مع اندلاع الحرب في السودان، مُتمركزةً في الخرطوم، ومُتمدِّدة زمانيًا لتتجاوز السنة، ومكانيًا لتشمل عشر ولايات، من أصل سبع عشرة ولاية؛ لم يخسر السودانيون ما لا يحصى من آلاف الأنفس والأعيان المدنية فحسب، بل يتعرضون في كل يوم يمضي على تنامي الصراع المسلح إلى فقدان ذاكرتهم المكتوبة والمرئية والمسموعة على حد سواء: مكتبات عامة وخاصة، أراشيف الإذاعة والتلفزيون، ودار الوثائق القومية، دور النشر، ومخازن الكتب النادرة التي تتبرج كل صباح بين يدي باعة الكتب على أرصفة العاصمة، المتاحف متنوعة الطابع.
وقبل أن يشكل ما سبق ذاكرة ووجدانًا، مثّل لأمد طويل أحد مصادر المعرفة والبحث والكتابة لدى الأدباء والأكاديميين والبحّاثة عامة ممن بذلوا حياتهم غوصًا في تاريخ وثقافة لطالما عانتا التجاهل والإهمال، ولطالما لفَّهما الغموض عفوًا أو قصدًا. والمجال لتعداد ما يتعرض للفقدان من تلك الأعيان الثقافية والعلمية بسبب الحرب واسع بسعة السودان نفسه، إذ لا يمكن تقديره إلا بعد انقضاء الحرب إن كان لها من انقضاء قريب. وعلى هذه الحال، فما نجا من مصادر القراءة والكتابة والمشاهدة، من آفة الإهمال طوال العهود الوطنية، منذ استقلال السودان، فهو الآن على مرمى مدافع ومسيرات وطائرات طرفي الصراع، اللذين حوّلا شوارع المدن السودانية وأسواقها وأزقتها إلى ساحات وغى عبثي تتبخر منها روائح الجثث وتتناسل مشاهد الخراب الشامل.
نشأت مدينة الخرطوم، حديثة التكوين نسبيًا، منذ قرنين. وهو عمر ضئيل مقارنةً بتاريخ المدن في السودان والعالم. ولكن، رغم ذلك، فنصيبها أيضًا ضئيل من رشد التخطيط ومواكبة التحولات الاجتماعية قياسًا بأنها عاصمة لبلاد ضخمة الخارطة ومتنوعة التكوين مرت بحروب ومجاعات وتغيرات بيئية وسكانية كبرى. كما أن تكوينها مثقل برغبة ظاهرة في تمحور الحياة المدنية في رأس المثلث الرابط بين نهرين ينبعان من أقاصي شرق ووسط أفريقيا، فنشأت الحياة السكانية بصورة عفوية، دون إعمال حكمة تخطيط المدينة واستشراف مستقبلها، واستُنسخ هذا الطابع اللاواعي لعفوية التخطيط والرغبة في التمركز بالمدينتين المجاورتين لها، الخرطوم بحري وأم درمان.
جاور ذلك الطابع العفوي الذي تتجلى فيه الرغبة المحكمة في تمركز الحياة والخدمات ومَرابض السلطة، ما بين المنطقة العسكرية الأولى في البلاد (قيادة الجيش) ومركز المدينة وسوقها الرئيس، وقصرها الرئاسي ومطارها ومستشفياتها ومقرات جامعاتها الرئيسة ومتاحفها ووزاراتها ومكتباتها العامة في مساحة مثلثة، إذ يمكن للرِّاجل إن جَهد أن يذرعها جيئة وذهابًا وقد لا ينفق أكثر من ساعتين أو ثلاث في ذلك.
ومن قبيل الصدفة الدالة - والتخطيط كيفما اتفق أيضًا - أن يتلاصق مبنى دار الوثائق القومية مع مقر منطقة الخرطوم العسكرية. وما زالت الدار الواقعة بين فكي ضاريَيْن مُتقاتلين، مجهولة المصير على أقل تقدير.
ظلت دار الوثائق القومية منذ إنشائها قبلة للباحثين الجادين، وتنبع أهميتها من أنها تُعنى بحفظ السجلات والأرشيف الحكومي إلى جانب الوثائق السودانية من مخطوطات وصحف وكتب ووثائق مختلفة، وقد أنشئت تحت الانتداب البريطاني بمسمى "مكتب محفوظات السودان" ثم سميت عام 1965 "دار الوثائق المركزية"، وفي عام 1982 باتت تحمل اسمها الحالي.
