اللاجئون في مصر

بين اللاجئ والمواطن.. عبء الهوية

9 أكتوبر 2024

تعرض طفل قبطي في منطقة شعبية بالقاهرة للضرب على يد طفلين ظن أنهما فلسطينيان، فلما علمت الأم بأنهما فلسطينيان ذهبت إلى منزلهما وضربت الطفلين داخله. بدأت الأم تصرخ في الشارع قائلة:

"مفيش غير اللاجئين كمان اللي يضربوا ولادنا، نبقى في بلدنا والمتشردين اللي لامنهم عندنا يتفوا علينا كلام".

 كانت أول مرة يسمع فيها الطفل القبطي كلمة لاجئ وهي كلمة لم يفهمها، ولكنه فهم معنيين متناقضين، الأول أن والدته المهمشة تشبه اللاجئين، فحياتهم ووضعهم الاجتماعي متشابهين حيث كانت أمه تخلط بينها وبين اللاجئين الفلسطينيين، ولكنه فهم شيئًا ملئه بالزهو و"هو أن هؤلاء، أيًا من كانوا، يقعون تحتي في سلم الضرب، تحت الجميع في الحقيقة، فأنا كنت في قاع السلم، وعلى درجته قبل الأخيرة." 

"يعني إيه لاجئين يا ماما؟"

"يعني ملهمش بلد".

"والحقيقة، وأنا أقول هذا بكل خجل، كانت لحظتي الأول لشعوري الطفولي بالانتماء للبلد، وأحببت اللاجئين، بصورة أو بأخرى، لأنه بفضلهم لم أعد الحائط المائل للجميع بعد الآن". (ص 17 - 20). 

هذا اقتباس بقليل من التصرف من رواية "على خط جرينتش" لشادي لويس بطرس. 

 

يوضح بطرس بهذه القصة أنه لا يوجد خط مميز حقيقي، حتى على المستوى المفاهيمي، بين اللاجئين والفئات المهمشة الأخرى. فاللاجئ الذي لا يمتلك وطنًا مثله مثل المهمش الفقير وأبناء الأقليات. وعلى الرغم من ذلك، هناك تراتبية  متخيلة ترسمها الدولة بين اللاجئ وابن البلد الفقير. وتنعكس هذه التراتبية على إدراكنا لمفهوم الحقوق، فاللاجئ بلا حقوق ويسهل استباحته من أبناء البلد. كما تلعب مثل هذه التراتبية المتخيلة دورًا عمليًا في إعادة إنتاج والحفاظ على طبقات مختلفة من القمع على المجموعتين أو للدقة على المهمشين، فكلاهما يشترك في كونه على هامش السلطة والثروة.

مشاهد العنف الجماعي ضد اللاجئين السوريين في تركيا، والعنصرية المتصاعدة ضد السودانيين في مصر؛ كلها مشاهد تؤكد بؤس الجاني والضحية. العنصري الجاني، إما لفظيًا أو جسديًا، ليس بضرورة الحال من أغنياء القوم، بل إنه في كثير من الحالات من الطبقات الدنيا. فرجال الأعمال عادةً ما يستفيدون من اللاجئين كعمالة رخيصة يستغلونها، ولا يوجد في الحياة اليومية فضاء مشترك بينهما ليتفاعلا فيه. فالغني لن يسكن في فيصل ولن يذهب إلى المنتزهات الرخيصة التي تعتبر متنفسًا للمهمشين من لاجئين وطبقات دنيا. 

وبدلًا من أن يوجه ابن البلد غضبه تجاه النخبة الحاكمة من رجال أعمال وسياسيين، يجد في اللاجئ "حيطة مايلة"، أي كبش فداء سهل، يُشعِره بقدرته وذكورته أحيانًا من خلال ممارسة التعالي عليه. ولعل مقولة غونتر أندرس، الفيلسوف اليهودي الألماني الذي فر من النازية، تعبر عن واقع بحث الفئات المهمشة على ضحية أسفل منها في سلم القهر: "إذا أردت امتلاك عبد مخلص، فامنحه عبدًا تحته". أو كما يقول الشهيد باسل الأعرج: "علاقة القمع تحتاج باستمرار إلى تغذية نرجسية السيد (الذكر)، إلى من تضخم أناه حتى لا يتهددها بروز الحس الإنساني، بروز التعاطف النابع من التكافؤ بين الذاتية والغيرية".

لكن يبقى سؤالي الأساسي هنا: هل هناك فرق بين اللاجئين والمهمشين من سكان البلد كالفقراء؟ أعتقد أن هذا سؤال وجيه في ظل حملات العنصرية المتزايدة في منطقتنا، سواء كانت في تركيا ولبنان ضد السوريين، أو في مصر ضد السودانيين.

