سياسة تدفيع الثمن

سياسة تدفيع الثمن الصهيونية: الحرب المفتوحة على قطاع غزة

18 أغسطس 2024

صباح يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أعلن محمد الضيف، القائد العام لـ"كتائب القسام"، بدء معركة "طوفان الأقصى" عقب عبور مقاتلي الكتائب إلى داخل مستوطنات غلاف قطاع غزة، جوًا وبرًا وبحرًا.

اخترق مقاتلوا المقاومة السياج الأمني الفاصل بين القطاع والمستوطنات المحيطة به، بدءًا من حاجز إيرز الحدودي وموقع 16 العسكري، فقاعدة زيكيم ومقر "فرقة غزة" في ريعيم، ثم سديروت وبئيري ومستوطنة صوفا، وصولًا إلى كرم أبو سالم وكفار عزة وأوفاكيم، الواقعة على بعد 30 كم شرق غزة.

وتزامن ذلك مع قصف المقاومة مستوطنات الغلاف، وهي: أسدود، وعسقلان، وزيكيم، وسديروت، وناحل عوز، وكيسوفيم، وكريات ملاخي، وكريات غات، ومحيط ديمونا. 

هكذا كانت بداية معركة الطوفان التي جاءت، بتوقيت المقاومة وباعتبارها يوم الثورة الكبرى كما أعلن عنها محمد الضيف، والتي ما تزال تداعياتها مستمرة لليوم الـ318؛ من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وردًا على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين، إضافةً إلى التوسع الاستيطاني، ومحاولات السيطرة على المسجد الأقصى وتهويده. 

ردت إسرائيل على هذه العملية بشن حرب إبادة جماعية على غزة هدفها ضرب المقاومة الفلسطينية وبنيتها بسبب ما حققته من انتصارات مادية ومعنوية في عمليتها، من خلال استهداف المدنيين وتدمير الحياة في القطاع، وذلك في إطار ما يمكن تسميته بـ"سياسة تدفيع الثمن" التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين من خلفها ضد الفلسطينيين، وتصاعدت حدتها بعد الحرب. 

العودة إلى البديهيات ما بعد الإبادة

استكملت هذه الحرب مسار ومنهجية العنف الصهيوني تجاه الفلسطيني الذي سُلبت منه أرضه، لكن المختلف فيها عما سبقتها من حروب هو العودة إلى نقطة البداية لناحية تشكّل هذا العنف، الذي هو أساس وجود هذه القوة الاستعمارية، على أرض فلسطين، المنبثقة من تاريخ وحاضر الغرب الاستعماري في العالم. 

قد يعد هذا التوضيح الكلاسيكي من الأمور البديهية والمعروفة لمن يقرأ هذه المقالة، لكنه ليس كذلك في سياق حرب الإبادة المتواصلة على غزة لكونها المحاولة الأكثر دموية من قبل الصهاينة لإبادة الغزيين، الذين يُعاد ما جرى في نكبة 1948 معهم. 

استهداف أهالي قطاع غزة، برًا وجوًا وبحرًا من دون توقف، هو شكل من أشكال سياسة "تدفيع الثمن" التي تعكس العنف الصهيوني الممنهج الذي يُمارس ضد الفلسطينيين منذ عقود طويلة، وتُعرّي كذلك زيف الخطاب الديمقراطي الذي حاولت إسرائيل التستر خلفه منذ احتلالها لفلسطين.

العدوان على غزة

لذلك، يشكل تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، نقطة مفصلية استدعت العودة إلى توضيحات قد تعتبر بديهية، لكنها مهمة في سياق محاولات تناسي المسار الدموي لتاريخ الغرب الاستعماري، ووحشية النسخة الراهنة منه التي تمثّلها إسرائيل بوصفها قوة استعمارية على أرض فلسطين، قامت حرب الإبادة في قطاع غزة بتعرية محاولات تغطية عنفها الذي يدفع ثمنه الفلسطيني وحده، وأعادت إحياء المواجهة مع حقيقة هذا العنف ومعناه فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا. 

سياسة تدفيع الثمن كمنهجية لصيرورة العنف الصهيوني

للحديث عن سياسة "تدفيع الثمن" وشكلها خلال الحرب الحالية على غزة، لا بد من توضيح سريع حول معنى هذه السياسة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الحالية، وتُعد جزءًا من عملية بناء وتشكيل العنف الصهيوني تجاه الفلسطينيين، سواء من قِبل الحكومة أو المستوطنين وتنظيماتهم، مثل تنظيم "جباية الثمن" الذي استعرض الباحث والأكاديمي الفلسطيني محمود محارب نشأته في دراسة بعنوان "تنظيم (جباية الثّمن).. وجباية الثّمن من الفلسطينيّين"، نُشرت عام 2012.

