سلافوي جيجك وفلسطين

سلافوي جيجك.. لماذا هو على خطأ دائمًا عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين؟

21 أغسطس 2024

قبل أكثر من 20 عامًا، قال الأكاديمي الفلسطيني جوزيف مسعد، الذي تلقى مؤخرًا تهديدات بالقتل بسبب دفاعه عن حق شعبه في مقاومة الاحتلال، إن طرح الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجك بشأن المسألة الفلسطينية يفتقر إلى الابتكار على الرغم من مَكْرِه. وللأسف، لا يزال وَصْف مسعد صائبًا بعد كل هذا الوقت.

في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشر جيجك مقالة في "بروجيكت سينديكيت" بعنوان "الخط الفاصل الحقيقي بين إسرائيل وفلسطين"، عن الحرب بين إسرائيل و"حماس". والمقالة في مُجملها عبارة عن جُمَل عادةً ما نسمعها من اليمين، مثل: "يمكننا، بل وينبغي لنا، أن ندعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإرهابية من دون قيد أو شرط"، تصطفُّ إلى جانب أُخرى قد تبدو أكثر يسارية، مثل: "من السخافة لوم الفلسطينيين على رفضهم التفاوض مع إسرائيل. فالبرنامج الرسمي للحكومة الحالية يبعد المفاوضات عن الطاولة". 

ومع ذلك، فإن موقف جيجك الأساسي الواضح هو إضفاء تناظُرٍ بين إسرائيل والفلسطينيين. بالنسبة إليه، المسألة ليست صراعًا بين مُستَعمِر ومُستعمَر، أو قوات احتلال وشعب مضطهد، أو دولة فصل عنصري وسكان أصليين يتعرضون للتطهير العرقي؛ وإنما صراع أصوليات أو أصوليين. يقول: "الخيار لا يكمن في فصيل متشدد أو آخر؛ إنه بين الأصوليين [من الجانبين] وكل أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بإمكانية التعايش السلمي". يبدو الوضع هنا وكأنه نزاع سياسي بين صقور طرفين متماثلين في القوة، نزاع لا مكان فيه للحمائم!.

ولكن، كما يقول الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي: "هذا التناظُر غير موجود. بل إنني قد أقترحُ أنه لا يوجد صراع. هل كان هناك صراع فرنسي جزائري؟ كان هناك احتلال فرنسي وحشي في الجزائر، والذي وصل إلى نهايته. ولا يوجد صراع إسرائيلي فلسطيني، وإنما احتلال إسرائيلي وحشي ينبغي أن يصل إلى نهايته بطريقة أو بأخرى". 

بالإضافة إلى ذلك، يصوِّر جيجك مشكلة العنصرية الإسرائيلية وكأنها شيء وُلِد فقط عندما تحالف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو مع اليمين الديني المتطرف في كانون الأول/ديسمبر 2022، على نحو يطمس حقيقة أن إسرائيل عنصرية بنيويًا، وأن فكرة "التفوق اليهودي" صاحبتها منذ لحظة تأسيسها.

الحل أو "الطريق إلى الأمام"، بالنسبة إلى جيجك، يكمن في: "محاربة حماس وفي الوقت نفسه التواصل مع الفلسطينيين غير المعادين للسامية والمستعدين للتفاوض". وإذا كنت تسأل من أرشد جيجك إلى هذا الحل المُبتكر، فإنه إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الفاسد الذي قاد "عملية الرصاص المصبوب" على غزة في 2008-2009، حيث ارتكب "جيش الدفاع الإسرائيلي" فظائع ترقى إلى جرائم حرب. ومن بين كل مجرمي الحرب الذين قادوا إسرائيل، قرر جيجك الاستشهاد بأولمرت الذي لديه تاريخ خاص وموثَّق بقوة من العداء لغزة.

في معرض فرانكفورت للكتاب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي قاطعه العديد من المؤلفين والناشرين بعد إلغائه نقاشًا عامًا مع الروائية الفلسطينية عدنية شبلي، صرَّح جيجك قائلًا: "إن الهدف الحقيقي لهذا الهجوم [الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر] كان تأبيد الحرب، الحيلولة دون أي إمكانية لعقود من السلام". وجيجك لا يشير إلى حصار إسرائيل لغزة، المستمر منذ 16 عامًا، على أنه هو ما يؤبِّد معاناة الشعب الفلسطيني ويحول دون أي فرصة للسلام.

أيضًا، استشهد الفيلسوف "الشيوعي المحافظ بشكل معتدل"، كما يُعرِّف نفسه وأيًا كان ما يعنيه ذلك، بالكاتب النيوليبرالي الصهيوني يوفال هراري على أنه صوت إسرائيلي معتدل. والأخير، الذي يُسوَّق في الإعلام الغربي مؤخرًا على أنه وجه عقلاني ومتأمِّل، قال في حوار مع "سكاي نيوز" في 26 شباط/فبراير الفائت إن الصراع الداخلي في إسرائيل اليوم هو بين الوطنية والتفوق اليهودي، مُشيرًا إلى أن مُشكلات الحاضر سببها الابتعاد عن المثال الوطني العلماني الذي بنيت عليه إسرائيل. وكما لو أن إسرائيل دولة ما بعد استعمارية اعتيادية، يُقلِّص هراري، المعروف أيضًا بمفاهيمه الاختزالية حول الجنس البشري، البنية التحتية العنصرية والإبادية لإسرائيل إلى صراع بين ليبراليين ومحافظين جدد.

