربية تجلب الاتهامات بمعاداة السامية. ورغم كل المخاطر المتوقعة، قام المؤرخ إيلان بابيه بتأليف كتاب يتناول هذا اللوبي. الكتاب لم يترجم إلى العربية رغم اهميته للقارئ العربي. هنا مراجعة مترجمة من موقع "ميدل إيست آي" للكاتب بيتر أوبورن.
ـــــــــــــــــــ
حتى الآن، لم تُنشر أي مراجعة لكتاب المؤرخ والأكاديمي إيلان بابيه الجديد والمميز حول اللوبي الصهيوني (Lobbying for Zionism on Both Sides of the Atlantic)، وهذا الصمت ليس مفاجئًا لأن أي إشارة عابرة إلى اللوبي قد تؤدي إلى اتهام صاحبها بمعاداة السامية، وتدمّر مسيرته المهنية.
وأكبر مثال على ذلك ما حدث للسياسية البريطانية فايزة شاهين، التي أسقطها "حزب العمال"، في أيار/مايو الماضي كمرشحة عنه لمقعد نغفورتشيد وودفورد غرين في لندن بسبب هذه التهمة. وذكرت راشيل كونليف، نائبة محرر الشؤون السياسية في مجلة "New Statesman’s"، أنه: "كانت هناك شكاوى، على ما يبدو، بشأن إعجابها بتغريدة تشير إلى (اللوبي الإسرائيلي)، الذي يُعتبر على نطاق واسع مصطلحًا معاديًا للسامية".
وفي ظهور لها في برنامج "نيوزنايت" الشهير بعد إقالتها، اعتذرت شاهين باكيةً عن إعجابها بالتغريدة واعترفت بأن هذا المصطلح معاديًا للسامية.
فعلت شاهين ذلك لأنه لم يكن لديها خيار آخر. وتتفق معها لجنة المساواة وحقوق الإنسان (EHRC) - وهي هيئة قانونية بريطانية عامة غير حكومية - ففي عام 2020، استشهدت اللجنة بادعاء أن اللوبي الإسرائيلي كان وراء الشكاوى المتعلقة بمعاداة السامية، كدليل يدعم اكتشاف مضايقات غير قانونية معادية للسامية.
ومع ذلك، دخل إيلان بابيه في هذا الميدان الخطير، ويُعد من بين القلائل المؤهلين كفاية لتحدي التوجه العام الذي يمنع مناقشة اللوبي الإسرائيلي، وليس هناك من هو أكثر خبرة منه في هذه المعارك.
إذ يعد بابيه واحدًا من أبرز المؤرخين الجدد الذين أعادوا سرد قصة تأسيس إسرائيل، وتسبب هذا في إدانته من الكنيست بعد نشر كتابه المثير للجدل "التطهير العرقي في فلسطين" عام 2006، ومطالبة وزير التعليم الإسرائيلي لجامعة حيفا بإقالته من منصبه، كما نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية الأكثر انتشارًا صورة له كُتب بجانبها: "أنا لا أدعوكم إلى قتل هذا الشخص، لكنني لن أفاجأ إذا قام شخص بذلك". وبعد عدد كبير من التهديدات بالقتل، غادر بابيه إسرائيل وكان محظوظًا بالحصول على وظيفة في جامعة إكستر البريطانية.
استهداف السياسيين والصحفيين
أوقفت دار النشر الفرنسية الشهيرة "فايارد"، مؤخرًا، توزيع كتاب "التطهير العرقي في فلسطين". وفي أيار/مايو الماضي، خضع إيلان بابيه، الذي لا يزال يحمل الجنسية الإسرائيلية، لاستجواب لمدة ساعتين من قبل عملاء فيدراليين عند وصوله إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي النهاية سمحوا له بالدخول، لكن بعد أن نسخوا محتويات هاتفه. وأشار بابيه لاحقًا إلى أن هذا النوع من المضايقات لا يُقارن بما يواجهه الفلسطينيون بشكل روتيني.
