تعديل الجينات بين الطموح العلمي والسؤال الأخلاقي (ميغازين)

تعديل الجينات البشرية.. بين طموح العلم وضرورة الطب وسؤال الأخلاق

15 يونيو 2025

في عالم لم يَعُد للعلم فيه سقف يحُدُّه، يبدو تعديل الجينات البشرية مُثيرًا للحَيْرة، بين طموح العلم الذي لا يشبع من الاستكشاف والتجربة، وضرورة الطب الذي يلتمس كل السبل لعلاج الأمراض التي ما زالت مستعصية، وسؤال الأخلاق الذي يُلقي بمسؤولية ثقيلة على أصحاب هذه التجارب تُجاه الأفراد الذين تُجرى عليهم، وذُرياتهم، ومستقبلهم.

في مقال مترجم عن كال فلاين، نستكشف تجارب تعديل الجينات البشرية، وطموحات أصحابها، والجدل الأخلاقي الذي أثارته، والتشريعات التي وُضعت لضبطها وحماية الإنسان من نزَقها، وآمال المستقبل فيها، ومخاوفه منها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في عام 2018، أثار عالِم الفيزياء الحيوية الصيني، خه جيان كوي، صدمة عالمية عندما أعلن عن ولادة أول أطفال معدّلين وراثيًّا في التاريخ. وخلال قمة علمية دولية في هونغ كونغ، كشف خه للباحثين أنه قام بتحرير الجينات في عدد من الأجنة البشرية القابلة للحياة باستخدام تقنية "كريسبر-كاس9"، قبل أن يزرعها في أرحام نساء متطوعات وافقن على المشاركة في التجربة. في نوفمبر من ذلك العام، وُلدت توأمتان، أعقبهما ولادة طفل ثالث بعد فترة وجيزة، في تاريخ غير معلن، وسط تعتيم شبه تام على التفاصيل، ما أضفى على العملية طابعًا كثيفًا من الغموض والسرية.

كان الهدف المعلن من تجربة خه هو منح الأطفال مقاومة وراثية لفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، الذي كان آباؤهم مصابين به. وقد صرّح بأنه عطّل جينًا يُعرف باسم CCR5، زاعمًا بذلك أنه حاكى طفرة جينية طبيعية تمنح نسبة ضئيلة من الأفراد مناعة فطرية ضد الفيروس. ورغم أن الإعلان بدا من حيث الشكل إنجازًا علميًّا غير مسبوق، فقد قوبل برفض قاطع من المجتمع العلمي، باعتباره تجاوزًا خطيرًا للحدود الأخلاقية. ذلك أن الإرشادات الأخلاقية المعتمدة عالميًّا – والتي وُضعت أصلًا في المملكة المتحدة – تُجيز الأبحاث الجينية على الأجنة البشرية فقط خلال الأربعة عشر يومًا الأولى من التطوّر الجنيني، وهي المرحلة التي لم تتشكل فيها بعد أي ملامح فردية أو عصبية. أما المُضي قُدمًا نحو إتمام الحمل والولادة، بل إنجاب ثلاثة أطفال معدّلين وراثيًّا، فقد اعتُبر تجاوزًا متهورًا للحدود الأخلاقية والعلمية، وخطوة محفوفة بالمخاطر نحو المجهول.

اتخذت اللجنة المنظمة للمؤتمر خطوة استثنائية بإصدار بيان علني ندّدت فيه بتجربة خه، ووصفتها بأنها "غير مسؤولة" و"مقلقة للغاية". وقد عاد خه إلى مؤسسته البحثية في مدينة شنتشن في ظل موجة من الانتقادات العلمية والأخلاقية، فيما خضع بحثه غير المنشور آنذاك لتدقيق صارم من قِبل الهيئات الأكاديمية والمراجعين المختصين، في ظل تصاعد الجدل حول مشروعية التجربة وسلامتها.