تشكّل التنظيم في الضفة الغربية عام 2008 بهدف الاعتداء على الفلسطينيين بل وقتلهم وتهجيرهم من أجل توسيع الاستيطان وزيادة عدد المستوطنين داخل الضفة الغربية، وتحديدًا في المناطق الشمالية التي تواجه اعتداءات مستمرة من قبل المستوطنين الأكثر تطرفًا، سيما مستوطني "يتسهار"، وهي إحدى المستوطنات الواقعة شمال الضفة إلى الجنوب من محافظة نابلس.  

ولعل أوضح مثال على ذلك ما تتعرض له بلدة حوارة التابعة لمحافظة نابلس، وما شهدته قبل الحرب الحالية من حرق للبيوت والمحلات التجارية من قبل المستوطنين، ودعوة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى محو البلدة. 

ومع أن هذه الاعتداءات لا تتوقف عند حدود المناطق الشمالية للضفة الغربية المحتلة وتتجاوزها إلى أمكنة أخرى، إلا أن مركز اجتماع تنظيم "جباية الثمن" قد عُقد في مستوطنة يتسهار، ولذلك تمت الإشارة لها وتبيان ما حدث في المناطق حولها كتوضيح لصيرورة العنف الصهيوني ومراكز تغذيته وبنائه، بمختلف الأشكال، وفق كل مرحلة من مراحل الصراع مع الصهيونية في فلسطين.

يوضح ما سبق إحدى الخطوط المشكّلة لعقلية العنف الصهيوني الذي يُمارس تجاه الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده في الجغرافيا المقسمة بالحواجز والحدود، وتوضح أن ما يحدث في غزة حاليًا ليس مجرد سياسة نشأت ضمن ظروف ميدانية معينة، أو بوصفها ردة فعل على ما حدث في السابع من أكتوبر، بمعنى أنها سياسة انتقامية تتوسل استهداف المدنيين والبنى التحتية من أجل تدمير "حماس"، وفق ما يجري تداوله حسب الخطاب الصهيوني. 

بل إنه، على العكس، جزء من سياسة "تدفيع الثمن"، إحدى السياسات التي تعبّر عن منهجية العنف الصهيوني المستمرة تجاه الفلسطينيين، وترتبط بعقلية الصهيوني القائمة على محو الفلسطيني وإبادته، سواء من خلال المسار البطيء كما هو الحال في الضفة الغربية، أو من خلال المسار السريع الذي يتمثل في حرب عسكرية مباشرة، مثل التي يشهدها قطاع غزة حاليًا.

وتتمثّل أدوات إسرائيل في تطبيق منهج "تدفيع الثمن" في قصف المدنيين في قطاع غزة وتدمير كل ما يرتبط بمقومات حياته، مثل: البيوت، والمنشآت السكنية، والمؤسسات الأهلية والخاصة، والمستشفيات، والمدارس، وشبكات الطرق، والمياه، والكهرباء.. إلخ.

وبناءً على ما سبق، يصبح منطق الإبادة الممارس في قطاع غزة حاليًا منهجًا من مناهج العنف الصهيوني الممارسة بوصفها جزءًا من سياسة "تدفيع الثمن". وتكون الإبادة، بمنطق المستعمِر، أداة من أدوات العنف المباشر لتحقيق الشرط الاستعماري باستمرار وجوده، إذ تحاول إسرائيل من خلال العنف، والعودة إلى استخدام منهجية الاستعمار الكلاسيكي في إحلال وجوده، وفي جوهرها الإبادة، الحفاظ على نفسها بما هي قوة استعمارية. ذلك أن الإبادة التي ترتكبها هي انعكاس لتاريخ عنف الاستعمار في العالم. وفي الوقت الذي تُمثِّل فيه هذا الانعكاس، فهي تعرّي، في الوقت ذاته، إنسانية العالم الغربي الزائفة وازدواجيته. 

أدت الحرب على غزة إلى محو عائلات كاملة من السجل المدني، ومسح أحياء سكنية ومناطق بأكملها. وتُعد عملية المحو هذه جزءًا من الأهداف الصهيونية المرتبطة بهذه الحرب، والمتمحورة في جانبٍ منها حول تدفيع الفلسطيني ثمن تفكيره بالحرية والتحرر من خلال محو جسده وكل ما يرتبط به، سواء المكان أو الذاكرة.

وشكّل الاستهداف المباشر للقطاع الطبي والتعليمي والغذائي أساس عملية تطبيق سياسة "تدفيع الثمن" في غزة، إذ تتعمد إسرائيل إحداث تدمير طويل الأمد للحياة في القطاع، فمن سوف ينجو من القصف (الموت المباشر)، قد لا ينجو من سياسة الموت البطيء من خلال التجويع من ناحية، وتدمير القطاع الطبي لعلاج المرضى والجرحى من ناحية أخرى.