على الضفة الأخرى من النيل، تتوسطُ مباني الإذاعة والتلفزيون مدينةَ أم درمان، وتُعدُّ أول فريسة يلتهمها تنِّين الانقلابات العسكرية الذي يصحو باكرًا بعد كل ثورة شعبية، لاهثًا بألسنة من نار، ليغدو الاستيلاء عليها وإذاعة البيان الأول للانقلاب منها دليلًا كالشمس على السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد. يحدث هذا عند كل انقلاب عسكري. لكنّ ذلك ليس شأنًا من قبيل المفارقة إذا علمنا أن إنشاء الإذاعة السودانية في 1940، إبان الحرب العالمية الثانية، كان من المال المخصص للدعاية للحلفاء في حربهم مع دول المحور.
أما في الحرب الجارية، فقد تحولت مباني الإذاعة والتلفزيون إلى ثكنة يتبادل الطرفان السيطرة عليها، ولم يُقدَّر حتى الآن حجم التلف الذي أصاب أرشيف الإذاعة والتلفزيون الذي يضم تسجيلات منذ خمسينيات القرن العشرين، تتنوع بين الغناء والموسيقى والأفلام الوثائقية وغيرها من مصادر الثقافة السودانية المرئية والمسموعة.
أما المكتبات الجامعية، فمنها ما دمّر مثل مكتبة محمد عمر بشير بجامعة أم درمان الأهلية، ومنها ما ينتظر في الوقت الذي تواجه فيه دور النشر التجارية والمكتبات مصيرًا مجهولًا.
وفي تموز/يوليو الماضي، انتشرت أنباء عن احتراق "الدار السودانية للكتب"، بشارع البلدية، وسط العاصمة الخرطوم، قبل أن يُنفى الخبر في اليوم التالي عن طريق فيديو انتشر على وسائط التواصل الاجتماعي. وتعد الدار أضخم وأعرق دور النشر والتوزيع التجارية بالسودان، وكان بداية تأسيسها في العام 1973.
ودخلت منطقة "النقعة والمصورات" الأثرية، بولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم، في دائرة العمليات العسكرية في كانون الثاني/يناير الماضي.
وعلى صعيد ما يحدث في المناطق البعيدة نسبيًا من دائرة الحرب، استيقظ مواطنو جزيرة صاي شمال السودان، نهاية نيسان/أبريل الماضي، على أصوات آلات تنقيب عن الذهب تدخل حدود مواقع أثرية عمرها آلاف السنوات.
وتحت غائلة المصير الغامض، تقع ثلاثة متاحف: المتحف القومي، متحف الإثنوغرافيا، ومتحف التاريخي الطبيعي؛ إضافةً إلى متحف السلطان علي دينار بمدينة الفاشر غربي السودان. وكل هذا غيض من فيض.
ما قبل الحرب وعاقبة الإهمال
في مطلع السبعينيات، حمل الكاتب والصحفي السوداني الجليل حسن نجيلة نسخة نادرة من كتاب "أعراس ومآتم" للناقد السوداني الأمين علي مدني، الصادر بعد وفاته في 1927م، إلى دار الوثائق المركزية، موصيًا مسؤوليها آنذاك بإعادة طباعة الكتاب، وقد نفدت نسخه.
وبالفعل طبعت الدار الحكومية نسخًا من الكتاب النادر في العام 1974. لكن بعد ما رَبَا على خمسين عامًا عاد الكتاب مرة أخرى إلى منزلة الندرة، ولم يجد من يوصي بطباعته، ولن يجد من يطبعه، ولكن بفضل تطور التكنولوجيا الرقمية، استطاع جنود سخرهم الله لرقمنة الكتب، تحويل إحدى نسخه الورقية إلى صيغة "بي دي إف" (PDF).
قد لا يجد المتجول بين أرصفة فريشة الكتب وبعض المكتبات ودور النشر بالخرطوم كثيرًا من العناوين الصادرة في العقود الأولى من القرن العشرين، إلا بعد مكابدة وبحث مضنٍ، بسبب نفاد كثير من طبعاتها، وقد تُعد تلك العناوين من أمهات الكتب السودانية. فمثلًا، إن كنت باحثًا عن آثار الناقد والشاعر حمزة الملك طمبل، ديوان "الطبيعة" الصادر في 1931م، أو مؤلفات مؤرخ السودان محمد عبد الرحيم، أو ديوان للشاعر إبراهيم عبد العاطي، أو يوسف مصطفى التني؛ فلن يكون ذلك أمرًا سهلًا.
