عوّدتنا الوقائع على سماع أخبار احتجاب المجلات واختفائها، إلى أنْ بات الطبيعيُّ بالنسبة لنا أنّ المجلات تموت، وليس أنها تولد!
ومع كل ما يجعل إعلان الولادة مخيفًا بما أن السائد هو إعلان موت، يأتي مشروع مجلتنا "ميغازين" محمّلًا بالأحلام القديمة بخصوص دور المجلة في تحريك الواقع الثقافي، على الرغم من أن هذا الواقع، في هذه اللحظة، يمتاز بضيق الهوامش وانسداد الآفاق أمام حرية التعبير، فكثير من الكتّاب والصحافيين ميّالون إلى الإحجام عن مبادرة القول، وتفضيل الصمت ما لم يكن المتاح أمامه هو قول المتفق عليه.
ليس هذا بالسر، بل هو جزء من طبيعة هذه المرحلة التي تتصف بالخيبة والشعور العام بالإحباط من انعدام احتمالات التغيير في العالم العربي، بعد عقد دمويّ من الأحلام الكبيرة، ويأتي المشروع، في الوقت نفسه، متزامنًا مع مذبحة مفتوحة تجعل كل محاولات الكتابة والنقاش أشبه بمغامرات لا طائل منها لكون الناس تُباد والمدن تمحوها النيران.
إلى جانب ذلك كله، يخرج مشروع "ميغازين" مع وصول الصراع الوجوديّ المحتدم بين الشفاهية والكتابية إلى حدوده القصوى، وظهور علامات دامغة على تراجع مكانة المكتوب والمقروء مقابل علو متصاعدٍ لقيمة ومكانة المرئي والمسموع.
أمام هذا كله تخرج الأسئلة من الأسئلة، ونعلق في دوائر أولها وآخرها سؤال، دون الوصول إلى الإجابات النهائية: لماذا على مشروع المجلة أن يخرج أمام مشهد مثل هذا؟ ما الذي يمكنه أن يبحث عنه في هذه المساحات التي يحمل كل منها تهديدًا أخطر من السابق عليه؟ مَنْ مِنَ الكاتبات والكتّاب على استعداد لتحمّل هذه الأعباء القيميّة والمبدئية في حياة يشتد فيها الإلحاح على مواجهة الأعباء المادية والشعور بعدم الأمان والاستقرار؟ ما الذي يريد هذا المشروع إضافته ولم تقدر عليه المجلات العريقة التي رأيناها، ونراها، تُقرر الانسحاب تباعًا؟
ضيق المساحات أمام التفكير والشعور بالحرية وفقدان الدافعية والخوف.. كلها تحديات مغرية لمجلة كي تخرج وتُحرر منطقةً عمومية، مهما كانت صغيرة، من يد السلطة. احتدام الإبادة في غزة يدفعنا، على مدار الساعة، نحو ضرورة العمل الجماعي لتشكيل حصن أخلاقي راسخ، لا سيما أن مشهد الإفناء القائم على القصد والتصميم، مع ما يرافقه من جوقاتٍ للتبرير وابتكار الذرائع، للمجرمين لا للضحايا، ليس سوى محاولة جديدة لنسف السردية الفلسطينية. وأما طغيان حالة التدوين بالميكروفون والكاميرا، مع عدم رفضنا لهذه الأشكال بل وقبول مساهماتها الحيوية والهامة، فيُمثّل تحريضًا لنا للمساهمة في الحفاظ على الكتابة كأهم اختراع بشري، والعمل على تطويع هذه الأدوات من أجل صناعة حاضر يوائم أهله بين الطموح وذاكرة إنسانية مشتركة قابلة للتجديد دومًا.
