أتناول في هذه المقالة، بشيء من الإيجاز، مفاهيم الطاعة/الإذعان والتمرد/العصيان في روايتين عراقيتين تحضر هذه المفاهيم فيهما بشكل ضمني لكنه ملفتٌ للانتباه، بل ويستدعي التأمل والتفكير لكونه جزءًا من حكايات عدة هي انعكاس لواقع سياسي واجتماعي عام، بل ونتيجة لهما أيضًا. بمعنى أن هذه المفاهيم ترتبط بصور/حكايات تُساعد وإن جزئيًا في فهم المجتمع العراقي وتحولاته وتبدّلات أنماط عيشه خلال عدة مراحل زمنية. ومع أنهما لا تقدّمان صورة شاملة وصريحة ومباشرة للواقع السياسي العراقي، لكنهما تشتملان على بعض ملامحه الأساسية.
تنطلق هذه المقالة من سؤال: ما هو دور الطاعة والعصيان في تشكيل سلوك الإنسان وخياراته ونمط عيشه وواقعه؟ ولأن الأخير انعكاسٌ لواقعي سياسي واجتماعي أنتجته منظومة سياسية حاكمة تُعدّ الطاعة أحد أبرز ركائزها، بل وما يضمن استمرارها ووجودها؛ تُحاول هذه المقالة، بإيجاز شديد أيضًا، ربط الواقع السياسي بواقع الفرد على اعتبار أنه لا يمكن تفسير أحدهما بمعزلٍ عن الآخر.
أما هاتان الروايتان، فهما "القربان" لغائب طعمة فرمان، و"المسرات والأوجاع" لفؤاد التكرلي.
طاعةٌ تسلب المرء نفسه وكيانه
يُوصف غائب طعمة فرمان بـ"روائي القاع العراقي" وبشره المهمشين الضالّين والمسحوقين الذين نقل همومهم ومعاناتهم في رواياته التي ألقى من خلالها الضوء على يأسهم وفقرهم واستسلامهم لواقعهم بوصفهم، غالبًا، بشرًا منزوعي للوعي والإرادة. ومع أنه وصف صحيح، لكنه لا يُعفي من التساؤل عما إذا كان تصوير معاناة هؤلاء هي، فقط، غاية فرمان.
الإجابة، ببساطة، لا! فمن يُحاول ربط روايات غائب ببعضها لا بد أن يُلاحظ أنه يتتبع، في كل رواية من رواياته، مظهرًا من مظاهر الحياة العراقية في زمنه بوصفها طرفًا مسؤولًا عن معاناة شخصيات رواياته، التي هي انعكاسٌ لأحوال الإنسان العراقي من جهة، وعن تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي العراقي من جهةٍ أخرى.
والطاعة هي إحدى هذه المظاهر التي يتتبعها فرمان في رواياته. أو هذا، على الأقل، ما يظهر في روايته "القربان" التي تستدعي تساؤلات عدة حول مفهومي الطاعة والعصيان تتفرّع جميعها من سؤال رئيسي هو: لماذا يُطيع من يُعاني الشخص المسؤول عن معاناته؟ لمَ لا يتمرد عليه؟
يُطرح هذا التساؤل في سياق حكاية تتقاسم بطولتها أربع شخصيات، هي: دبش وابنته مظلومة وياسر وعبد الله اللذان يعملان في المقهى الذي يملكه دبش. والأخير رجلٌ ثري جشع وفظ يتعامل مع الجميع بقسوة مبالغ فيها، بما في ذلك ابنته مظلومة التي يصف اسمها أحوالها: "حرامٌ عليها أن تشعل الضوء وتصرف النفط في غيابه (...) مسكينة مظلومة (...) فتاة مجهولة المصير، محرومة من شمة الهواء، متشحة بالسواد والألوان القاتمة (...) لا يطعمها شيئًا ويمنعها من الخروج من باب البيت وإشعال الفانوس" (القربان، ص 8 – 34).
لا تختلف أحوال ياسر وعبد الله عن أحوال مظلومة، فإذا كان دبش قد سجنها في البيت، فهما سُجنا في المقهى الذي يتعاملان معه بوصفه قبرًا دُفن فيه شبابهما، سيما عبد الله: "وتتصور قهوة دبش تختلف عن القبر، كم سنة صار لنا مدفونين فيه؟" (القربان، ص 9).