في 30 ديسمبر 2019، فرضت السلطات الصينية على خه جيان كوي غرامة مالية قدرها ثلاثة ملايين يوان (ما يعادل 327,360 جنيهًا إسترلينيًّا) وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة "ممارسات طبية غير قانونية"، شملت تزوير وثائق من لجنة مراجعة أخلاقية، وخداع الأزواج الذين تطوعوا للمشاركة في التجربة. كما أُدين اثنان من معاونيه، وجرى تغريمهما وسجنهما كذلك. أثار هذا الحدث ضجة واسعة على المستوى الدولي، وفتح باب نقاشات مكثفة على المستويات العليا بشأن سبل تنظيم هذا المجال العلمي الجديد، الذي يلامس جوهر الوجود الإنساني.

التقنيات الإنجابية.. تجارب سابقة، ومحاولات لا تتوقف

لطالما شكلت التقنيات الإنجابية محورًا للمخاوف والجدل المجتمعي. ولم تكن تجربة خه هي الأولى من نوعها التي أثارت ردود فعل واسعة النطاق، بل إن أولى حالات التبرع الناجحة بالحيوانات المنوية، والتي جرت في ظروف أخلاقية مشكوك فيها، قد أثارت هي الأخرى جدلًا واسعًا. ففي عام 1884، قام الطبيب ويليام بانكوست في فيلادلفيا بتلقيح امرأة سرًّا بحيوانات منوية لطالبه الذي وصفه بأنه "الأكثر وسامة"، دون علم زوجها، وهو ما اعتبره بعض الأطباء حينها تجاوزًا أخلاقيًّا يصل حد الاعتداء الجنسي.

في عام 1978، شهد العالم ولادة أول طفلٍ باستخدام تقنية الإخصاب في المختبر، لويس براون، وهو الحدث الذي أثار نقاشًا واسعًا في الأوساط العلمية والأخلاقية. فقد حذر أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني من أن هذه التقنية قد تُشكّل تهديدًا على كرامة الجنس البشري. تخيل بعض علماء الأحياء التناسلية مستقبلًا قد تتاح فيه للنساء فرصة اختيار أجنة مجمدة من "سوق" يضم بيانات دقيقة تشمل الصفات الوراثية، مثل لون العينين والتركيب الجيني. من جهته، عبر البروفيسور روبرت إدواردز، رائد تقنية الإخصاب المساعد، عن أسفه لتشويه صورة العلماء في الإعلام، الذي صوّرهم أحيانًا على أنهم "علماء قساة" يصنعون "وحوشًا وراثية" داخل المختبرات. ومنذ ذلك الحين، حدث أكثر من ثمانية ملايين حالة إنجاب باستخدام هذه التقنية.

في عام 2015، أضحت المملكة المتحدة أول دولة تشرع قانون "أطفال الثلاثة آباء"، إذ يتم عبر هذه التقنية نقل شريحة دقيقة تمثل 0.2% من المادة الوراثية لطرف ثالث إلى بويضة المتبرع، في مسعى طبي استثنائي لحماية الأجنة من الأمراض الميتوكوندرية المدمرة، وعلى رأسها متلازمة لي التنكسية العصبية. هذا القرار أثار جدلًا واسع النطاق، دفع رئيس الوزراء آنذاك، ديفيد كاميرون، إلى التصدي بحزم لشائعات واتهامات زُعم فيها أن العلماء "يلعبون دور الخالق"، مؤكدًا أن الهدف طبي بحت يرتكز على حماية الأجيال القادمة.

في مؤلفه الصادر عام 2011 Unnatural: The Heretical Idea of Making People، يوضح فيليب بول كيف أن الأساطير القديمة المتعلقة بخلق الإنسان الاصطناعي أو "الإنسان المصنوع" ما تزال تؤثر بعمق على تصورنا المعاصر للتقنيات الحديثة مثل الإخصاب المساعد، والاستنساخ، وبحوث الأجنة. هذه الخلفية الثقافية تغرس في وعي المجتمع شعورًا بالريبة والحذر تجاه كل تطور جديد في هذه المجالات، ويُعد التعديل الوراثي للبشر، وخاصة الأجنة، أحدث تجليات هذا التوتر.