وعلى هامش ذلك، يتقدم الاهتمام بضرورة العناية باللغة العربية أمام ما تواجهه من عنف غير مبرر من قبل الرافضين لها لأسباب أيديولوجية، أو بسبب غياب المسؤولية وطغيان العبث، وهو ما يستدعي منا بذل كل ما في المستطاع لأجلها، وأقله أن نُقدم أفكارنا ومقولاتنا في مبان لغوية تمتلك تماسكها ونصوعها الجمالي.
لا يحمل مشروع "ميغازين" بيانًا على طريقة مجلات القرن العشرين، وكل ما لديه كي يقوله هو أنه مجلة إلكترونية تريد أن تُضاف إلى شبكة ألترا صوت، من باب خلق مواد متنوعة، وفتح مساحة جديدة نقول فيها ما لا يسمح العمل الصحفي في أن نقوله أو نخوض فيه، لا سيما بسبب طبيعته الخبرية والتقريرية، لنبحث عن جذور الإشكاليات التي نعيشها، ونعمل على استكشاف مجتمعاتنا وذواكرها، ونناقش النتاجات الفنية والأدبية والفكرية بما تستحق من تأنٍّ.
يريد "ميغازين" إكمال مهمة المجلات التي طالما عرفناها، من دون الادعاء بأننا نسعى لإطلاق تيار فنيّ أو بحثيّ، على الرغم من نبل ذلك الحلم الذي يجمع المتشابهين بهدف تكريس رؤية ومنظور، في حين أننا نسعى إلى العكس تمامًا، من خلال جمع المختلفين، والمتعارضين، لأنّ غاية الغايات بالنسبة إلينا هي بقاء هذه المنابر العمومية التي تُقدم خدمات جليلة للمعرفة من جهة، وتؤكد على حيوية النقاش العام من جهة أخرى.
سوف نفتح مساحة واسعة للأفكار في سياقاتها المعقدة والمتشابكة، لنقول إننا نتحمل مسؤولية فردية في كل ما يجري من حولنا، لأنّ الأنظمة العربية، والنظام السياسي الدولي الذي يحكمها، يريدون لنا أن نختار بين الجهل أو اللامبالاة، ومن خلال هذه النظرة يمكننا أن نبني فهمًا جماعيًّا لقضايا ومشاكل عالمنا، يقوم على فكرة بسيطة للغاية هي أنّ كل شيء مترابط، ولا يمكن القبول بأي تجزيء.
كما سوف نهتم بالطبيعة عمومًا، وبأوضاع البيئة في زماننا خصوصًا، لأنّ هذه العنوان بات يدور حول موتنا، ويبدو أن الكثيرين لا يرغبون بالحديث عنه.
وسنعطي مساحة لقضايا الهجرة والمهاجرين، على اعتبار أن هناك مزيدًا من الأزمات السياسية والإنسانية المقبلة التي ستقود إلى صعود اليمين الفاشي في الغرب، مع أن المفارقة تكمن في أن مختلف هذه الأزمات تحدث بسبب هذه الفاشية نفسها، التي تتصاعد كاستجابةٍ أو كردِّ فعل على كوارث النظام الرأسمالي.
ثمة اهتمام آخر يتجلى في فتح الآفاق أمام موضوعات لم نفكر فيها مع أنها شديدة الحضور في حياتنا، وفي هذا الباب سوف تجتمع الفكرة والمعلومة في إطار أقرب إلى قصة شيء أو معنى.
بالتوازي معه هناك تركيز على المفاهيم، سميناه "مقدمات"، والهدف منه هو أن نُشكّل قاموسًا صحفيًّا للمفردات التي تفرض نفسها علينا، ويزداد حضورها مع أنها أحيانًا تمر دون الخلفيات التي تسهّل فهمها.
إلى جانب ذلك، سنهتم بالفن بمعناه الواسع، من الكلمة إلى الصورة إلى الصوت، وإلى كل ما يتصل ويُقاطع بينها أو يتفرع منها، لأننا حين نتحدث عن الفن فإننا نتحدث عنا نحن، أو عمن يمكن أن نكون، بأحلامنا وخيباتنا، بمسراتنا وأوجاعنا، بما أخذنا من الحياة وما أخذت منا، في تلك الخلطة التي لا يمكن أن نجد لها تفاسيرها العميقة إلا في الآداب والفنون بوصفها المرآة التي تعكس رحلتنا الإنسانية من ألفها إلى يائها.
