كيف سيكون جواب فلسطيني وُلد قبل الغزو الإسرائيلي إن سُئل عن مكان ولادته؟ وماذا لو كان السائل من شرطة الحدود لدولة الاحتلال؟ هل يمكنه أن يُسمي المدن والقرى الفلسطينية بأسمائها؟ قد يُشبه هذا مشهدًا من مشاهد الكوميديا السوداء في أعمال محمد الماغوط المسرحية، ولكن حدوث هذا الأمر وارد جدًا.
في مقاله "Nowhere Man"، المنشور في مجلة "New Humanist"، الخميس 31 أيار/مايو 2007- ونُشر في الأصل في عام 2004، يتحدّث عالم الاجتماع الفلسطيني الراحل إيليا زريق، الذي كان يقيم في كندا، عن تفاصيل استجوابه في مطار تل أبيب أثناء عودته إلى وطنه ولم يكن يحمل جواز سفرٍ إسرائيلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بما أنني عالم اجتماع فلسطيني كندي وأعيش في كندا، أشعر أحيانًا أن تجربة المرور عبر مطار بن غوريون وجسر اللنبي، خلال رحلاتي المنتظمة إلى فلسطين/إسرائيل على مدار العقد الماضي، علّمتني عن الحدود والهويات والدول أكثر من أعمالي الأكاديمية، ولكن بعدما بدأت أعتقد أن "الترحيب" الاستجوابي الذي تقدمه "إسرائيل" عند هذه النقاط الحدودية لم يعد يحمل أي مفاجآت، وقعت حادثة قدّمت لي درسًا غير متوقّع في كيفية هروب الحياة من قبضة الأيديولوجيا.
كما يحدث مع العديد من المسافرين الفلسطينيين، أتوقّع الخضوع لاستجوابٍ وتفتيش جسدي عند الوصول؛ فالمسافر بشكلٍ متكرّر إلى فلسطين/إسرائيل يعرف الأسئلة عن ظهر قلب ويجيب عليها تلقائيًا.
"من ستقابل؟ وما هو هدف زيارتك؟" هما سؤالان روتينيان إلا أن السؤال الأول غالبًا ما يكون "أين وُلدت؟" وأجيب عليه مشيرًا إلى جواز سفري الكندي "آكر، بالستاين" فعندما وُلدتُ كان يُطلق على هذه المنطقة بالفعل اسم فلسطين؛ و"آكر" هو المقابل الإنجليزي للاسم العربي "عكّا" مسقط رأسي في شمال البلاد.
والرد عادةً ما يكون "لماذا لا تُجيب بأن (عكو، إسرائيل) هي مسقط رأسك؟ فأجيب بأن تغيير الدولة للاسم جاء بعد ما يقرب من عقدٍ من ميلادي، ولم يكن ذلك باختياري؛ كما أن "عكو" لها نفس معنى كلمة "عكا" وبما أن لغتي الأم هي العربية، فأنا مُعتاد على الصيغة العربية أكثر من العبرية.
يحسم هذا الحوار الأمور في العادة، وغالبًا ما يتم منحي تأشيرة دخول على جواز سفري الكندي ويُسمح لي بالدخول إلى فلسطين/ إسرائيل وعكا/عكو، وتظهر الأسئلة الأكثر تطفّلًا عند مغادرة البلاد، فتبدأ بسيل من الاستفسارات: كيف قضيت وقتك؟ من رأيت؟ هل زرت الأرض المُحتلة؟ أين يعيش أقاربك؟ ما أسماؤهم؟ هل لديك رسائل دعوة؟ من دفع فواتير إقامتك في الفندق؟ وأين الإيصالات؟ من اشترى لك تذاكر الطيران وأين هي؟ هل تحمل أوراق "رسمية"؟ والعديد من الأسئلة الأخرى التي تعتمد على حالة يقظة المُحقق وحالة التأهب في الدولة بشكل عام.
أجد نفسي مهتمًا بشخصيات وأساليب التحقيق التي يتّبعها المسؤولون العاملون في شركاتٍ خاصةٍ تتولّى أمن المطارات إذ تُشكل هذه الشركات جزءًا من "القطاع الأمني" الضخم الذي تُروج له "إسرائيل" في جميع أنحاء العالم، ويُدار هذا القطاع على يد فائضٍ هائلٍ من العسكريين المتقاعدين وأفراد الاستخبارات، فـ"إسرائيل" دولة جاهزة لتأجير خبراتها وأصولها في مجال الأمن، ومستعدة لتدريب حكومات أخرى على فن "إدارة الأمن".