تتعدد أساليب تعديل الجينات، غير أن تقنية كريسبر-كاس9 التي ظهرت مؤخرًا أحدثت نقلة نوعية في هذا الحقل العلمي. ففي دراسة محورية عام 2012، برهنت جينيفر داودنا، وإيمانويل شاربانتييه، ومارتن جينك على إمكانية تحويل آلية دفاع بكتيرية، كانت تستخدم لتفكيك الحمض النووي للفيروسات، إلى أداة دقيقة تسمح بقص الجينوم وتنقيحه بطريقة متناهية الدقة في أي كائن حي.

منذ ذلك الحين، جرى التوصل إلى تقنيات متقدمة تجمع بين كريسبر-كاس9 وآليات أخرى لتحرير الحمض النووي، ما فتح آفاقًا واسعة ومبشرة في ميدان التعديل الجيني. وفي سياق الطب البشري، يمكن استخدام هذه التكنولوجيا لتعطيل الجينات المسؤولة عن أمراض وراثية مميتة مثل مرض هنتنغتون، أو – في إطار نظري – لإجراء تحسينات وراثية من قبيل تعديل لون العين، أو تعزيز القدرات الذهنية كالذاكرة والذكاء.

بعيدًا عن تجربة خه جيان كوي المثيرة للجدل، لا يزال تعديل الجينات في الأجنة البشرية محصورًا ضمن نطاق البحث العلمي البحت. تُستخدم تقنية كريسبر-كاس9 بدقة متناهية لتحديد واستئصال جينات معينة، مما يتيح دراسة وظائفها وتأثير غيابها، بطريقة تماثل استخدام الإصابات الانتقائية في أبحاث الدماغ لفهم مكوناته وتعقيداته.

تُثير الدكتورة سارة تشان، مديرة معهد ماسون للطب وعلوم الحياة والقانون في جامعة إدنبرة، تساؤلًا جوهريًّا يتعلق بمخاوفنا: "إذا كان الخوف هو رد فعلنا، فما الشيء الذي نخافه حقًّا؟ من يعتبر أن للجنين نفس المكانة الأخلاقية والحقوقية التي يتمتع بها الإنسان البالغ، سيرى أن أي تجارب تُجرى عليه تشكّل إشكالًا أخلاقيًّا جوهريًّا. أما أولئك الذين يرون البحث في الأجنة أمرًا مقبولًا، فلن يجدوا في تحرير الجينوم ما يختلف من حيث المبدأ".

ومع ذلك، لا يمكن تبرير تجربة خه جيان كوي، إذ حدث وقت إعلانها إجماع واسع بأن تقنيات تعديل الجينوم لم تبلغ بعد مستوى النضج الكافي للتطبيقات السريرية في مجال الإنجاب، بسبب المخاطر المحتملة وحالة الغموض العلمي المحيطة بها.

البروفيسور روبرت كليتزمان، أستاذ الأخلاقيات البيولوجية في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب Designing Babies: How Technology Is Changing the Way We Make Children "تصميم الأطفال: كيف تغيّر التكنولوجيا طريقة إنجابنا"، يؤكد أن تقنيات تعديل الجينات البشرية ما تزال في مراحلها الأولى وغير مختبرة بالكامل. ويوضح كليتزمان أن المخاطر متعددة الأوجه، قائلًا: "حتى إذا نجحت تجربة خه تقنيًّا، فقد يترتب عليها عواقب غير مقصودة. فتعطيل جين CCR5 قد يمنح حماية ضد فيروس نقص المناعة البشرية، لكنه قد يزيد من خطر التعرض لأمراض أخرى مثل الإنفلونزا وفيروس غرب النيل".

يُحتمل أن يكون لجين CCR5 وظائف بيولوجية حيوية أخرى لم تُكتشف بعد، وقد تبدأ تأثيراتها في الظهور على صحة الأطفال المُعدّلين وراثيًّا. يُحذّر البروفيسور كليتزمان قائلًا: "من الممكن أن يكون هذا الجين مسؤولًا عن التطور العقلي، أو نمو القلب، أو تكوين العضلات". ويُضيف: "لإيضاح الفكرة: نحن نتشارك أكثر من 95% من جيناتنا مع الفئران. ذلك لأن الجينات لا تُستخدم لوظيفة واحدة فقط، بل تُعاد برمجتها لأغراض متعددة. فكر في جميع المنازل في لندن أو نيويورك، جميعها تُبنى من عدد محدود من المواد، مثل الطوب، والصلب، والزجاج، لكنها تختلف تمامًا في تصميمها لأن التعليمات التي تُعطى تختلف". ومن هنا، فإنّ تعطيل الجينات أو تعديلها قد يُغيّربعُمق طبيعة الإنسان، بطرق غير متوقعة.