لكن الفرق بينهم أن معاناة عبد الله تتجاوز معاناة ياسر ومظلومة لأن لديه زوجة وأطفالًا يُعاين في ملامح وجهها ونحول أجسادهم بؤسه وفقره اللذين يتحمّل دبش مسؤوليتهما. يقول الراوي في وصف أحوال عبد الله: "إن هذا البيت الضيق المعقر يشبه في الحق خمًا، بستوكه متعفنة يعيش هو وأطفاله في قعرها كالجرذان التي تُحاول أن تتسلق الجدران الملساء لتخرج فلا تفلح. فكانت دائمًا في القعر" (القربان، ص 96).
لفهم سبب معاناة ياسر ومظلومة وعبد الله، لا بد من فهم طبيعة علاقتهم بدبش بوصفه مصدر معاناتهم. وفي العودة إلى هذه العلاقة، نجد أنها تقوم على الطاعة التي يختلف شكلها بين شخص وآخر. فمظلومة تُطيع دبش لأنه والدها، لكن طاعتها لا تخلو من خرقٍ هنا أو هناك، بمعنى أنها غير مطلقة، شأنها شأن طاعة ياسر الذي يُطيع دبش لأنه ربُّ عمله، غير أن طاعته ظاهرية مُهادنة تنطوي على رغبة بالتمرد، وإن بشكلٍ غير مباشر، حين تُتاح الفرصة لفعل ذلك.
وحدها طاعة عبد الله كانت مُطلقة إن لم تكن عمياء. فهي، في أحد جوانبها، شكلٌ من أشكال الإذعان والتبعية إذا ما اعتبرنا أن الإذعان يعني التبعية للآخر الذي يُسيّر ويقرّر ويأمر ويحكم. هكذا، لم يعد السؤال هنا عن سبب طاعة عبد الله لدبش فقط، بل عما جعلها عمياء مطلقة إلى درجةٍ فقد معها نفسه وكيانه: "طول عمرك بهذا الشكل، الناس يأكلونك وانت ساكت" (القربان، ص 98).
كيف يُصبح الإنسان ضحية ذاته؟
أول ما يمكن ملاحظته في طاعة عبد الله أنها راسخة ومتجذِّرة بشكل يوحي بأنها نتاج عوامل عديدة متراكمة جعلت منها جزءًا من حياته اليومية. وهي عوامل تراكمت أو جرت مراكمتها على قناعة راسخة شكّلها حدثٌ فارق من جهة، وطريقة تفسير هذا الحدث وسرده من قِبل طرفٍ آخر كان شاهدًا عليه، من جهةٍ أخرى.
يتمثّل هذا الحدث في وفاة والدته بعد ساعات من ولادته. أما من كان شاهدًا عليه، فهو خالته المتديّنة التي تكفّلت بتربيته وأقنعته، منذ صغره، بأنه هو من قتل والدته، وبأن موتها عقابٌ من الله ولعنة سيشقى في حياته بسببها: "كانت تعيِّره وتكرر: لن يغفر الله خطيئته مهما فعل. فشبّ عبد الله على المهانة والشعور بالذنب، واعتبر أن كل ما يُصيبه من الدنيا نوعًا من الانتقام" (القربان، ص 74).
يتّضح مما سبق أن طاعة عبد الله هي نتاج عوامل عدة يمكن تحديدها، أولًا، في تشكيل سردية خالته عن وفاة والدته لوعيه بحيث بات مقتنعًا، تحت ضغط هذه الرواية التي فُرضت عليه من قِبل سلطة رمزية تمثّلها خالته، بأنه مُذنب يستحق العقاب. وثانيًا، في استسلامه لطاعته والتعامل مع ما يجري معه بوصفه جزءًا من العقاب، وقدرًا لا يمكن تغييره:
"هذه قسمتي.
- قسمة.. لعنة على هذه القسمة.
- لطيفة، لا تتدخلي بشؤوني.
- لا، أريد أتدخل بشؤونك. أنت طول عمرك بهذا الشكل. الناس يأكلونك، وأنت ساكت. تستغفر الله، كأنك مذنب.
- أمي في قبرها حاقدة عليّ.
- اسكت. كأنك الوحيد الذي ماتت أمه عند الولادة.
- الوحيد" (القربان، ص 98).
نفهم الآن أن سبب شعوره بالذنب وقناعته بأنه يستحق العقاب، إضافةً إلى تديّنه الذي ساهم في ترسيخ قناعته هذه، هو ما جعله مُطيعًا مذعنًا إلى درجة أنه لم يحاول، على مدار 20 عامًا، تغيير أحواله أو حتى التفكير في ذلك على الأقل. فما يحدث له، في اعتقاده، مقدّرٌ لا يمكن تغييره. وطاعته لدبش، في هذا السياق، ردة فعل على استسلامه وقناعته بأنه لا يستطيع تغيير حياته. إنها، بمعنى آخر، وفي نظره، حتمية ليس بوسعه مواجهتها أو التمرد عليها، على دبش، لأنها فُرضت عليه من أعلى:
"هذا عقاب، عقاب في الدنيا قبل الآخرة.
