كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية البشعة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة عن تهافت الخطاب الأخلاقي الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية التي تنصّب نفسها حاميةً للعالم الحر وراعيةً لحق الشعوب في تقرير مصيرها. فما جرى على أرض الواقع كان من الفجاجة بحيث ينسف أي صورة أخلاقية تدّعيها الحكومات الغربية، وتمارس عبرها الاستعلاء على بقية شعوب العالم، التي تُصنَّف على أنها أدنى في سلم الترقي الحضاري، وتعاني من السلطوية وغياب المساواة والحرية والعدالة، وهي قيم تدعي أميركا، وبعض الدول الأوروبية من خلفها، امتلاكها إلى درجة احتكارها.
لكنها ارتكبت هنا كل الجرائم الأخلاقية التي تتهم خصومها بها، وظهرت وكأنها تسترجع الخطاب الاستعماري العنصري بكل حقارته ولا إنسانيته دفاعًا عن جرائم إسرائيل، وإقرارًا باستباحة أجساد الفلسطينيين ومصادرة حقهم في أرضهم.
الخطاب الأخلاقي الذي تتشدق به واشنطن، ومعها عواصم غربية عدة، تكشّف عن بنية خطاب استعماري راسخة، تنظر من خلاله إلى بلاد العرب بدونية شديدة وعنصرية مقززة، فلا تكترث بالدماء المسفوكة، ولا تتوقف عند المدن المقصوفة، طالما أن القاعدة الاستعمارية الغربية المتقدمة والمدعوة "إسرائيل"، تنفذ دورها في اختراق المنطقة وإخضاعها لشبكة مصالح النظام العالمي، بحسب ما يراد للمنطقة من تصورات تبدأ بتصفية القضية الفلسطينية، وتنتهي بمصادرة مفاتيح الفعل واتخاذ القرار ووضعها حصرًا في يد واشنطن، عبر وكيلتها الإقليمية تل أبيب. لذا، تم التضحية بأي التزامات مبدئية وشعارات قيمية على مذبح المصلحة بأشد الوسائل انحطاطًا وفجاجة.
والشواهد على استخدام الخطاب الأخلاقي بشكل مثير للغثيان من قبل الحكومات الغربية أكثر من أن تُحصى. فالمذابح التي تقوم بها إسرائيل بشكل يومي في غزة ثم لبنان، لم تعد محل إدانة أميركية، بل تحظى بتبرير سمج رغم ارتفاع حصيلة الضحايا الرسمية في غزة إلى أكثر من 40 ألفًا منذ اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مع توقعات غير رسمية بارتفاع العدد إلى حدود 200 ألف بعد رفع الأنقاض.
وبينما خرج الرئيس الأميركي جو بايدن مرارًا وتكرارًا ليعلن بوجه "حزين" عن تعاطفه العميق مع الجانب الإسرائيلي؛ فإنه كان يتحدث بلا مبالاة أو اكتراث بالجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، ولم يتعاطف بالقدر ذاته مع دمائهم المسفوكة. كما أنه يبني موقفه اللاأخلاقي هذا على الخلط المتعمد بين حركة "حماس" والشعب الفلسطيني، وجعل الاثنين في سلة واحدة لتبرير إبادة أهالي غزة العزل أخلاقيًا عبر وضعهم في سلة "الإرهابيين"، على حد زعمه.
تتجلى الازدواجية في خطاب واشنطن، ومن تَبِعها، في القول بأن الدفاع عن إسرائيل خط أحمر واعتبار ذلك موقفًا أخلاقيًا، بينما يجري غض الطرف عن جرائم الإبادة والتهجير القسري التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين العزل في تجاهل تام للقانون الدولي والإنساني، واحتفاء مستمر بأكذوبة أن "الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم"، بحسب تصريح لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يحظى بدعم عسكري أميركي وأوروبي غير مسبوق، عدا عن حمايته هو وعصابته من أي ملاحقة دولية.