تختلف التجارب الفردية في مواجهة هذا الروتين، فما رأي هؤلاء الشباب (غالبية موظفي الأمن في الصفوف الأمامية في العشرينيات من أعمارهم) بوظيفتهم؟ وما رأيهم في مهامهم؟ لقد تم تدريبهم على التصرّف بمهنية والحفاظ على مظهرٍ رسمي، وتجنب بناء علاقات وديّة مع من يتم استجوابهم مع التزامهم بالأدب، وأن يتأكّدوا من استجواب كل فلسطيني وعربي-وفي الآونة الأخيرة- يهودي إسرائيلي أو أجنبي له سجلٌّ من النشاطات السياسية المعارضة لسياسات الحكومة في الأرض المحتلة.
ذات مرّة، ردّت إحدى المُحقّقات على معلومة أنني أستاذ جامعي في علم الاجتماع: "آه، لقد درستُ علم الاجتماع في جامعة بن غوريون"، فسألتها إن كانت ستواصل دراستها في هذا المجال، فقالت: "نعم، فأنا أعمل هنا لتوفير المال لإكمال دراستي". سألتها من درّسها علم الاجتماع في تلك الجامعة، فقالت: أوري رام، فقُلت لها: أوري رام؟ هل تلتقين به في هذه الأيام؟، فقالت: "إنها ستراه إن تقدمت لدراسة الماجستير في جامعة بن غوريون"، فقلتُ لها أن تُرسل له تحياتي الحارة إذ ذكر في كتابه عن علم الاجتماع الإسرائيلي العديد من الأمور الإيجابية عن أعمالي.
لقد ناقشنا العلاقة بين علم الاجتماع وعملها في المطار، فهي تعتقد أن هناك صلةً لا تكاد تذكر بين الأمرين إذ إنها تنظر إلى عملها بصفته وسيلة لتحقيق غاية، فالمال هو الهدف. لقد تم تأسيس علاقة وثيقة تغيرَ معها نمط الاستجواب، إذ أصبح المُستجوَب هو المحقّق، أو على الأقل أصبحت العملية متبادلة، وهنا، يُطلق علماء الاجتماع المُختصّون بالانحراف على هذا الأمر "تقنية التحييد" إذ تجعل عملية الاستجواب أكثر احتمالًا للطرفين، ففي هذه الحالة لم تُلغِ هذه التقنية الأسئلة الروتينية لكنها وضعتني مؤقتًا خارج خانة المتهم.
إحدى زياراتي إلى القدس كانت كاشفة، فعند نقطة فحص الجوازات في مطار تل أبيب، وبعد أن أكّدت أنني أتكلم العبرية، سُئلت أين وُلدت؟ وفي هذه المرة أجبت: "عكا، فلسطين كما هو موضّح في جواز السفر". دار بيننا حينها مشادة قصيرة حول كلمة "عكا" و"آكر"، إذ قالت الضابطة إنّه لا وجود لهذا المكان في إسرائيل وأنني قُمت باختلاقه (رغم أن اللغة العربية هي إحدى اللغتين الرسميتين في الدولة)، ثم سألتني إن كنت أمتلك جواز سفر إسرائيليًا؟ فقلت: "لا، لم أمتلك واحدًا قط"، تابعت بسؤال: "هل أنت مواطن إسرائيلي؟"، فقلت: "لا، تخليت عن جنسيتي منذ أربعين عامًا وأمتلك هوية إسرائيلية باطلة في كندا"، فقالت: "انتظر من فضلك".
أجرت الضابطة بعض المكالمات وسألتني عن اسمي الأخير، فأجبت: "كما هو مكتوب في جواز السفر". ثم سألتني: "ما هو اسم حمولتك؟" فأدركت أنها حيلة جديدة وقلت: "ليس لدي حمولة"، فقالت: "هل أنت مُتأكّد؟"، فأجبت: "نعم سيدتي". هزّت رأسها وأجرت مكالمة أخرى مع وزارة الداخلية؛ ومن ثم قالت: "أنت لا تزال مواطنًا إسرائيليًا، ووفقًا لقوانين الدولة لا تستطيع الدخول والخروج إلا بجواز سفر إسرائيلي". وبما أنّني ليس لدي حمولة ولا أملك جواز سفر إسرائيليًا توقعت عودةً سريعة إلى كندا برعاية جهاز "الأمن" الإسرائيلي.