- لم نفعل في الدنيا شيئًا نعاقب عليه.
- عقاب لي. أنت ما عليك! أنا الملعون بالدنيا والآخرة" (القربان، ص 103).
وما يُلاحظ في ممارسته لطاعته أنها تتطور مع مرور الوقت، وتُعيد إنتاج نفسها بصورة أشد تطرّفًا بفعل الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى جانب غياب الوعي. وجميع ما سبق تتحمّل مسؤوليته الدولة بشكلٍ أو بآخر. ما يعني أن عبد الله ضحية سلطة دينية واجتماعية وسياسية تُبرِّر بعضها. فخالته أقنعته بأنه مذنب عبر توظيفها للدين في بناء سرديتها عن وفاة والدته. وقد أعفت قناعته هذه المجتمع والسلطة من مسؤوليتهما تجاهه، ومن مسؤوليته تجاه نفسه.
ودبش، في هذا السياق، ليس سوى تجسيدًا للسلطة التي يُنظر إلى التمرد عليها، في ضوء العوامل السابقة، بوصفه إثمًا أو خطيئة طالما أن طاعته واجبة باعتبارها أمرًا مقدّر من الأعلى.
تحوّل عبد الله نتيجة استسلامه لواقعه وسعيه للتكيّف معه بدل تغييره، تابعًا للآخر يجد نفسه فيه ويعتمد عليه في تسييره بل وحتى تقرير مصيره. ولأن كل ما يقوم به لا يصدر عنه، نجد أنه غير فاعل في مكانه وزمانه ولا يتفاعل معهما أيضًا.
إنه، لذلك، شخصية بلا ذات وحضور وتاريخ، بل منزوع الوعي والإرادة. لذلك لا تتبدّل أحواله المادية في نهاية الرواية بفعل إرادته، وإنما نتيجة رغبة طرف آخر، هو حسن العلوان صديق دبش الذي استولى على ثروته بعد وفاته وتزوّج من ابنته مظلومة رغمًا عنها، مقابل طاعته له.
يتضح إذًا أن عبد الله لا يستطيع العيش دون "آخر" يسيِّره ويقرِّر عنه ويرسم مصيره. وهو بذلك يمثِّل نموذجًا فريدًا للإنسان المُذعن غير الفاعل في مكانه وزمانه. مع ذلك، لا يمكن فصل إذعانه، وسلوكه بشكل عام، عن الواقع السياسي والاقتصادي الذي هو، بالدرجة الأولى، نتاج فشل السلطة في توفير حياة أفضل لمواطنيها.
مجتمع تخلقه الطاعة وتُعيد تشكيله
تناول فرمان في "القربان" الطاعة بوصفها مظهرًا من مظاهر الحياة العراقية المسؤولة عن إنتاج الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي من جهة، وإنتاج الإنسان الذي يجسِّده عبد الله بما هو إنسان انهزامي مستسلم يرى نفسه في الآخر ولا يرغب في تغيير واقعه، الأحرى أنه منصرف عن التفكير في ذلك وينتظر من يخلّصه مما هو فيه، من جهةٍ أخرى.
وما يمكن ملاحظته هنا أن الطاعة وما يرتبط بها من عجز ورضوخ وتسليم بالأمر الواقع، هو حالة عامة لا مجرد سلوك فردي يقتصر على مظلومة وعبد الله. فإذا كانت هاتان الشخصيتان تُطيعان طرفًا معلومًا هو دبش ومن بعده حسن العلوان، فإن الطرف المجهول الذي يُطيعه المجتمع الذي تنتميان إليه وتعكسان أحواله، هو السلطة. وفي الحالتين حدّدت الطاعة سلوكهم ورسمت مصائرهم أيضًا.
كما قامت بخلق مجتمع متشابه على اعتبار أنه: "في الطاعة فقط يجتمع الناس ويتشابهون ومن ثم لا يبقى المرء وحده. الطاعة تخلق الجماعة" كما يقول فريدريك غرو. ولهذا الاقتباس هنا معنى سلبي يرتبط بكون الطاعة تُلغي فردانية الأفراد وتُحيلهم إلى جماعة أو ربما حشد. هكذا يكون فرمان قد التقط في "القربان" بعض ملامح دور الطاعة في تشكيل سلوك الإنسان وخياراته ونمط عيشه، وقام – ضمنًا – بربطه بالواقع السياسي والاجتماعي الذي هو نتاج طاعة الجماعة للسلطة أو عجزها عن التمرد عليها. ولا بد من الإشارة إلى أن معظم التغيّرات السياسية التي جرت في العراق، إن لم يكن جميعها، قد حدثت بمعزل عن إرادة هذه الجماعة التي لم يكن لها دورًا مؤثرًا في أيٍ منها.