بدأت رحلة الطباعة في السودان عام 1835، في ظل الحكم التركي (1820 – 1885)، حيث تأسست مطبعة حجرية صغيرة كانت تصدر منها مستندات الحكومة الرسمية، ثم عرف السودان أول مطبوعة، وهي "الغازيتة" الرسمية، في سنة 1898.
افتتحت أول مكتبة في السودان في العام 1902 "سودان بوكشوب"، ثم تلتها المكتبة الأهلية عام 1907م، وأسسها الشيخ مضوي، ثم مكتبة الخرطوم بوكشوب، ثم مكتبة النهضة عام 1929، إضافةً إلى المكتبة الثقافية بأم درمان عام 1940.
ونشر القاضي إبراهيم صديق كتاب "طبقات ود ضيف الله"، عام 1929، وطبع في القاهرة ووُزِّع عبر المكتبة الأهلية. وقد آلت كل تلك الدور إلى الإغلاق لسبب أو لآخر، وآخرها كان مكتبة مروي بوكشوب.
وفي العقود الأخيرة التي سبقت حرب 15 نيسان/أبريل، يحدث دائمًا أن تُنقِذُ صدفة أو مبادرة فردية كتابًا من أتون النسيان والعدم، بينما تنشغل أجهزة الدولة المعنية بشؤونها الديوانية، فتتحول الطبعات القديمة إلى عملات نادرة متداولة بين جماعات أخوية في المدينة، أو يجري تصويرها في نسخ ورقية أو إلكترونية. والحال كهذا تختفي طبعات وتظهر طبعات أخرى، بين أكشاك البوسطة بسوق أم درمان والأرصفة التي تحتضن الكتب بوسط الخرطوم.
ظل حال النشر في السودان، منذ استقلاله، مناظرًا لحاله السياسي، إذ يتقلب مع تقلب الأنظمة من ديكتاتورية إلى ديمقراطية كسيحة. ومنذ استقلاله، لم يحظَ السودان بدار نشر حكومية عامة بالمعنى الشمولي، مثلما بات تقليدًا في عدد من دول الإقليم، بل ظلت المؤسسات الحكومية المعنية بالنشر والثقافة والمعرفة رهينة بتوجهات الأنظمة المختلفة، منذ حقبة الاستعمار وحتى ما بعد الاستقلال.
وفي العام 1967، تأسست دار جامعة الخرطوم للنشر وعُنيت بطباعة ونشر البحوث العلمية، إضافةً إلى الأعمال الإبداعية، وأشرف عليها كبار الأكاديميين والمثقفين حتى أطبق على البلاد نظام الإنقاذ في العام 1989، ليهمش مهمة الدار لتصير تحت رحمة البيروقراطية، ومثلها دار النشر التربوي التي ساهم في تأسيسها في أربعينيات القرن العشرين الدبلوماسي عوض ساتي، لتُعنى بطباعة قصص ومجلات الأطفال، إضافةً إلى مهمتها الأساسية في طباعة الكتاب المدرسي.
وفي سبعينيات القرن العشرين، في ظل نظام جعفر نميري، تأسست مصلحة الثقافة وأدارها الشاعر والناقد والأكاديمي د. محمد عبد الحي، لتتمكن من طباعة ونشر سلسلة الثقافة للجميع، وإصدار مجلة الثقافة السودانية في 1976، وتحولت إلى مجلس للثقافة والآداب والفنون في حقبة نظام الإنقاذ دون أن تترك من بعد ذلك أثرًا ذا بال. وفي العقدين الأخيرين، تأسست هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، وهي هيئة ذات إدارة ولائية. ومثلها مثل سابقاتها، كانت رهنًا لتقلبات السلطة ورغبتها في الاستحواذ على مجال الثقافة والكتابة والمعرفة.
جميع تلك الدور والمؤسسات كانت تعمل على نحو فرعي كامتداد لمؤسسات أكبر كوزارة الثقافة وجامعة الخرطوم ووزارة التربية والتعليم وحكومة ولاية الخرطوم، لكن لم يتهيأ لمؤسسة طباعية أن تكون جامعة لشتات المؤلفات والمخطوطات، أو أن تكون هيئة عامة وقومية تُتاح لها إمكانات الدولة للطباعة والنشر على نحو دائم.