يمكن عند التمعُّن في كتابات جيجك حول قضايا الشرق الأوسط، عمومًا، التعرف على نمط أساسي متكرر يحكم وجهات نظره بشأن المنطقة: المنظور المركزي الأوروبي. في الحالة الفلسطينية، مثلًا، يسحب جيجك المشكلة الأوروبية التاريخية مع اليهود، أي معاداة السامية، ويقرأ من خلالها الوضع في المنطقة، على نحو يتعامى عن رؤية الاحتلال بوصفه المشكلة الجوهرية.

وكما يقول مسعد: "إن ما يثير قلقه أكثر ليس العنصرية التأسيسية للصهيونية ونِتاجها الملموس، الدولة اليهودية العنصرية، ولا المناهج العنصرية في المدارس اليهودية الإسرائيلية، أو التصوير العنصري في وسائل الإعلام اليهودية الإسرائيلية للفلسطينيين، أو التصريحات العنصرية للزعماء اليهود الإسرائيليين في اليمين واليسار، أو حقوق وامتيازات التفوق اليهودي التي توجِّه الصهيونية وقوانين وسياسات الدولة الإسرائيلية - والتي تبدو جميعها ذات أهمية قليلة بالنسبة إليه - بل (معاداة السامية) العربية التي لا ينبغي (التسامح معها)".

في لقاء مع المجلة البريطانية المحافظة "ذي سبيكتاتور"، في أواخر عام 2023، يتحدث جيجك، الذي لا يثق بـ"الأرقام الفلسطينية"، عن "الضرر غير المعقول" الذي تسبَّبت فيه الفظائع الإسرائيلية في غزة لليهود حول العالم، وكيف تُفجِّر المزيد من معاداة السامية. مرة أخرى، تتضاءل معاناة الفلسطينيين أمام معاداة السامية في طرح جيجك.

وقد تجلى هذا المنظور المركزي الأوروبي "الجيجكي" بصورة قصوى أخرى خلال "أزمة المهاجرين الأوروبية" في عام 2015، حين وصف اللاجئين بأنهم: "يأتون من ثقافة لا تتوافق مع المفاهيم الأوروبية الغربية لحقوق الإنسان"، أو قال إنهم يوقِعون الأذى بالنساء الأوروبيات لأن: "ما يفعلونه غريب عن ثقافتنا السائدة. وهم يفعلون ذلك بالتحديد لجرح مشاعرنا".

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن دعم جيجك لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإرهابية من دون قيد أو شرط" ليس أول نوباته الإبادية. فعندما سُئل عن رأيه في قصف "حلف شمال الأطلسي" ليوغوسلافيا السابقة في عام 1999، قال: "بصفتي يساريًا، بالضَّبط، فإن إجابتي عن معضلة (قصف أم لا؟) هي: لا يوجد ما يكفي من القنابل، بل هي عادةً ما تأتي متأخرة جدًا".

وفي لقائه المُشين مع المُحاوِر المُحافِظ بيرس مورغان في منتصف آذار/مارس، قال جيجك متحدثًا عن الروس: "إنهم في حالة عودة تامة إلى الأصولية الدينية. إنهم يصوِّرون الحرب في أوكرانيا على أنها حرب الحضارة المسيحية ضد الشيطنة الخبيثة، وما إلى ذلك. إنهم ليسوا بأقل حال من العرب. إنهم، اليوم، بأسوأ معنى للكلمة، أصوليون دينيون متعصِّبون". هذه النظرة للعرب، الذين يصوَّرون هنا كمرجع في التزمُّت الديني، هي نفسها التي قادت جيجك، بُعيد الربيع العربي، إلى نتيجة أن العرب غير مؤهَّلين للديمقراطية - وهو ما يذكرنا بالتصريح سيئ السمعة لرئيس مخابرات حسني مبارك، عمر سليمان، الذي أدلى به في حوار مع كريستين أمان بور في 3 شباط/فبرير 2011: "بالتأكيد، الجميع يؤمن بالديمقراطية. لكن، متى؟ متى سيكون الناس هنا مؤهلين للديمقراطية؟". 

الفيلسوف الأناركي الأميركي نعوم تشومسكي، وهو صديق تاريخي مُخلص للفلسطينيين، يرى في جيجك سليلًا لأسرة من المثقفين مُتبجحة نظريًا من دون أي استراتيجية سياسية. هذه الأسرة فرنسية بامتياز، وهي لطالما كانت مصدر إحباط سياسي بالنسبة إلى تشومسكي - الذي يُعَدُّ جاك لاكان، أحد مصادر جيجك الرئيسة للإلهام، بالنسبة إليه "محض دجَّال" - وقد شارك المنظِر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد تشومسكي الكثير من نقده لهذه المدرسة. طبعًا، الصراع النظري بين التقليدين الأنغلو-ساكسوني والقارِّي يظهر بشكل أكبر في حالة تشومسكي، حيث كان سعيد بشكل أو آخر سفيرًا "للنظرية الفرنسية" في الولايات المتحدة.

إن استفزازية وانتقائية وكلبية خطاب جيجك لم تُنتِج أي موقف تقدمي مُتسق في أي مسألة، ولهذا من غير المنطقي توقُّع ذلك منه في المسألة الفلسطينية، التي هو على خطأ دائمًا بشأنها. وإذا كان هناك من يعتقد أن جيجك صديق للفلسطينيين، فالرد الأفضل هو المثل القائل: "مع أصدقاء مثل هؤلاء، من يحتاج إلى أعداء؟". 

الكلمات المفتاحية