وتواصل الإدارة الأميركية، ومعها عدة عواصم أوروبية رئيسية، دعم إسرائيل بالسلاح تحت شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، حيث قدمت الولايات المتحدة أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار. وفي المقابل، وحين يتعلق الأمر بأهالي غزة، اكتفت واشنطن وغيرها بتصريحات دون معنى عن ضرورة وقف إطلاق النار.
لقد تم نحر الخطاب الأخلاقي الذي صدعت به واشنطن ومعها لندن وباريس وبرلين، العالم به عندما وضعت قاعدة جديدة مفادها أن إسرائيل فوق القانون الدولي والمحاسبة، وأن الشعب الفلسطيني في مرتبة دنيا لا حقوق لهم ولا مسؤولية أخلاقية نحوهم، ما يسقط أي ادعاء أخلاقي غربي، بل ويعبّر عن العودة إلى سياسات استعمارية تعتمد الاستيطان المسلح والإبادة للشعوب الأصلية، وللدول الغربية تاريخ طويل في هذا المضمار.
دُهس القانون الدولي من قبل أميركا للسماح لإسرائيل بالاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب بكل أريحية، لم يكن أوقحها الضغط على المحكمة الجنائية الدولية لوقف ملاحقة نتنياهو ووزير حربه يؤاف غالانت، إذ قالت الإدارة الأميركية في بيان رسمي في أيار/مايو الماضي إنها ترفض طلب المدعي العام بالمحكمة الدولية، إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤوليين إسرائيليين وقادة من "حماس"، رافضةً المساواة بين الطرفين: "إنه أمر مخزٍ. فحماس منظمة إرهابية وحشية ارتكبت أسوأ مذبحة لليهود منذ الهولوكوست ولا تزال تحتجز عشرات الأبرياء رهائن، بمن فيهم أميركيون"، هكذا جاء نصا في بيان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
أما مجلس الأمن، فقد أُحيل إلى إجازة مفتوحة بسبب التعطيل الأميركي المستمر لأي حراك يستهدف إدانة الإجرام الإسرائيلي. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2023، استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو لإجهاض مشروع قرار مجلس الأمن لإقرار هدنة إنسانية في غزة. ورغم محاولات التقدم بمشروعات قوانين لإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، إلا أن واشنطن استخدمت حق النقض ضد أربع قرارات تدين تل أبيب، خلال الشهور الأولى من الحرب الدموية.
ولا توجد اتفاقية أممية إلا وانتهكتها إسرائيل في حرب الإبادة والتهجير القسري، فقد تم على سبيل المثال انتهاك كل بنود اتفاقية حقوق الطفل الأممية الموقعة في العام 1989، بعد قتل ما لا يقل عن 14 ألفًا من الأطفال في غزة، بمعدل 40 طفلًا كل يوم منذ اندلاع الحرب، بحسب جيمس إلدر، المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، في تصريح له خلال تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لافتًا إلى أن أطفال غزة: "يعانون أذى يوميًا لا يوصف"، وأن غزة أصبحت: "التجسيد الحقيقي للجحيم على الأرض بالنسبة إلى مليون طفل فيها".
أمام هذا المشهد، كيف ستدعي أميركا وأوروبا وصاية أخلاقية في ملفات الطفولة وحقوق النساء وحرية التعبير؟ ومن سيصدقها بعد ذلك الموقف اللا أخلاقي في الحرب على غزة ولبنان؟ خصوصًا أن الحكومات تجاهلت الأصوات المطالبة بوقف الحرب، وتجلت في تظاهرات استمرت على مدار أشهر. ومن سينظر في المنطقة العربية إلى القانون الدولي الذي تدعي واشنطن النطق باسمه بجدية؟
التحركات الأميركية كشفت عن جوهر فلسفة الولايات المتحدة في تعاملها مع القانون الدولي، فهي تحتقره ولا تستخدمه إلا لخدمة أهدافها الاستعمارية بشكل وقح، فهو أداة يمكن استخدامها بكفاءة ضد أعداء واشنطن وحلفائها، وتثبيت هيمنتها العالمية، أو ضد الأنظمة المشاغبة والمهددة للمصالح الأميركية، كما هو حاصل في دعم أوكرانيا. لكنها على الوجه الآخر، لا تسمح بتاتًا باستخدام القانون الدولي وتطبيقه على واشنطن أو حلفائها، كما هو مسجل في حالة إسرائيل. ومن هنا السقوط الأخلاقي الكبير للقانون الدولي الذي تحول إلى قفاز للمصالح الأميركية، ما جعل الجميع يدرك عبثية النظام الدولي الحالي ومؤسساته العمياء.