بعد المزيد من النقاش ومكالمة هاتفية أخرى قالت: "حسنًا، سنسمحُ لك بالمرور هذه المرة ولكنها ستكون المرة الأخيرة التي يُسمح فيها بدخولك دون جواز سفر إسرائيلي"، فقُلت: "شكرًا سيّدتي"، وانتهت الإجراءات وفقًا لذلك. تساءلتُ أثناء خروجي عن عمق المنطق الاستشراقي الذي يقول بأن كل عربي يجب أن ينتمي إلى حمولة أو عشيرة، كما تساءلت عما لديهم ضدي في الملفات السرية الخاصّة بالدولة، في ما يتعلق بانتمائي إلى حمولة، من الواضح أنني فشلت في اختبار الحمولة.
في اليوم التالي، ذهبت مُجّددًا إلى مطار تل أبيب للسفر إلى عَمان في رحلة قصيرة، وخلال تفتيش المقتنيات طلب رجل يبدو أنه مسؤول من فريق التفتيش "بالعبرية" أن يُسرّعوا في إجراءاتي. ومع ذلك، تجاهل الفريق طلبه، وعاد الرجل عدة مرّات ليتفقد الإجراءات دون أي أثر يُذكر، وبعد مغادرته سألت أحد أفراد الفريق إن كان الرجل مسؤولًا عنهم، فأجاب بالنفي.
حصلت مفاجأة أخرى عند نقطة فحص الجوازات، فقد اتصلت الضابطة بوزارة الداخلية للتحقّق من وضعي كمواطن وتم تزويدها برقم هويتي التي كنت أملكها منذ حوالي خمسين عامًا، وسجلت الرقم بالعبرية في جواز سفري الكندي. ثم سألتني: "ماذا عن حمولتك؟" أجبتها بأنه ليس لدي حمولة، وأنني تخليتُ عن جنسيتي عندما غادرت البلاد في عام 1962، ولم أمتلك قط جواز سفر إسرائيلي، فقالت "أنت ما تزال مواطنًا إسرائيليًا، فاذهب إلى السفارة في أوتاوا وسوِ الأمر، فأجبتها: "ماذا إن كنت أريد التخلّي عن شارة الشرف هذه؟"، فقالت "هذا شأنك وشأن وزارة الداخلية، ولكنك لا تستطيع العودة إلى (إسرائيل) باستخدام هذا الجواز".
لقد أذهلني أن اسمي وتفاصيل هويتي لا تزال مدرجةً في قاعدة بيانات وطنيةٍ بعد أكثر من أربعين عامًا من عدم الإقامة في الدولة، فهذه هي مراقبة السكان في أعلى مستوياتها، ولا بد أن "إسرائيل" تمتلك أدق المعلومات في قواعد بياناتها عن الشعب الفلسطيني في كافة أنحاء العالم.
وفي قاعة المغادرين كنت أتأمّل مستقبل أرض لا يملكها أحد، عندما جاء الرجل الذي لم يكن مشرفًا من جهة تفتيش الأمتعة وانضم إلى بعض ضباط الأمن، وقد كانوا يتكلمون العربية وعلى شارته اسم عربي، فسألته عن اسمه الكامل فقاله لي، وقد اتضح أنه من النقب لكنه يعيش في الوقت الحالي في اللد: "قامت إسرائيل بتوطين مئات الفلسطينيين المتعاونين مع الاحتلال وعائلاتهم في اللدّ لحمايتهم بعد أن تم الكشف عن هويتهم عند تأسيس السلطة الفلسطينية".
لقد فهم الرجل ما دار في ذهني (اللد+ عربي+ أمن= جاسوس)، فسارع بإخباري أن عمله في وحدة أمن المطارات هو مساعدة المسافرين العرب، وأنه ليس عضوًا في جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، وأنه درس العلاقات الشخصية في مدرسة بيرل، وأنه مدين بهذا التدريب والتوظيف لحكومة حزب العمال السابقة. بمعنى آخر؛ أنه رجل عادي مكافح في عمله له ميول يسارية بما يخدم الدولة وزملاءه العرب على حدٍ سواء.
