عن "حرية التعاقد".. إخضاع الموظف وشرعنة قمعه

عن "حرية التعاقد".. إخضاع الموظف وشرعنة قمعه

20 سبتمبر 2024

ترافقت حرب الإبادة على غزة مع حملات إرهاب فكري شرسة ضد المؤيدين للحق الفلسطيني في المقاومة والتحرير وتقرير المصير. المضايقات، والتهديد بسحب الدعم، والفصل أو الإنذار به، كان جزاء من يتجرأ على نَسْبنة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أو أن يرى في فصائل المقاومة حركات تحرر مشروعة.

رُفضت مثل هذه المضايقات باعتبارها قادمة من ازدواج المعايير، إذ إن تعبير المعسكر الآخر عن رأيه لا يسلم من المضايقة وحسب، بل ويُقابل بالإشادة والتبني المؤسساتي له. لكن ردة الفعل على المضايقات كانت، في أحيان أخرى، التسليم والقبول. ريما حسن قالت إنها تقبل تعليق شركة "لوريال" لعضويتها بالمجلس الاستشاري بحكم أن هذه السياسات لم تُطبق عليها وحدها، بل هي سارية على الجميع.

نُقل النقاش أحيانًا إلى منطقة الجدل حول ما إذا كان فعل التعبير عن الرأي "مهنيًا" للعاملين في مجالات الإعلام، مثلًا، الذين يخرقون عقود العمل بالتعبير عن آرائهم السياسية الخاصة على الشبكات الاجتماعية، والذين ينتهكون مبدأ الحياد؛ أي الحيادية التي يُعنى بها غالبًا معارضة رأي الموظَفين موقف المؤسسة التي ينتمون لها. وهنا بدا أن الاحتكام لعقد العمل أمر بديهي، بل و"عادل". وعليه، فالمخرج الوحيد لضحاياه هو محاولة تأويل البنود على نحو لا يُدين الموظف. لكننا، في مسعانا للتبرئة، قليلًا ما نذهب أبعد من ذلك. أعني أن نُراجع شكل العلاقة بين الموظِف والموظَف، وعقود التوظيف التي تُنظمها.

عند التفكير في القوانين (وربما في هذا تختلف هي قليلًا عن العقود)، فإننا نتوقع من أحكامها أن تُنظم علاقة الطرفين على نحو عادل، مع انحياز للطرف الأضعف: المُستأجر مقابل المؤجر في العقارات، المرأة مقابل الرجل في قوانين العنف الأسري، وبالتالي الموظَف مقابل الموظِف في قوانين وعقود العمل.

تخضع العقود - في بعض الحالات، وفي بعض الدول - لتنظيمات رسمية تفرضها الحكومة. في عُمان، على سبيل المثال، يُوقع المُستأجر على عقد نموذجي مُصاغ عبر مؤسسات الدولة، ويُسجل في وزارة الإسكان. يحمي العقد النموذجي كلا الطرفين، وخصوصًا المستأجر ضد استغلال المؤجر.

ثمة مقاربتين لتنظيم علاقة الموَظف بمانح العمل. الأولى، عبر إخضاعها لأحكام وتنظيمات الدولة. والثانية عبر تنظيمها وفق مبادئ السوق المفتوح، وترك الأمر لأصحاب العمل والموظفين للتفاوض بشأن شروط العمل وأحكامه. المُناصرون لتنظيم علاقة التوظيف ينطلقون من واقع التفاوت في السلطة بين أصحاب العمل والموظفين، الذي لا يُنتج سوى ظروف استغلال بالكاد يمكن اعتبار التعاقد فيها حُرًّا. فوجود سوق احتياطي للعمال يجعل الاستغناء والاستبدال والانتهاز مُتاحًا. فالواحد منا مُجبر على القبول بشروط لا يُؤمن بمشروعيتها، بل إننا نقبل بها أحيانًا دون أن نفطن لعدم مشروعيتها في الأساس.

بقليل من التأمل، يتكشف لنا أن الوظيفة الأساسية لحرية التعاقد هي الإبقاء على العمال والموظفين مضطهدين، وإضفاء الشرعية على السلوك الانتهازي الذي يخدم الشركات الكبرى ويُعزز سلطتها. العقود إذًا أكثر من مجرد منتج ثانوي عارض، بل هي جزء فاعل في مُشكلة النظام المُجحف بحق الأغلبية، والمُنتصر للقلة المالكة لرؤوس المال.

يُوحي النظام العالمي التنافسي المبني على الحرية والاختيار بأن الموظف مُحاط بالفرص، وأنه ينتقي من بين عقود العمل الوفيرة التي تُعرض عليه ما يلائمه (إن كان بالنسبة للمردود المادي، أو التوافق الأخلاقي). بل ويدّعى أنه أوجد حلًا لمأزق السيد والعبد، وأتاح للأفراد سيطرة كاملة على وسائل الإنتاج. بل وإن التنافسية التي تنظم العلاقات هي كافلة وضامنة لإطلاق الإمكانيات لحدها الأقصى. أما من يفشلون ضمن المنظومة، أولئك الذين لا يقعون على خيارات مرضية، فيتحملون مسؤولية فشلهم بالكامل، ويأتي الرضى بالموجود مع لمسة خزي،  بحيث يصبح صاحب العمل (كثر الله خيره!) مُتفضلًا على أولئك الذين تخاذلوا في صقل مهاراتهم الصلب منها والناعم.