ولفترة طويلة بعد انتهاء الحرب، لن يكون هناك قطاع تعليمي بسبب تدمير البنية التحتية الخاصة به من جهة، واستهداف الكوادر والنخب التعليمية من جهة أخرى. ولذلك، أصبحت حياة الغزي خلال الحرب بين مسارين، وهما: الموت السريع، والموت البطيء. 

أمام موتين

طُبِّقت سياسة "تدفيع الثمن" في قطاع غزة إذًا من خلال مسارين متوازيين، هما الشهادة/الموت بصورة بطيئة، والموت/الشهادة الفورية.

يمكن قراءة المسار الأول عبر استهداف أعمدة الحياة الأساسية، الغذاء والعلاج، من خلال منع إدخال المساعدات الغذائية والإنسانية إلى القطاع، وتجويع سكانه، واستهداف طرق تحصيل الغذاء التي يعتمدون عليها، مثل الصيد باستهداف نقاط وقوارب الصيد، والمزروعات عبر جرف الأراضي الزراعية. 

إضافةً إلى قطع المياه ومنع وصولها إلى السكان، وتدمير الآبار الموجودة داخل القطاع خلال العملية البرية، عدا عن استهداف القطاع الطبي الذي يقدم المساعدة والعلاج للمصابين والجرحى، ومنع وصول الأدوية للمرضى بمختلف أنواع أمراضهم التي كانوا يتعالجون منها قبل الحرب، عدا عن منع علاج المصابين الجدد خلال العدوان.

أما المسار الثاني، فيمكن قراءته من خلال الاستهداف العسكري المباشر عبر القصف الجوي (باستخدام قنابل محرمة دوليًا مثل الفوسفور الأبيض) والمدفعي للمنشآت العمرانية والبنى التحتية. ومن ثم التوغل البري لجيش الاحتلال في القطاع وما رافق ذلك من عمليات تفجير ونسف وقنص للمدنيين، الذين تعرض كثيرون منهم للتنكيل والإعدام الميداني. فما نتحدث عنه أكثر من 3400 مجزرة ارُتكبت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الفائت

العدوان على غزة

ما بين الموت البطيء والسريع، وصل عدد الشهداء في قطاع غزة لليوم الـ318 للحرب إلى ما يزيد عن 40 ألف شهيد، وأكثر من 71 ألف جريح، عدا عن 3400 مجزرة بحق السكان في قطاع غزة.

واستعراض هذه الأرقام هو استعراض كمي لتوضيح حجم المأساة التي يعيشها قطاع غزة منذ بدء الحرب. ومع ذلك، فإن ما تعرض له، في إطار سياسة/نهج "تدفيع الثمن"، يتجاوز بكثير النتائج/التداعيات المعلنة. لكنها، رغم ذلك، تعبّر عن صيرورة منهجية العنف الصهيوني التي تتجلى في إراقة دم الفلسطيني المحاصر داخل القطاع. 

والمقابر الجماعية التي استقبلت الشهداء، ولا تزال حتى الآن، هي الشاهد على عنف الصهيوني وهدفه ومشروعه في فلسطين. فقتل الفلسطينيين داخل القطاع لا يمكن التعامل معه كنتيجة لحالة حرب، ذلك أن كل فلسطيني هناك هو قصة وحكاية وحياة وشاهد على عدم شرعية وجود إسرائيل وعنفها. 

ما يشبه الخلاصة: نهاية لم تبدأ بعد 

وفي ما يشبه النهاية لحرب لم تنته بعد، فإن الإبادة التي تحدث في قطاع غزة ضمن سياسة "تدفيع الثمن" تعد إحدى طرق ممارسة العنف الصهيوني بأكثر الأشكال فاشية ونازية، إذ إن كثافة الاستهداف للفلسطينيين داخل القطاع وتحويلهم إلى شهداء قيد التنفيذ يشكل، كما ذكرت أعلاه، صيرورة لبنية الصهيونية التي تستمر في هذا النهج طالما أن الفلسطيني موجود. وهنا لا بد من استعادة تشخيص ألبير ميمي للعلاقة ما بين المستعمَر والمستعمِر، التي تقوم في أساسها على أن المستعمِر موجود بسبب وجود المستعمَر الذي قاوم وواجه بشكل مستمر محاولة المستعمِر بالوجود وسرقة أرضه.

وبناءً على ذلك، فإن وجود المستعمَر يتناقض جوهريًا مع وجود المستعمِر بسبب المقاومة المستمرة للحفاظ على وجوده ورفضه له. والمستعمِر الصهيوني لم يستطع محو المستعمَر الفلسطيني بشكل نهائي، رغم كل سياسات العنف التي يمارسها منذ بداية مشروعه حتى اليوم. 

الكلمات المفتاحية