الخوف

وراثة الخوف

17 مارس 2025

يطرح عالم الأعصاب دين برنيت في كتابه "الغباء العاطفيّ" أنّ أول حاسة تطورت عند الكائنات الحية الأولية هي الشم بوصفها آليّةً للنجاة، فعند اشتمامها لأيّ خطر قريب فإنّها تخاف وتهرب. ووفقَ برينت، فإنّ حاسّة الشّمّ تهب الكائن الحيّ أوّل شعور يسهم في بقائه، الخوف.

ولعلّ أحد أهم التفسيرات الشائعة منذ القدم لبكاء الرضيع فورَ خروجه من رحم أمّه أنّه يأتي إلى الوجود خائفًا، إلّا أنّ هذا التفسير -إن صَحّ- فهو مبنيٌّ على أنّ الخوف مزروعٌ قَبلًا في سلسلة الأسلاف، الّذين توارثوا الخوفَ بدءًا من التّفاصيل الصّغيرة وصولًا إلى المخاطر الكبيرة؛ فالخوف هو إرثٌ كل من سبقونا لنا، وسبب أولي لاستمرار نسلنا، فهو استجابة نفسية ساعدت الإنسان على البقاء بتجنبه المخاطر. وللخوف ذاكرة طويلة تحمل كل ما أخاف الإنسان الأول إلى إنسان الحضارة الحديثة، إنّه جزء من اللاوعي الجمعي عند كل فرد منّا، نخاف لأسباب نعرفها وأخرى نجهلها ولكن الإنسان القديم كان يعيها فورثنا خوفه من دون أن نختبر تجربته الخاصة.

الخوف الموروث جينيًّا

يتتبع ديفيد باس في كتابه المرجعيّ "علم النفس التطوري" تطور الصفات النفسية والسلوكية لدى البشر عبر الزمن، فيتحدّث عن الخوف بوصفه سمة موروثة لدى الأجيال تطورت لتحمي حياة البشر من المخاطر والتحديات من حولهم، فشعور الخوف من الظلام على سبيل المثال يَعُدّه علماء النفس السلوكي سلوكًا مكتسبًا من البيئة التي يعيش فيها الإنسان، إلّا أنّ الإنسان القديم الذي عاش حقبًا طويلة من تاريخ وجوده على الأرض في الخلاء ينير الظلام بالنار، فكان الظلام يُعدّ مصدر تهديد له لعدم معرفته عن الوحوش أو المخاطر التي قد تباغته في الصحارى والبراري التي يقطنها، وقد عبَر هذا الخوف من الظلام نحو الإنسان الحديث، أي إننا ورثناه من آبائنا الأوائل، كما يرث أي إنسان الصدمة التي عاشها والداه الناجيان من حرب أو كارثة طبيعية ما.

وإن وجدنا عددًا من البشر لا يخافون الظلام، فهذا لا يطرح وراثتهم للخوف من الظلام جانبًا، بل ينُظر هنا إلى أنّ وسائل التعامل مع هذا النوع من الخوف قد تطوّرت، فهناك إنارات كثيرة في العصر، ولم نعد نحيا في الخلاء وننتظر الشمس لنبصر الأخطار. ورغم ذلك، فإنّ مراقبة الأطفال من حولنا الآن، الذين يخشون الظلام من دون أن تكون لهم تجربة سيئة معه، تجعلنا ندرك كيف تسلل الخوف إليهم بالوراثة من دون أن يُبنى على تجاربهم الخاصة، فالعتمة ترعبهم حتى وإنّ لم يسرد لهم الآخرون قصصًا عن وحوشٍ تتصيدهم في الظلام.

إلّا أنه ليس من الضرورة أن تكون مخاوف الإنسان امتدادًا طويلًا لمخاوف أسلافه فقط، فقد تكون بعض مخاوفه ناشئة من صدمات نفسية مرّ بها أحد والديه أو أحد أجداده من حروب وكوارث، فتزيد احتمالية أن يكون أكثر قلقًا وعرضة للاكتئاب، ولا نحيّد هنا العامل السلوكي في انتقال خوف الأب المبني على تجربته الشخصية لأبنائه، إذ قد يتعامل الوالد المتعرض للصدمة مع أبنائه بصورة غير صحية، فيُكسبهم الخوف اكتسابًا إن لم يكن أورثهم إياه.

وتأكيدًا للحديث عن توريث الخوف المكتسب من الآباء للأبناء، فهناك دراسة شهيرة أجراها الباحثان كيري ريسلر وبرايان دياز تثبت توريث السلوك المكتسب عبر الأجيال، إذ عرّض العالمان مجموعةً من الفئران لصعقات كهربائية متزامنة مع شم الفئران لرائحة زهرة الكرز، ولاحقًا تطوّرت استجابة الفئران إلى الخوف من الرائحة نفسها قبل أن تُصعق حتى. المثير بنتيجة هذه التجربة أنّ جيلين لاحقين من أبناء هذه الفئران التي تعرضت للصعق كانا يسجلان استجابة خوف عند اشتمامهم للرائحة ذاتها من دون أن تكون لهم تجربةٌ مع الصعق الكهربائي، يعود هذا إلى حدوث تغييرات "لاجينية" للآباء تتعلق بمعالجة الروائح ومثيرات الخوف تم توريثها للأبناء والأحفاد.