لقد أصدر بابيه كتابًا يجب أن يُقرأ أكثر مرة من قبل أي شخص يرغب في فهم السياق الدولي للحرب في غزة. كما وصف في كتابه كيف استهدف اللوبي الإسرائيلي كلًا من السياسيين والصحافيين.
فعلى سبيل المثال، خسر سياسيان بريطانيان فرصهما في الحصول على وظائف في وزارة الخارجية بسبب ضغوط من اللوبي نتيجة تعاطفهما مع الفلسطينيين، وهما: آلان دنكان في عام 2016، وكريستوفر مايهيو في عام 1964. كما استهدف اللوبي جورج براون، الذي كان وزيرًا للخارجية في حكومة "حزب العمال" في ستينيات القرن الفائت.
واستهدف اللوبي كذلك صحافيين مثل سوزان غولدنبرغ الصحافية السابقة في جريدة "الغارديان" في القدس، وآلان رسبريدجر رئيس تحرير "الغارديان" السابق، والمذيع جوناثان ديمبلبي، وجيريمي بوين، الذي أُجبر على تحمل تحقيق طويل من قِبل"بي بي سي".
كما قدمت الحكومة الإسرائيلية شكاوى متكررة إلى "بي بي سي" تقول فيها إن مراسلة الأخبار الخارجية أورلا غيران "معادية للسامية"، وإنها أظهرت: "تماهيًا تامًا مع أهداف وأساليب الجماعات الإرهابية الفلسطينية"، كما ادّعت الحكومة الإسرائيلية أن تقارير أورلا من الشرق الأوسط نتج عنها زيادة معاداة السامية في بريطانيا، وهي اتهامات بشعة وكاذبة في الوقت نفسه.
وهناك أسماء أخرى والقائمة تطول!
أما في الولايات المتحدة الأميركية، يُعد ويليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأطول خدمة، المثال الأقدم والأكثر تدميرًا، ولهذا سرد بابيه في كتابه قصة سقوطه المأساوي في عام 1974، إذ كتب: "تدفقت أموال اللوبي إلى خزائن الحملة الانتخابية لمنافسه، حاكم أركنساس ديل بومبرز.. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، امتلئ الطريق إلى الكونغرس بمرشحين من نخبة السياسة الأميركية، الذين دُمرت حياتهم المهنية بطريقة مماثلة".
وكانت جريمة فولبرايت مجرد قوله إنه: "بدلًا من إعادة تسليح إسرائيل، يمكننا تحقيق السلام في الشرق الأوسط فورًا، إذا طلبنا من تل أبيب الانسحاب إلى حدود 1967 وضمانها".
لا يضاهيه شيء
هذه المعاملة القاسية للأفراد تميز اللوبي المؤيد لإسرائيل عن جماعات الضغط الأخرى، سواء كانت أجنبية أو غيرها. يقول مايكل ماتيس، العضو السابق في لجنة الاستخبارات والأمن البرلمانية، في اقتباس تكرر في كتاب بابيه، إن: "اللوبي المؤيد لإسرائيل في المشهد السياسي الحالي هو أقوى لوبي سياسي على الإطلاق، ولا يضاهيه شيء".
في كتابه، تعمق بابيه في التاريخ ليرسم صورة كاملة لأصول التحريض على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين. تبدأ هذه القصة مع الإنجيليين المسيحيين قبل قرنين من الزمان، وهذا ما يفسر استخدام بابيه لمصطلح "اللوبي الصهيوني" بدلًا من مصطلح "اللوبي المؤيد لإسرائيل" الأكثر شيوعًا.
في الماضي البعيد وكما هو الحال في الحاضر، كان هذا النوع من الدعم لإسرائيل مدفوعًا بمعاداة السامية. ففي عام 1840، دعا عالم الدين جورج بوش، الجد المباشر لرئيسين أميركيين، إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، معربًا عن أمله في أن يُقدَّم للشعب اليهودي: "الإغراءات نفسها للانتقال إلى سوريا كما يفعلون الآن لتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين".