إن نقد بيئة العمل الذي لم يكن ممكنًا إلا في الحالات النادرة التي تصل للصحافة، صار متاحًا عبر منابر الشبكات الاجتماعية، الأمر الذي استجاب له الموظِفون فورًا بوضع اشتراطات قمعية من قبيل تقييد المحتوى الذي يُشاركه الموظف على حساباته علنًا، أو التأكيد - في أحسن الأحوال - أن الحساب شخصي لا يُعبّر محتواه عن رأي المؤسسة. 

تركز المقالات والأوراق العلمية - التي وقعت عليها في بحثي - على كيفية تنفيذ سياسات "القمع والاستغلال" هذه: كيف توعي موظفيك، وكيف تتفادى - كموظَف - الوقوع في فخها دون أن تذهب، إلا فيما ندر، أبعد من هذا لتُراجع مشروعية هذه السياسات. كما تكشف لنا كيف أن العامل والموظَف غير محمي فعليًا، وأن الموظِف هو من يضع الاشتراطات، ويتعامل - بتعسف وانتقامية - مع انتهاكات السياسات الظالمة التي يضعها.

وحتى إن فشلت العقود في إخضاع الموظف، فثمة أكثر من طريقة يوظفها صاحب العمل ليُشرعن قمعه. منها مثلًا خطاب المهنية، فهو يستغل قيمة المهنية - أداة العنف الملتبسة هذه - ضد موظفه. أو عبر استغلال ثقافة الإلغاء، إذ إن صاحب العمل جاهز دائمًا لتقديم كبش فداء يُحمّله المسؤولية، ويرفع عنه حرج المحاججة لصالح موظفه، ومسؤولية تشارك الذنب. وقبول الموظَفين بأن الإجراءات التي تتخذ ضدهم - من قبل صاحب العمل - عادلة أو صائبة (كما هو الحال مع ريما حسن)، دليل على نجاح آليات الضبط الذاتي التي يتبنى فيها الفرد القيم النيوليبرالية حتى وإن كانت ظالمة له.

انتهاك مبدأ الحياد

يقتضي النظام العالمي نوعًا من الميوعة التي تضمن أن أفراد منظومتها قادرين على تجاهل الفوارق الأساسية بينهم - مهما كانت أساسية - في سبيل زيادة الإنتاج. كما تتطلب أيضًا نوعًا من الانفصال، بمعنى أن تكون القوة العاملة قادرة على استثمار جهدها وساعات عملها الطويلة في أمر لا يهمها. بل، أكثر من ذلك، لا تتفق معه أخلاقيًا.

ولتحقيق مهمة تسخير المال والجهد فيما يقرره "السوق" على نحو فعّال، تشترط عقود العمل أمورًا من قبيل: عدم الإفصاح عن مرتبك لزملائك (حتى يتم ضمان استغلال كل من يُسيء تقدير المُقابل المستحق للعمل الذي تؤديه، وغالبيتهم من النساء، كما لنا أن نتخيل)، طريقة الملبس والتصرف، وما يهمنا اليوم بشكل خاص: عدم التعبير عن الآراء السياسية علنًا.

يُستثمر خطاب السلام وترك ما للسياسة للساسة من أجل قمع تعبير المثقفين، الرياضيين، الفنانين عن مواقفهم السياسية. وكالعادة، تُطبق معايير مزدوجة للحكم ما إذا كان التعبير السياسي مقبولًا، أو ما إذا كان يستدعي العقوبة كالحرمان من المشاركة، أو حتى الإلغاء.

والحل؟

ثمة مجموعة من الأمور التي يتوجب علينا إعادة التفكير بها إذا ما أردنا مجابهة هذه التحديات. أولًا، هجر طريقة التعاقد الحر، واستبداله بالتعاقد المنظم المنطلق من سياسات عامة تُشرعها الدول، وسن قوانين أكثر عدالة بطبيعة الحال. ثانيًا، حفظ الحق في التعبير عن الرأي، الأمر الذي لا يُمكن أن يتم إلا من خلال: إعادة التفكير في ثقافة الإلغاء، وإعادة التفكير في مبادئ العمل من مهنية وحيادية التي نفترض أننا نعرفها حتى نُسأل ما هي، كما يقول التعبير الشائع. وما دامت ثقافة الإلغاء موجودة، سيبقى الإقصاء العنيف للناس قائمًا، وكذلك خسارتهم، من بين أشياء كثيرة، لوظائفهم.

دعك من الأمل، الحياد هو أسوأ الشرور. علمتنا الحرب العالمية دروسًا مهمة حول تحمل المسؤولية الأخلاقية للأعمال التي نؤديها، عوضًا عن تنفيذها بعمى تام، ودون مُسائلة. ونحن نستذكر هذه الدروس لأننا نعلم أننا إن لم نفعل (أيًا يكن ما يمكن فعله) فنحن متواطئين في إبادة شعب غزة.

المقال الذي بدأته بالبحث عن تاريخ عقود العمل قادني لمنطقة جديدة أتأمل فيها كيف أصبحت اشتراطات صاحب العمل الظالمة مقبولة، بل ومحل دفاع حتى من قبل من يقع عليهم الظلم أحيانًا.

حرية التعاقد نجحت، حتى في أحسن أحوالها، في أن تستديم بقائنا كمتاريس صماء في آلة العمل الشرسة، عوضًا عن أن تحمينا وتضاعف امتيازاتنا. وسيبقى الحال كما هو على الأغلب ما دام الطرف الأقوى في علاقة العمل هو من يسن بنود التعاقد.

الكلمات المفتاحية