رأيي أن لا فرق بينهما، فكلاهما يبحث عن مسكن وطعام، وكلاهما سيقف في طوابير طويلة لانتظار دعم من مؤسسة محلية أو دولية، وكلاهما ضحية الظروف الاقتصادية والسياسية التي لا تنتج إلا الفقر والصراعات.

وهناك أدبيات متنامية في دراسات الهجرة تحاول فهم ما تسميه "التهميش المشترك"، فسياسات النيوليبرالية، على المستوى العالمي، تنتج اللجوء والفقر. وهذه السياسات نفسها تُستخدم كخطابات تحاول تصوير مثل هذه المظالم على أنها مختلفة: "اللاجئون يسرقون وظائفنا"، "اللاجئون لا يقدرون بلدنا وعاداتها وثقافتها". لكن الأسئلة التي يجب طرحها هنا: كيف تتم هذه السرقة؟ أليس رجال الأعمال "الوطنيون" هم من يبحثون عن عمالة أرخص وبلا أوراق ليسهل استغلالها؟ وهل من المعقول انتقاد شخص يقبل العمل بأقل من الحد الأدنى بدلًا من الظروف التي تضطره، وقد تضطرك، لفعل ذلك؟ ولماذا يهتم الناس بتقدير بلادهم التي لم تقدر أبناءها؟ بلدك التي لا تعبأ بأوضاعك المعيشية المتدنية، والتي يسيطر عليها مجموعة من العسكر أو رجال الأعمال. 

أليس من العبث أن تزعج البعض كلمة "يا زول" ولا تزعجه "تمام يا فندم" التي يُجبر على قولها لأي شخص يرتدي زي الشرطة؟ أليس من العبث أن يشعر شخص ما بالحقد على سكان "إيجيبت" والساحل، بلغتهم العربية المتلعثمة وإنجليزيتهم الطلقة؛ بينما يشعر عند سماع "يا زول" بالغضب ويعامل ناطقها بازدراء؟ الزول السوداني لا ينتمي إلى هنا، ولكن الطبقة الغنية متعددة الجنسيات تنتمي إلى هنا.

بالنسبة لي، أجد نفسي أقرب للزول من سكان القصور؛ نتشارك المعاناة والاستغلال والازدراء من الأغنياء والتهميش. على مستوى الاقتصاد قد تتساوى معاناتنا، لكن إذا أضفنا الجانب القانوني والاجتماعي، فهو يعاني أكثر من ابن البلد، إذ يسعى لامتلاك ورقة إقامة ويحاول أن يتجنب العنصرية ضد لون بشرته وأكثر من ذلك بكثير. إذًا، أليس من العبث والجبن أن ألوم من يعاني أكثر مني بدلًا من المتسبب في المعاناة.

سأحاول في بقية المقال الآن فهم سبب استباحة اللاجئ ووضعه في خانة كبش الفداء. 

مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، انتقدته حنة آرنت في مقالتها "حقوق الإنسان: ما هي؟" بسبب ربط الإعلان لحقوق الرجال/البشر بالدولة القومية ربطًا وثيقًا لا مفر منه، ما يعني أن تراجع الدولة أو غيابها بالنسبة لشخص ما يعني غياب حقوقه. كما انتقدت الإعلان لأنه لا يمكن أن يوفر إطارًا حقيقيًا لحماية عديمي الجنسية كاللاجئين لأنهم يفتقرون إلى الحق الأساسي، وهو "الحق في امتلاك الحقوق". فكل الكلام عن الحقوق والقوانين في ظل الإعلان الإعلامي يفترض أن الأفراد أعضاء في دولة أو مجتمع سياسي، أي يمتلكون جنسية دولة ما، فامتلاك جنسية يخولك للوصول للحقوق فهي الحق في امتلاك الحقوق. إذًا، فاللاجئ هو إنسان لا ينتمي إلى دولة تمنحه حق الوصول إلى الحقوق.

في هذا السياق، تتحدث آرنت بشكل فلسفي عن ثنائية مجردة هي الانتماء لدولة أو عدم الانتماء، وبالتالي لا تناقش التراتبية بين الدول الغربية ودول الجنوب العالمي، فليست كل الدول سواء، وليست كل الجنسيات تمكّن حامليها من التمتع بنفس القدر من الحقوق، ولكن ما يعنينا هنا هو هذه الثنائية لإدراك عبثيتها وتحكم النظام الدولي الحديث القائم على افتراض ظالم وهو الانتماء لدولة قومية.