قد يُشبَّه اختيار الأجنة، كما يتم بالفعل من خلال الفحوصات الجينية المنتشرة، باختيار منزل نودّ شراءه. أما تعديل البنية الجينية لتلك الأجنة - كما يفعل التحرير الجيني - فيُشبه إلى حدّ كبير إعادة تصميم هيكل المنزل بالكامل: كأن تهدم جدرانه الحاملة أو الأعمدة الأساسية، دون أن تكون على دراية كافية بالعواقب. يقول كليتزمان: "ذلك تدخلٌ أكثرُ عُمقًا وتوغّلًا بكثير".

ما يدعو إلى القلق بصورة متزايدة هو أن تقنية كريسبر-كاس9 لم تكن دقيقة بما يكفي لتحقيق الهدف الذي وضعه خه جيانكوي نصب عينيه. يقول كليتزمان: "لقد تجاوز ما كان ينبغي حذفه من الحمض النووي بكثير؛ إذ بينما كان المراد تقنيًّا هو القطع بين نقطتين محددتين - من (أ) إلى (ب) -  انتهى به الأمر إلى استئصال تسلسل أوسع نطاقًا يمتد من (أ) إلى (ي)، ونحن لا نعرف بعد تبعات هذا التوسّع".

حين فُكت الشيفرة الوراثية الكاملة للجينوم البشري في عام 2003، كان يُظن أن النسبة الأكبر من حمضنا النووي تندرج تحت ما يُعرف اصطلاحًا بـ"الحمض التافه" (junk DNA)، أي عديم الوظيفة. لكن العلم أدرك لاحقًا أن هذا "الركام الوراثي الظاهري" ينهض، في الواقع، بأدوار حيوية في تنظيم الحياة الخلوية. ومع ذلك، لا يزال فهمنا لكيفية تفاعل الجينات، أو "لغة الجينوم"، في مجملها، مجزأً وهشًّا في نواحٍ كثيرة.

أما فقدان الجينات المجاورة - التي جرى حذفها عَرَضًا أثناء تعديل جين CCR5 - فربما لا يكون قد ألحق ضررًا ظاهرًا بالأطفال في طور التكوين الجنيني أو في مرحلتهم المبكرة بعد الولادة. ومع ذلك، فمن الممكن أن لا تتكشّف تداعيات هذا التلاعب إلا في وقت لاحق من الحياة، أو -وربما على نحو أشد مدعاة للقلق - بعد أجيال قادمة. وكما يحذّر كليتزمان: "قد تكون النتيجة عجزًا معرفيًا، أو قصورًا كلويًّا، أو حتى فشلًا قلبيًّا، لا أحد يعلم على وجه اليقين".

منذ ولادة التوأمتين، ظهرت فرضية أخرى أكثر غرابة: وهي أن التعديل الذي أُدخل على حمضهما النووي قد يكون تجاوز هدفه المعلن - وهو الوقاية من فيروس نقص المناعة - ليُحدث على نحو غير مقصود تأثيرات إيجابية في قدراتهما الذهنية. فقد بيّنت دراسات أجريت على فئران معدّلة وراثيًّا تفتقر إلى جين CCR5 أنها تفوقت في اختبارات الذاكرة. وفي فبراير من العام التالي لسجن خه جيانكوي، نُشرت دراسة في مجلة Cell أوضحت أن بعض الأشخاص المولودين طبيعيًّا من دون هذا الجين تعافوا من السكتات الدماغية بوتيرة أسرع، كما لوحظ ارتباط غيابه بتحصيل أكاديمي أعلى.