يتشابه هؤلاء المسيحيون الداعمون لفلسطين اليهودية في ذلك الوقت، مع الصهاينة المسيحيين اللاحقين الذين لم يبالوا بالوجود الفلسطيني في ما اعتبروه الأرض المقدسة. فبالنسبة إليهم، لم تتغير فلسطين منذ زمن يسوع. وعلى حد تعبير بابيه: "في وقت لاحق تم تخيل فلسطين على أنها جزء عضوي من أوروبا في العصور الوسطى، يرتدي سكانها ملابس العصور الوسطى، ويتجولون في ريف أوروبي".
وفي بريطانيا، وصف إدوين مونتاجو، أحد أوائل اليهود الذين خدموا في مجلس الوزراء البريطاني، الصهيونية بأنها "عقيدة سياسية مؤذية"، وهي عبارة كانت ستؤدي إلى طرده من "حزب العمال" بزعامة كير ستارمر، وربما تشويهه في وسائل الإعلام، كما رأى مونتاجو أن وعد بلفور كان "معاديًا للسامية"، مُحذرًا من أنه: "عندما يقال لليهود إن فلسطين هي وطنهم القومي، فإن كل دولة ستسعى فورًا للتخلص من مواطنيها اليهود، وستجد سكانًا في فلسطين يطردون سكانها الحاليين".
حماية شرعية إسرائيل
بعد إنشاء إسرائيل، أصبحت وظيفة اللوبي الرئيسية حماية شرعية الدولة الإسرائيلية. ويبين بابيه أن "حزب العمال" كان داعمًا أقوى وأكثر موثوقية من "حزب المحافظين". ويشدد على دور حزب "عمال صهيون"، سلف "الحركة العمالية اليهودية" الحالية، في إقناع النقابات العمالية وحزب العمال بأن إسرائيل كانت مشروعًا اشتراكيًا، إذ سعى الحزب في الأصل إلى التوفيق بين الماركسية والصهيونية.
وكتب بابيه أن حزب "عمال صهيون" أصبح: "جزءًا من لوبي يهدف إلى وقف أي توجهات معادية لإسرائيل في حزب العمال في بريطانيا، وتعزيز العلاقة بين حزب العمال ودوائره الانتخابية اليهودية المؤيدة لإسرائيل".
ويضيف بابيه أن رئيس الوزراء السابق هارولد ويلسون، الذي قاد "حزب العمال" بين عامي 1963 و1976 كان "مؤيدًا لإسرائيل حتى النخاع". ويشير إلى أن إعجاب ويلسون بإسرائيل، مثل إعجاب ديفيد لويد جورج في الجيل السابق، يرجع إلى تعليم مسيحي غير تقليدي. كما أشار السياسي الراحل روي جنكينز إلى أن كتاب ويلسون "عربة إسرائيل" كان: "أحد أكثر الكتابات المؤيدة للصهيونية التي كتبها شخص غير يهودي".
أما أليك دوجلاس-هوم، وزير الخارجية في حكومة إدوارد هيث التي خلفت حكومة ويلسون بعد الانتخابات العامة عام 1970، فكان أكثر ودًا تجاه الفلسطينيين. هذا الارستقراطي القديم من إيتون، يُنظر إليه في بريطانيا ما بعد الحرب على أنه رجل عجوز يائس ومضطرب، لكن اليوم، من المحتمل أن تحظى آراءه بتأييد من حملة التضامن مع فلسطين. فوفقًا لبابيه: "كان دوجلاس-هوم وزير الخارجية البريطاني الوحيد الذي تحدث علنًا عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل في عام 1948"، والأمر الأكثر إثارة للانتباه أنه: "كان وزير الخارجية البريطاني الوحيد الذي تحدى الوساطة غير النزيهة للأميركيين".
وفي أعقاب حرب 1967، أصرّ دوجلاس-هوم بدعم من هيث على أن بريطانيا لم تعد قادرة على تجاهل: "التطلعات السياسية للعرب الفلسطينيين". وفي أثناء وجوده في الحكومة، أغضب إسرائيل بالسماح لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" بفتح مكتب لها في لندن.