لا يختلف كلام جورجيو أغامبين كثيرًا عن آرنت. ففي كتابه "الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية"، يحاول أن يوضح كيف يتم إخضاع اللاجئ وتحويله لإنسان مستباح. والإنسان المستباح (homo sacer) هو فئة في القانون الروماني تعني أن من يحكم عليه بكونه مستباحًا يعني أنه لن يقتل بشكل مباشر، ولكن في الوقت نفسه إذا أقدم شخص على قتله، فإن هذا الشخص لن يحاكم كقاتل لأنه، ببساطة، قتل شخصًا مستباحًا.

يحاول أغامبين أن يوضح فرقًا بين نوعين مختلفين من الحياة في التصور اليوناني القديم: الحياة العارية (zoe) والحياة السياسية (bios)، إذ إن مجرد الولادة تجعلنا جزءًا من حياة عارية، حياة نتشارك فيها مع غيرنا من الكائنات الحية، لكنها حياة بلا حقوق. بيد أنه بمجرد انتماءنا لمجتمع سياسي كمدينة أو دولة نستطيع أن نتمتع بحقوق في هذه الحياة السياسية. ومجددًا، اللاجئ شخص بلا دولة يحيا حياة عارية بلا حقوق تُذكر. وفي هذه الحالة هناك فرق، بمصطلحاتنا الحديثة، بين حقوق المواطن وحقوق الإنسان، حقوق تمنحها لك الدولة، وحقوق لا تذكر للاجئ الذي لا ينتمي لدولة. إلا أن أغامبين لا يقبل هذه التفرقة ويقوم بمساءلتها.

بالنسبة إلى أغامبين: "اللاجئ هو حقًا "رجل الحقوق"، كما تقترح آرنت، هو التجلي الحقيقي الأول والوحيد للحقوق خارج خيالات المواطن التي تغطيها دائمًا". لذلك، لا يوجد فرق بين اللاجئ والمواطن من الناحية المفاهيمية، فاللاجئ يمثل الشكل النقي للحقوق دون أي خيال، ويوضح حقيقة حقوق المواطن. ففي حالات الاستثناء على سبيل المثال، كحالة ألمانيا النازية عندما نزعت المواطنة عن اليهود (ولعلها كانت مفارقة سوداوية للغاية أن ألمانيا لم تقتل أي يهودي "ألماني"، لأنها كانت تجردهم من جنسيتهم وحقوقهم قبل إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال)، تستطيع الدولة أن تحول المواطن لصورته الحقيقية، أي رجل بلا حقوق، لأنها من تعطيه الحق في الأساس. 

إن قدرة الدولة الحديثة على تجريد مجموعة من حقوقهم تعكس سمة متأصلة فيها وليس استثناءً يمكن تجاهله. وعليه، فاللاجئ والمواطن ليسا مختلفين من الناحية المفاهيمية، إلا أن الدولة تحاول إيهامنا بأنهما مختلفين.

من خلال هذا الوهم، يعتبر اللاجئ هو الحلقة الأضعف، وبالتالي يكون مختبرًا لسياسات الدول القمعية. ويرى فان بار أن المهاجر/اللاجئ يكون عرضة دائمًا لإمكانية ترحيله، وهو نموذج يمكن مده ليشمل المواطنين، من خلال "إمكانية الإخلاء" أو الطرد. فإذا كانت الدولة في مصر ترحل بعض اللاجئين السودانيين، فهي تطرد الفقراء من منازلهم في الأحياء الشعبية بحجة إعادة الإسكان، وهنا لا يملك كلًا من اللاجئ والمواطن حقًا في المكان الذي يعتبرانه ملاذًا وبيتًا. 

ويبين فان بار كيف يتبنى الاتحاد الأوروبي خطابًا أمنيًا حول بعض أحياء المهاجرين التي يصورها على أنها مختلفة وتهديد أمني في الوقت ذاته. تبدأ هذه العملية بتصوير المهاجرين الروما (أو المسلمين أيضًا) على أنهم كتلة واحدة لها سمات ثقافية واحدة مختلفة عن ثقافة البلد من حيث طريقة الكلام والملبس والطعام، وبالتالي فهذه المجتمعات تتطلب تعاملًا أمنيًا للسيطرة على الموقف وإنقاذ ثقافة البلد، وقد يطال هذا الخطاب بعض الأقليات من أبناء البلد لكونهم مختلفين، كما حصل في تنامي حالات العنصرية المسجلة في مصر ضد النوبيين لأن بشرتهم سمراء. 

الخلاصة، من العبث اعتبار اللاجئين فئة مختلفة عن غيرهم من المهمشين من أبناء البلد، فمصدر التهميش واحد وهو السلطة السياسية والاقتصادية، وما يطال اللاجئين من شيطنة يمكن مده ليطال فئات مهمشة أخرى من أبناء البلد. وكما نقول في مصر: "الهم طايلني وطايلك، فخلونا نطبطب على بعض".