ورغم أنه لا توجد أي دلائل على أن خه سعى عمدًا إلى تعزيز القدرات الإدراكية لدى الأطفال، فإن النتائج المحتملة لتجربته تفتح بابًا جديدًا للنقاش حول أحد أكثر المواضيع إثارةً للجدل في علم الوراثة، وهو مسألة "التحسين الجيني" وإنتاج ما يُعرف بـ"الأطفال المفصّلين حسب الطلب".

حتى في أول حالة معروفة للتبرع بالحيوانات المنوية عام 1884، كان اختيار بانكوست استخدام حيوانات منوية من "أفضل طلابه من حيث المظهر" قرارًا يعكس توجهًا واضحًا. فالتبرع بالحيوانات المنوية لم يكن مجرد إجراء طبي بسيط، بل وسيلة مبكرة للتربية الانتقائية البشرية، وقد تم النظر إليه على هذا الأساس منذ البداية. وبعد أن ظهرت تفاصيل إجراء بانكوست بعد 25 عامًا، أشار أحد طلابه السابقين (وربما كان هو المتبرع ذاته) إلى أن "الإخصاب الصناعي بحيوانات منوية مختارة بعناية فائقة" يمكن أن يُستخدم كأداة لتحسين النسل البشري، مما يعد أحد أوائل تجليات الفكر الإيجيني. وكتب هذا الطالب أن هذه الطريقة قد تمثل الحل الأمثل للتخلص من "الأبناء ضعيفي الذكاء، ذوي النزعات الشريرة، والمعرضين للأمراض"، الذين يولدون من أزواج غير أصحاء.

طموح الإنسان.. والسؤال الأخلاقي المفتوح

في عام 1979، أسّس رجل الأعمال الأمريكي روبرت كلارك غراهام بنكًا للحيوانات المنوية تحت اسم "مستودع الخيار الجنيني"، ضمّ عينات من متبرعين من الحاصلين على جوائز نوبل. كان هدف غراهام إنشاء جيل من العباقرة، وعبّر بشكل خاص عن قلقه من "البشر المتخلفين" الذين يعتقد أنهم يغمرون الولايات المتحدة، مما أثار ضجة إعلامية واسعة. وما زاد الأمور تعقيدًا هو الكشف لاحقًا عن أن أحد المتبرعين الحاصلين على نوبل كان الفيزيائي ويليام شوكلي، الذي كان معروفًا بتصريحاته العنصرية التي اعتبر فيها أن السود أقل ذكاءً، وأنه يجب تعقيم الأشخاص ذوي المعدلات الذهنية المنخفضة، مما حول القصة من فضيحة إلى نقاش أخلاقي واجتماعي عميق.

على الرغم من فشل مشروع غراهام في النهاية، فإن نهجه ترك بصمة واضحة على ممارسة التبرع بالحيوانات المنوية الحديثة. إذ لا يزال الأزواج الذين يتوجهون إلى بنوك الحيوانات المنوية الكبرى قادرين على اختيار المتبرع من خلال قوائم مفصلة. ففي بنك الحيوانات المنوية بلندن، وهو منشأة خاصة تقع في هارلي ستريت، يمكن للعملاء فلترة قاعدة البيانات الإلكترونية حسب الصفات الجسدية مثل العرق، ولون العين، والطول، ولون الشعر، بالإضافة إلى الإنجازات الأكاديمية والمهنة. ومن بين المتبرعين الحاليين طبيب ذو موهبة موسيقية يتمتع بوجه ملائكي، وطالب دكتوراه بطول ستة أقدام، ولاعب رجبي شبه محترف. (تبدأ الأسعار من 850 جنيهًا إسترلينيًّا للجرعة التي تحتوي على 5 إلى 10 حيوانات منوية نشطة).