نرى مصائر مشابهة في "النخلة والجيران" وإن كان حضور سؤالي الطاعة والعصيان هنا أقل مما هو في "القربان". فشخصيات هذه الرواية منيعة ضد التغيير، تُغيّر ولا تتغير، غير واعية ولا تملك إرادة، ومستسلمة لليأس بشكل كامل، يُحرّكها طرف قد يبدو غامضًا، لكنه في الواقع السلطة التي لا تستطيع التمرد عليها.
الطاعة شرط القبول في العائلة
تُقرأ "المسرات والأوجاع" لفؤاد التكرلي في سياق مختلف عن الذي نحاول قراءتها فيه الآن. فالشائع أنها رواية تميل إلى الفلسفة التي يميل إليها بطلها الذي يُعبّر من خلالها عن أحواله وشعوره بسطحية العالم وتفاهته ومعاناته، التي كانت ربما أساس ما تتضمنه الرواية من تأملات فلسفية حول أمور عدة تخص علاقة الفرد بذاته وبالآخرين وبالحياة عمومًا.
الرواية، في أحد جوانبها، تأملاتٌ مطوّلة في معاناة الفرد نتيجة الوعي المفرط والفهم العميق والمبالغ به للحياة. ومع أنها ليست رواية سياسية، رغم ما تتضمنه من إشارات إلى أحداث سياسية فارقة في تاريخ العراق الحديث - مثل ثورة تموز/يوليو 1958، وانقلاب شباط/فبراير 1958، وتشرين الثاني/نوفمبر 1958، وانقلاب البعث في تموز/يوليو 1968، والحرب العراقية الإيرانية - لكنه لا يمكن التعامل مع هذه الأحداث وكأنها عابرة لم تترك أثرًا ما على حياة شخصيات الرواية ومصائرهم، سيما بطلها الذي يبدو من الصعب تتبع مسار حياته دون ربط تحولاتها بتحولات المجتمع العراقي بوصفها نتاج تحولات سياسية.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الأحداث السياسية السابقة هي محاولات تمرد وإخضاع، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن الرواية تتناول، في أحد جوانبها، مسألة التمرد وتكلفة الخروج عن الجماعة بغض النظر عن طبيعتها وشكلها.
"المسرات والأوجاع"، في بداياتها، حكاية عائلة كبيرة تعدّدت أجيالها وتشعّبت لكنها حافظت على نمط حياة ثابت وملامح غريبة وفظة لا تتبدّل دفعت الآخرين إلى تسمية حارتهم بـ"حارة القرود". وتمثّل هذه العائلة جماعة يعود أساس تماسكها إلى شكلها وطبيعة حياتها وتواجدها في حيّز جغرافي واحد، إضافةً إلى أنها تتشارك السلوك والمظهر والمسكن رغم توسعها وتعدّد أجيالها.
ومع الوقت، يتحوّل ما سبق إلى هوية وشرط لبقاء الفرد داخل العائلة أو اعتراف الأخيرة به. لكن الأمر لا يخلو من استثناءات تمثّلت في خروج سور الدين، أحد أفراد العائلة، من مدينة خانقين نحو العاصمة بغداد التي اختار العيش فيها بعد زواجه من ابنة مأمور متقاعد. لكن ذلك لم يتجاوز كونه مجرد أخذ مسافة من العائلة دون وجود نية للتمرد، سيما أن نمط حياته لم يتبدّل بشكل جوهري، وكذلك المظهر الذي ورثه ابنه البكر الذي كان امتدادًا لعائلة عبد المولى.
لكن القطيعة مع العائلة، لناحية المظهر، تحدث مع ولادة توفيق، الابن الثاني لسور الدين، الذي سيخرج عن العائلة/ الجماعية مرتين؛ الأولى حين ولد بشكل يختلف اختلافًا جذريًا عن شكل عائلة والده بعدما ورث ملامح وجمال والدته وعائلتها، والثانية حين تبنّى سلوكًا يُعتبر شاذًا بمقاييس سلوك عائلته، ونمط حياة شكّلته ميوله الفردية. وإذا كانت وسامته مصادفة لا شأن له بها، فإن تمرده على نمط الحياة الذي يتوارثه أفراد عائلة والده كان بإرادته. وعلى هذا التمرد بُنيت شخصيته وتشكّل موقف عائلته منه وسلوكها تجاهه. ولذلك فإن التمرد الذي يتجسد في الخروج عن العائلة، يكاد يكون عصب الرواية.