تنافس ألمانيا الولايات المتحدة في دهس الخطاب الأخلاقي لصالح دعم غير مشروط لإسرائيل، وهي ثاني أكبر مورد أسلحة لدولة الاحتلال. فمن أول أيام الحرب وبرلين تصطف خلف جيش الاحتلال بكل صفاقة، وتتولى مهمة الدفاع عنه دوليًا، وهو ما وصل إلى ذروته بتصريحات وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، في تشرين الأول/أكتوبر الجاري، التي بررت فيها صراحة القصف الإسرائيلي على أماكن نزوح المدنيين الفلسطينيين في غزة، بزعم أن "الإرهابيين" يختبئون في المدارس والتجمعات المدنية، وذهبت إلى أن الهجمات الإسرائيلية تأتي في إطار الدفاع عن النفس، وسط تصريحات لكبار المسؤولين الألمان بالاستمرار في دعم إسرائيل بالسلاح لكي تتمكن من الدفاع عن نفسها.
المدهش أن الخطاب الألماني الرسمي الذي يرفض وصف ما يجري في غزة بالإبادة العنصرية، يؤسس على زعم التمسك بحجة مسؤولية برلين التاريخية عن قتل ستة ملايين يهودي في الهولوكوست خلال العصر النازي، فألمانيا تريد أن تتطهر بدماء الفلسطينيين من جريمتها في حق اليهود، وفي هذا ذبح علني لأي مرجعية أخلاقية يمكن أن يبرر بها الألمان موقفهم الرسمي المخزي، فأهالي غزة لم يشاركوا يومًا في أذية أي ألماني، ولا يوجد أي مبرر أخلاقي أو عقلاني في أن يدفعوا هم تحديدًا فاتورة جرائم النازي التي لم يشاركوا فيها أصلًا.
لقد مارست الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول أوروبية رئيسة، وصاية على المنطقة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي، بعد تصفية التجربة الناصرية، ورفضت المساس بأمن إسرائيل فسمحت لها بالعربدة كما تشاء، وارتكاب ما تشاء من مذابح وجرائم حرب وصولًا إلى أكبر مجزرة في العصر الحديث ضد الفلسطينيين، في مقابل إقناع العرب بالخنوع والاستسلام أمام المخططات الأميركية. واستخدمت واشنطن في هذا خطاب أخلاقي مزيف قوامه الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وحل الدولتين.
لكن على أرض الواقع الممارس، كان التزام واشنطن بأمن واستمرار وتمدد دولة إسرائيل فقط، عبر التخفف من أي قيود أخلاقية بالسماح لعصابات الصهيونية بارتكاب كل ما هو غير أخلاقي في قاموس الحروب الحديثة، لنصل في النهاية إلى حقيقة عالم قائم على قانون الغاب، حيث لا احترام فيه للمعايير الأخلاقية أو القوانين الدولية، إلا بمقدار ما تحقق من مصالح للقوى المهيمنة، وأننا أمام محض قوة غاشمة تفرض نفسها، وهنا أحد أهم الدروس المؤلمة للحرب على غزة، وهو درس على العرب تعلمه جيدًا، إذا توفرت إرادة سياسية يومًا تدافع عن حقوقهم، وتعرف أن الحقوق تحتاج إلى قوة تعيد تفعيل الخطاب الأخلاقي الذي عطله الغرب.