دفع هذا الفقر المؤسسي في مجال النشر، خلال العهود الوطنية، عددًا مقدرًا من الكتّاب السودانيين المرموقين إلى الطباعة خارج حدود البلاد، في لبنان ومصر وسوريا وغيرها من بلاد الله. فطُبعت معظم دواوين الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب في السبعينيات بلبنان، وكذا الباحث الموسوعي هنري رياض، وغيرهما كثير من الرموز الإبداعية والثقافية في السودان.
ولو كانت هناك من فضيلة للحرب الأخيرة على المعرفة العامة بالسودان، فهي التنبيه لما يمكن أن نفقده من ذاكرة ثقافية، والمناداة بحفظ المواقع الأثرية، وضرورة جمع ما تبقى من مخطوطات وكتب نفدت طبعاتها رقميًا، خاصة مع ضعف المحتوى السوداني على شبكة الإنترنت.
عذرًا أصدقائي الكتب!
لم يخطر لي مرةً ذلك الاحتمال، كان كل شيء مستقرًا في مكانه.
بعد انقضاء شهرين من استمرار الحرب، أدركتُ أنها ليست مجرد حدث عابر، فقررت حزْمَ أبسط الأشياء للرحيل، وقد بدا أنه دون غاية ودون عودة أيضًا: الأوراق الثبوتية، وحاسوب محمول، وبعض الملابس في كيس بلاستيكي.
أحتاج إلى بعض الكتب، أحتاج إليها جميعها، أتساءل: إذن ما الأهم الذي يمكن حمله بينها؟ أيضًا ما الأخف الذي يمكن حمله في حقيبة الحاسوب؟ وبين السؤالين دارت سنوات عشرين أنقب فيها عن الكتب بين الباعة المفترشين بأرصفة المدينة والقدْر اليسير من المكتبات والمعارض السنوية والموسمية وغير الموسمية بالسودان. بعضها نوادر وأخرى مهمة ولا يُستغنى عنها، بل إنها شكّلت جزءًا من كدحي اليومي متنقلًا بين البيت والعمل حيث تدور الأفكار والقراءات في ضيق اليوم.. جميعها مهمة.
كانت فكرتي من إنشاء المكتبة المنزلية نابعة من فعل أسري مُتوارث، مؤسس على ضرورة توافر الكتاب متاحًا متى للعين واليد ومن قبلهما القلب والعقل معًا. وبإجالة النظر على نحو سريع ومباغت، وتفاديًا للوقوف طويلًا على ما سيكون طللًا للمكتبة عما قريب، التقطتْ العين واليد كتابين أحدهما "بندر شاه" للطيب صالح والآخر ديوان شعري بطبعة نادرة للشاعر الشعبي السوداني القدير الشيخ محمد ود الرضي. وبين الطيب صالح وود الرضي أواصر شديدة الاتصال في استبطان الأدب السوداني لمقولات المجتمع وجمع شتاته.
أفكر الآن في السبب الذي دفعني في تلك اللحظة المشحونة بالمخاوف والهواجس الشخصية لاختيار هذين الكتابين تحديدًا، من بين ما يربو على ألفي كتاب ربما، ليكونا رفيقَي في رحلتي غير محددة الاتجاه من أجل النجاة، والنجاة بالنفس فقط، فاختيار الكتاب كاختيار الصديق، والصداقة هي العزاء الأكبر لوحدتنا في الحياة. وها هي الحرب تلتهم بيوتنا السودانية المبنية بطين البساطة الموغل في بدائيته، وليس من درب سوى الهروب، فعذرًا أصدقائي الكتب.
وعلى هذه الحال، كان فقدان المكتبات الشخصية مأساويًا من ناحية عاطفية بالنسبة لمنقبي الكتب بأنواعها. ومن جانب آخر، ومع الأزمة التي يعانيها الكِتاب السوداني من حيث طبعه ونشره ونفاد كثير من النسخ النادرة التي تضم المكتبات المنزلية عددًا مقدرًا منها، فإننا نخسر كل يوم ما لا يحصى من ذاكرة ثقافية، ثقبها الإهمال من قبل، وستُبيد الحرب من تبقى منها. فالذاكرة والوجدان والثقافة هي آخر ما يعني أدعياء الحرب.