ذواتٌ تُكتسب بفعل التمرد
اختار توفيق لنفسه نمط حياة قوامه البحث عن الحياة نفسها واختبارها بحيث يكون فاعلًا ومتفاعلًا في مكانه وزمانه لا متفرجًا فقط كما هو حال معظم أفراد عائلته، التي كتب سلوكهم تاريخها ورسم أيضًا مصائرهم التي لا تشبه مصير توفيق الذي يبدو وكأنه تكلفة تمرده على العائلة.
تمثّل عائلة توفيق، في تركيبتها ونمط حياتها، شكلًا من أشكال السلطة التي ترى في الطاعة ما يضمن استمرارها كـ"جماعة". وما يلفت الانتباه أن من يمارس الضغط عليه من عائلته هي والدته التي وإن كانت من عائلة مختلفة، لكنها تتشارك مع عائلة زوجها نمط الحياة نفسه الذي يجعل من العائلة "جماعة" تفرض على الفرد شروطًا وواجبات بقدر الحقوق التي تمنحها له.
تُحاول والدة توفيق في البداية السيطرة على ميوله الفردية وإبقائه داخل العائلة يخضع لشروطها وإن تعارضت مع رغباته وإرادته ونمط حياته. لكن توفيق يواصل الابتعاد عنها ويستمر في ذلك حتى حين يبدأ بدفع تكاليف ذلك ويُصبح، بالتدريج، مُبعدًا ومحاطًا بما يجعله عرضة للوصم داخل العائلة إلى أن يُصبح شريدًا، دون انتماء أو روابط عائلية واجتماعية، وكأنه وُجِد وحده منذ الأزل.
رغم ذلك، ومع أنه أصبح تائهًا معذبًا ومنقسمًا على نفسه، لكنه – وعلى العكس من عبد الله في رواية فرمان – امتلك شخصيةً وذاتًا وحضورًا وتاريخًا بل وفلسفةً ما كان ليمتلكها لو أنه لم يتمرد على النظام والمُثل والضوابط والقيود السائدة في عائلته، حيث لا يمكن للفرد أن يكون فاعلًا ومتفاعلًا مع محيطه إلا بقدر ما تسمح العائلة، وهو ما رفضه توفيق الذي كان فاعلًا ومتفاعلًا بل وواعيًا بما يدور حوله، ويملك نظرته في الحياة والناس والمجتمع.
لم يكن توفيق يتعامل مع الحياة على أنها مجرد أيام تمضي فقط، بل هي مكانٌ يجب أن يُكتشف وتجربة مفتوحة لا بد من عيشها واختبارها حتى نهايتها. وكان بذلك يحافظ على ذاته وعلى كونه إنسانًا يملك رغباته وتناقضاته، واعيًا بما يفعل ومدركًا له ولعواقبه أيضًا.
خاتمة
قدّم غائب طعمة فرمان في "القربان" مثالًا على مصير من يُطيع ويذعن في سياق تناوله للطاعة بوصفها مظهرًا من مظاهر الحياة في العراق آنذاك. وفي جانب منها، تُساعد الرواية في فهم تطبيع الطاعة وتحويلها إلى جزء من الحياة اليومية للفرد. وهي لذلك لا بد أن تتضمن بُعدًا سياسيًا على اعتبار أن الطاعة هنا ليست طاعة عبد الله لدبش، وإنما طاعة المجتمع للسلطة المسؤولة عن أحوالها البائسة. ما يعني أنها تُقارب هذا المفهوم، أو تكاد، بوصفه سببًا رئيسيًا لما يعانيه المجتمع. لكن الثابت أنها، في مجملها، سؤالٌ يمتد منذ بدايتها حتى نهايتها: لماذا تغضب شخصيات الرواية، تتذمر، تمتعض، لكنها لا تستطيع في المقابل التمرد أو العصيان؟
أما في "المسرات والأوجاع"، فنشاهد ما يتكبده الفرد إن قرر الخروج عن العائلة بوصفها جماعة. والخروج هنا أو التمرد مسألة سياسية بالدرجة الأولى. وما يلفت الانتباه هنا أن توفيق عاصر الكثير من التغيّرات السياسية التي جرت بفعل انقلابات عسكرية تدخل ثنائية الطاعة والعصيان في صلبها.