يقول بابيه إن دوجلاس-هوم كان السياسي البريطاني الكبير الوحيد، باستثناء جورج براون السكير الشهير، الذي فسر قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 على أنه يطالب بانسحاب غير مشروط لإسرائيل إلى حدود 5 يونيو 1967. وخلال حرب 1973، رفضت حكومة هيث تسليم الأسلحة إلى إسرائيل، لكن بابيه يقول إن هذا على الأغلب كان بسبب الخوف من الحظر النفطي العربي.
سنوات كوربين
يساعد المنظور التاريخي لبابيه على رؤية قيادة جيريمي كوربين لـ"حزب العمال" في ضوء جديد. يقول بابيه: "كانت آراء كوربين حول فلسطين متطابقة تقريبًا مع تلك التي عبّر عنها معظم الدبلوماسيين وكبار السياسيين البريطانيين منذ عام 1967، فقد كان مثلهم يدعم حل الدولتين ويعترف بالسلطة الفلسطينية. وهذا جعله أكثر توافقًا مع التيار العام لا مع حملة التضامن مع فلسطين، التي كانت تدعم حل الدولة الواحدة".
وفي ضوء ذلك، يتساءل بابيه: "لماذا رأى اللوبي أنه يمثل تهديدًا كبيرًا إذًا؟" ورأى أن الإجابة بالتأكيد تكمن في أنهم: "اشتبهوا، بحق، في أنه كان يؤمن فعلًا بحل الدولتين، وأنه لن يقبل أعذار إسرائيل من أجل عرقلة هذا الحل".
ويضيف في فقرة مثيرة للتفكير أنه: "كان هناك الكثير من القواسم المشتركة بين كريستوفر مايهيو وجورج براون وجيريمي كوربين. فقد كانوا جميعًا في مراكز سلطة يمكنها أن تؤثر في السياسة البريطانية تجاه إسرائيل، وكانوا موالين تمامًا للسياسة البريطانية الرسمية التي تدعم حل الدولتين للصراع، كما لم يكن أي منهم ينكر حق إسرائيل في الوجود، ولم يدلي أي منهم بأي تصريح معادٍ للسامية في حياتهم، ولم يكونوا معادين للسامية بأي معنى من المعاني".
كما وجه بابيه انتقادات حادة إلى تحقيق لجنة المساواة وحقوق الإنسان (EHRC) بشأن معاداة السامية داخل "حزب العمال"، إذ كتب: "في عالم أكثر عقلانية، أو ربما بعد سنوات من الآن، إذا سُئل الناس عما يجب على مؤسسة رائدة في مجال حقوق الإنسان أن تحقق فيه فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، سيجيبون على الأرجح بانتهاكات حقوق الإنسان للفلسطينيين.. لكن في تقرير اللجنة لم يكن هناك أي نقاش جدي حول ما يُعتبر معاداة للسامية، ولم تكن هناك أي محاولة للتمييز بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية وانتقاد إسرائيل".
في خاتمة قصيرة كتبها بعد عملية 7 أكتوبر، قال بابيه: "لا يمكن لكثير من الناس في القرن الحادي والعشرين أن يستمروا في قبول مشروع استعماري يتطلب احتلالًا عسكريًا وقوانين تمييزية حتى يستمر في الوجود. هناك نقطة لن يستطيع عندها اللوبي أن يؤيد هذا الواقع الوحشي، ويظل العالم ينظر إليه على أنه أخلاقي. أعتقد وآمل أن يتم الوصول إلى هذه النقطة في حياتنا".
يستحق هذا الكتاب الذي جاء في الوقت المناسب، وكتبه واحد من أفضل مؤرخي إسرائيل المعاصرة، أن يصبح موضوعًا للنقاش العاجل، ولكن حتى الآن تم تجاهله في بيئة إعلامية وسياسية فرضت نظامًا من التعتيم حول أي نقاش يتعلق باللوبي الإسرائيلي، كما أوضحت قضية شاهين الأخيرة.