لم أتمكن من تحديد إن كان صادقًا أم لا، ولا أكترث حقيقة. أخبرته بأن تدخله المسبق لم يساعدني، وقد أدرك ذلك وقال لي أنه وصل متأخرًا، لأن عملية التفتيش والتحقيق كانت قد بدأت، وعرض أن يُسهّل عودتي من عمان عبر مطار تل أبيب وأعطاني رقم هاتفه، فشكرته ولكن في النهاية سافرت من عمان إلى كندا عبر أوروبا.
تركتُ "إسرائيل" متسائلًا لماذا تُصرّ الدولة على إحراج "مواطنيها"، على الرغم من أن كثيرين مثلي لم يكونوا أعضاء في الهيكل السياسي منذ عقود؟
يُقدم جون تروبي جوابًا في كتابه "اختراع جواز السفر: المراقبة والمواطنة والدولة"، حيث يرى أن الدول الحديثة تُولي أهمية كبيرة لإظهار قدراتها في السيادة والسلطة والإقليمية، ومن ضمن أساسيات متطلبات الدولة تأتي القدرة على السيطرة على الدخول والخروج، وتعريف من ينتمي ومن يُستبعد، ومراقبة الحدود الإقليمية، ويصبح جواز السفر في هذا السياق أداة تصديق تُستخدم لتعزيز مفهوم المواطنة.
ما يجعل الحالة الإسرائيلية مثيرة للاهتمام هو أن العناصر الأساسية المكوّنة للدولة، مثل الحدود وتركيبة السكان والسيادة، لم يتم تحديدها أو إضفاء الشرعية عليها بشكل نهائي حتى الآن، ولا يزال مصير الفلسطينيين، سواءً داخل "إسرائيل" أو في الأرض المحتلة محل خلاف ونزاع، إذ تدرك حكومة أرئيل شارون -حينها- تمامًا أن الاتجاهات الديموغرافية والهجرة تشكل تهديدًا لهوية إسرائيل كدولة يهودية.
ينتج عن هذا المزيج من الحقائق المؤسّسية والإجراءات طويلة الأمد أمر واحد، وهو أن منطق إدارة السكان والسيطرة الإسرائيلية كان يُطبّق في البداية على الفلسطينيين فقط، وأصبح في الآونة الأخيرة يُطبق أيضًا على حالات محددة من اليهود الإسرائيليين المعارضين والداعمين للقضية الفلسطينية، إذ يخضعون هم أيضًا للمراقبة والمتابعة عند المعابر الحدودية الإسرائيلية.
إلا أن كل هذا لا يفسر تمامًا سبب حرص الدولة الإسرائيلية على احتضان الفلسطيني الذي تعتبره نقيضًا لوجودها كدولة. فهل يمكن أن يتفوق منطق التزامها بالسلطة والقوة والنظام والسيطرة والإجراءات البيروقراطية على أسسها الأيدولوجية الجوهرية؟
يدفعني هذا السؤال إلى إعادة قراءة كتاب عالم الاجتماع ماكس فيبر "قفص البيروقراطية الحديدي"، فإلى بجانب تجاربي الشخصية مع حدود الدولة والمواطنة والهوية، ينمّي في داخلي شعورًا بأن أولئك الذين يبشرون بنهاية الدولة القومية، وظهور المواطن العابر للحدود الوطنية، ما زالوا هم أنفسهم عالقين في أرض لا يملكها أحد.
لقد تواصلت مع السفارة الإسرائيلية في أوتاوا لحل مشكلتي المتعلقة بالدخول والخروج من الدولة، واستصدرتُ جواز سفر إسرائيلي مؤقت لمدة عام واحد، ريثما يتمّ التحقق الكامل من خلفيتي، إذ تمت هذه العملية في وقتِ قياسي خلال أربعة أيام فقط من تقديمي طلبًا إلى السفارة، وقد سألتني الموظفة أثناء الإجراءات إن كان لدي أي أملاك في "إسرائيل" أو في الشارع الذي كنتُ أعيش فيه منذ حوالي أربعين عامًا، وقد أجبتُ على السؤالين بأني لا أعلم، فعادت إلى جهاز الحاسوب ودخلت إلى نظام تسجيل السكان الإسرائيلي وبنقرة واحدة ظهر أمامها اسم شارع طفولتي.