النقطة المهمة الأخرى الدافعة لهذا المشروع هي أزمة المقال الصحفي، إذ حوّلته الصحافة اليومية ووكالات الأنباء إلى مجرد مادة خبرية، في حين عملت السوشيال ميديا على جعله تدوينة ذاتية تعالج القضايا من منظور شخصي للغاية، وبين هذين الشكلين تراجع المقال المُحرّض الذي يضيف إلى معارفنا أشياء جديدة، ويمتعنا بالجماليات اللغوية التي يُبنى بها.
من هنا، يسعى هذا المشروع إلى تكريس الجهود لوضع المقال في سياقه الصحيّ، دون نسف أو تجاوز للأشكال الحاضرة منه، بل التأكيد على أن إمكانيات الكتابة المقاليّة أوسع مما يأخذ الصدارة والاهتمام، وأن المشهد العام يتسع لكل هذه التنويعات.
المقال هو أحد أهم أشكال الكتابة لكونه قادرًا على امتصاص المعارف وتقديمها بشكل مُحرّض، مُحفِّزًا التفكير النقدي والتأمل، ودافعًا للبحث عن زوايا جديدة للمعالجة والتناول. إنه أداة مؤثرة في الرأي العام لقدرته على الحوار وتوجيه الانتباه إلى القضايا بالغة الأهمية، أو التحريض على تشكيل وجهات نظر جديدة. إنه طريقة فنية لتناول كل شيء وربطه بالحاضر الذي نعيشه، خصوصًا في عالم التسارع الرقمي، حيث يُهدد التدوين المصوّر والمسموع بعودة الشفاهية. لهذا يبدو الحفاظ على الكتابة ليس مجرد حفاظًا على التاريخ والثقافة، بل حفاظًا على قوة الإنسانية قبل أي شيء آخر، وهي القوة التي تتجلى في الأداة التي تمكّننا من نقل المعرفة بين بعضنا البعض، في مختلف المجتمعات، وعبر كل الأزمنة، كما تعطينا الصور الأجمل للتعبير بعمقٍ عن أنفسنا، مما يساهم في تحقيق التقدم وتحديث الأفكار.
في هذه المعادلة، يقف المقال في الصدارة كونه أداة الكتابة التي يُمكن لكل أعضاء المجتمع أن يمارسوها، دون اقتصار ذلك على أهل الأدب أو المتخصصين بالعلوم الإنسانية.
في الماضي، كانت المجلة تمثّل محنة العرب مع الحرية، كما قال الروائي العراقي غائب طعمة فرمان، وشهد عبورها بين البلدان أزمات تتعلق بالنقل من بلد آخر، وإرجاع النسخ غير المباعة، إلى جانب مواجهة مشكلة ضعف القدرة على الشراء. وعلى الرغم من التحول إلى الصحافة الإلكترونية في وقتنا الحاضر، إلا أن العديد من هذه الأزمات لا تزال قائمة، بما في ذلك الرقابة والقمع، والسطحية والتفاهة، ولا تزال المجلات العربية تحاول أن تثبت وجودها من خلال مقاومة شروط السلطة وإرهاب الرقابة، وفتح ساحات مواجهة فكرية مع الثقافة المزيّفة وأصحابها.
في هذا المشهد، ولادةُ مجلةٍ جديدة تعني استمرار التحدي القائم منذ أكثر من قرن، كما تعني فتح أبواب لتحديات تخصُّ الظروف القائمة، لكنها تبقى تعني وتؤكد أمرًا واحدًا وأساسيًّا؛ أن نتمسّكَ بالتعبير الحرّ.