ومع ذلك، وكما يعرف أي مزارع، فإن الانتقاء الوراثي أسلوب قوي لكنه يستغرق وقتًا طويلًا وغير دقيق، إذ يتطلب مرور أجيال عديدة لتحقيق النتائج المرجوة. في المقابل، يوفر التعديل الجيني إمكانية مثيرة لتعديل التركيبة الوراثية لأطفالك البيولوجيين بما يتناسب مع الصورة المثالية التي ترغب بها: ربما ساقان أطول، أو عيون زرقاء. نحن نعلم أن الأهل يرغبون في تقديم أفضل ما لديهم لأطفالهم، فهل سيصل الأمر قريبًا إلى هندستهم ليصبحوا أكثر ذكاءً؟

يشرح كليتزمان قائلًا: "سيقتصر هذا التطور في تعديل الجينات على الأثرياء فقط، الذين سيتمكنون من إدخال جينات ترتبط بزيادة الذكاء أو زيادة الطول، أو تحسين سرعة الجري، أو حتى الحماية من أمراض معينة إلى أطفالهم". ويضيف: "هذا يطرح تساؤلات عميقة حول نوع المجتمع الذي نرغب في بنائه". بجانب القضايا الواضحة المتعلقة باليوجينية والتمييز العرقي، هناك تحدٍّ آخر لا يقل أهمية، وهو غياب موافقة الطفل المستقبلي. "فهذا الطفل لا يملك أي قرار في الأمر، إذ إن التعديل الجيني يشكّل حياته بأكملها. تخيل أنك تهندس طفلًا وتعطيه جينات تمنحه قدرة رياضية خاصة، ثم يقول الوالدان له: "أنفقنا مبلغًا ضخمًا لكي نصنع منك عدّاءً محترفًا، وعليك أن تكون كذلك”. نحن نسعى لمنح الأطفال حرية مستقبل مفتوح، حيث لا يشعرون بأنهم صُنِعوا ليكونوا نسخة محددة أو مُصممة سلفًا".

ومهما تكن تبعات الأمر، تبقى هذه التساؤلات معلّقة في أفقٍ لم نبلغه بعد. فالتوأمتان الصينيتان المعروفتان حاليًا باسم "نانا" و"لولو"– قد تكونان نالتا قدرات معرفية وذاكرة محسّنة، وقد لا تكونان كذلك. فالعلم لم يحسم القول بعد؛ إذ يُعتقد أن لجين CCR5 دورًا حاسمًا في وظائف الدماغ، لكننا ما نزال نجهل الكيفية الدقيقة لذلك، أو لماذا يحدث، أو ما إذا كان حذف هذا الجين يعود دائمًا بنتائج إيجابية. ولهذا، كما يؤكد العلماء، لم يكن ينبغي أن يُسمح لتجربة "خه" بأن تبلغ مرحلة الولادة – إذ لا تزال المخاطر تفوق ما يمكن التنبؤ به.

ومع ذلك، فقد ألقى هذا الحدث ضوءًا ساطعًا على مجال سريع التطوّر، وهو أمر لا يُعدّ سلبيًّا في ذاته. تقول الدكتورة تشان، أخصائية الأخلاقيات البيولوجية المقيمة في إدنبرة:

"رغم أن تجربة خه كانت غير أخلاقية وغير علمية، فقد أسهمت – من دون قصد – في تسريع النقاش العالمي حول كيفية تطوير تقنيات تعديل الجينوم البشري وتنظيم استخدامها، كما حفزت نقاشًا أوسع حول مسؤولية العلماء في هذا العصر المتقدم".

لطالما نُظر إلى الصين باعتبارها "الغرب المتوحش" في ميدان أبحاث الأجنة، غير أن السلطات هناك عمدت إلى تشديد معاييرها الأخلاقية مؤخرًا، فيما شكّل سجن خه جيانكوي رسالة تحذيرية صارمة لبقية الباحثين في البلاد. أما في دول مثل روسيا والمكسيك، فلا تزال الضوابط الأخلاقية أقل حزمًا. (فقد وُلد أول طفل بتقنية "الثلاثة آباء" في المكسيك تحديدًا لهذا السبب؛ حيث صرّح طبيب الخصوبة الأمريكي، جون شانغ، لوسائل الإعلام أنه اختار المكسيك لتنفيذ الإجراء لأنه، حسب قوله، "لا توجد قوانين هناك").

أما عالم الأحياء الجزيئية الروسي، دينيس ريبيكوف، فقد أعلن عن عزمه إنتاج أطفال معدّلين وراثيًا في موسكو، حالما تتاح له الفرصة، وسط موجة من الانتقادات من قبل الباحثين حول العالم. ورغم غموض الجدول الزمني لمشروعه، فإن ما هو واضح أن العلم الإنجابي يسير قدمًا، سواء بموافقتنا أو بدونها.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

السلاف

الموتى الأحياء في معتقدات السلاف والأدب الروسي

كان السلاف يدفنون هؤلاء الموتى ووجوههم نحو الأسفل، وتُغلق الحفرة بعناية بالحجارة والأغصان، لاعتقادهم أن ذلك يمنعهم من الخروج من القبور والتجول ليلًا

آية حسن حسان

طلاب مدرسة وودميد 1970
طلاب مدرسة وودميد 1970

مدرسة وودميد.. في مواجهة الأبارتايد بجنوب أفريقيا

لمدّة لا تقل عن عقدين من الزمن، كانت وودميد قد ازدهرت بطريقتها الخاصة، وقد فعلت ذلك رغم الفصل العنصري الوحشي، والاضطهاد، والرقابة التي كانت تحيط بها من كل جانب

آمنة بعلوشة

الذكاء الاصطناعي

2024 تلك السنة التي سئمنا فيها الذكاء الاصطناعي

إن تأثير الذكاء الاصطناعي على وسائل التواصل لا يقتصر على تغيير ظروف العمل في مجال الصحافة، بل يمتد أيضًا إلى مسألة المصداقية

آمنة بعلوشة

إيليل

رجل بلا مكان

سلط إيليا زريق الضوء على تقنيات المراقبة التي تنتهجها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ العرب والفلسطينيين والمعارضين، وذلك من خلال تجاربه الشخصية مع حدود الدولة والمواطنة والهوية

جيدا فقهاء

مالكوم إكس

إرث مالكوم إكس.. كرامة المظلومين في الجنوب العالمي

لم يعد مالكوم إكس، بعد اغتياله، مجرد رجل من لحم ودم، بل أصبح رمزًا وتحول إلى شيء أسمى: حلمًا يتوق إليه الجميع

آمنة بعلوشة

المزيد من الكاتب

آمنة بعلوشة

كاتبة ومترجمة فلسطينية

كيف تحولت BDS إلى كابوس لإسرائيل؟

تتخذ حركة المقاطعة BDS طابعًا أساسيًا، حيث لا يقتصر على معارضتها السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل تؤكد على ضرورة ربط الحرّية الأكاديمية مع حقّ الوصول إلى التعليم المستدام والميسر

العدالة وسيلة إخضاع.. ما الذي تخفيه عقيدة سيادة القانون؟

وظّف البريطانيون القانون في خدمة مشروعهم الاستعماري بوصفه أداةً للسيطرة والإخضاع والاستغلال وتبرير العنصرية واستبعاد السكان الأصليين من المشاركة في صنع القرار السياسي

مشروع شهداء غزة.. حتى لا يتحول البشر إلى أرقام باردة

يهدف مشروع شهداء غزة إلى تكريم ذكرى ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عبر توثيق حكاياتهم، والحفاظ على حضورهم الإنساني حتى لا يتحولوا إلى مجرد أرقام

الفهود السود والأقليات.. جذور التمييز في إسرائيل

أدّت العنصرية المتجذرة في المجتمع الإسرائيلي إلى نشأة مجموعة من الحركات التي تُعنى بالدفاع عن حقوق المواطنين من غير البيض، ومن بين تلك الحركات حركة الفهود السود

إرث مالكوم إكس.. كرامة المظلومين في الجنوب العالمي

لم يعد مالكوم إكس، بعد اغتياله، مجرد رجل من لحم ودم، بل أصبح رمزًا وتحول إلى شيء أسمى: حلمًا يتوق إليه الجميع

2024 تلك السنة التي سئمنا فيها الذكاء الاصطناعي

إن تأثير الذكاء الاصطناعي على وسائل التواصل لا يقتصر على تغيير ظروف العمل في مجال الصحافة، بل يمتد أيضًا إلى مسألة المصداقية