للأسلاف دور في توريثنا الخوف ليس جينيًا فحسب، بل من خلال نقل الظواهر الثقافية والدينية التي تُحمّل الخوف للأجيال اللاحقة، كالطقوس العَقَدية والمعتقدات الدينية. لقد نُقل القلق الوجودي الإنساني من مطلع البشرية إلى يومنا، الناشئ من خوف الإنسان الأول من الموت والغموض والطبيعة وكل ما يجهله أو يعجز عن مواجهته.

الخوف والعائلة: توريث وأداة تربوية 

لا يعد الخوف موروثًا عندما نأخذه من أسلافنا ووالدينا فقط، بل إنّ تعليمه لنا أفرادًا وجماعات عبر أجيال ممتدة هو توريث تعلُّميّ؛ فالخوف من السُّلطات، ومن عقاب أولياء الأمر، والخوف من التعبير ومن الارتباط ومن النقد وغيرها، كلها أشكالٌ للخوف تغذّى عليها الإنسان صغيرًا بوساطة عائلته.

يتعلّم الإنسان الخوف من تجاربه في العالم، يختبر الأذى فيخاف أن يقترب منه من جديد، وهذا التعلم يسمّى التعلم الشرطي، كأن تضع يدك على كائن غريب وجدته على الشاطئ فيعض يدك، ستتعلّم أنت وكل من شاهد الحدث أنّ هذا الكائن مخيفٌ ولا يجدر الاقتراب منه، إلّا أنّ هذا النوع يعد واحدًا من عشرات الوسائل التي تعلِّم الخوف للإنسان.

ويُستخدم الخوف في العائلة أيضًا أداةً تربوية تهدف إلى تطويع الابن لوالديه وحمايته، فيُعاقب عندما يعصي ويُخطئ وعندما يعترض على ما يُفرض عليه من قرارات والدية، فيكبر وهو يحمل احترامًا لوالديه مخلوطًا بخوف طفولي من عقابهما ومن العقاب الإلهي الذي تربطه العائلات المتدينة في التربية. كذلك فإنّ الأهالي الذين اختبروا تجربة حياتيةً كثيرًا ما يستمرّون في تنشئة أطفالهم على تجنبها، فيُحيّدون كل العوامل التي أسهمت في فشل تجربتهم ويبذلون جهدهم في زراعة الخوف عند أبنائهم من تكرار أخطائهم.

تمارس الجماعات العائلية هذا النوع من التخويف على أفرادها، لضمان الامتثال لها ولتقاليدها، وتربّي الجماعة الفرد على التماهي معها ومحو فردانيته تحت مسمى الانتماء، فإن خرج عن رأيها فسيفقد امتياز وجوده في هذه المجموعة من مساندة ودعم، وأن يكون الفرد مستقلًّا وهو ابن لمجموعة كبيرة تخشى على كل فردٍ منها أن يسيء لسمعتها يُعلِّم الخوف من الحرّية في التفكير والفعل، فيظلّ الفرد يدرس أفعاله، إن حسُنَت تلقّى التعزيز، وإن ساءت فسيكون مذمومًا من قبيلٍ كبيرٍ من الأفراد الذين هم عائلته وجماعته.

الخوف والسلطة: الاستفادة القصوى

ومثلما تستخدم العائلة الخوف تستخدمه كذلك السلطة، إذ تفرض الأنظمة والحكومات سياساتها القمعية على كل من يقترب من خطوطها الحمراء التي تتجاوز الجنايات إلى قضايا الحرية والتعبير عن الرأي، ومن ثَمّ فهي تستفيد من شعور الخوف عند الإنسان استفادةً قصوى، ففي الخوف مدخل إلى تمجيد القادة وتصيّد كلّ من لا يوافق قراراتهم، فيصير الخوف المزروع في الإنسان مستغلًّا أكبر استغلال من السلطة ليكون وسيلة إجبار على الصمت.

ولا يخرج الخوف من السلطة عن قاعدة الخوف المورَّث، إذ حلق تاريخ الإنسان مع البطش والقمع نماذج بشرية كثيرة أصبحت عِبرَةً لمن وراءها، وجعلت الإنسان الذي يتوق إلى حريته خائفًا من أن يُقتَل أو من أن تُنتهك إنسانيته بالتعذيب والسجن، أو من أن يُساء إلى سمعته في أهون الأحوال فتتعرقل حياته الاجتماعية والمهنية.

ولأنّ الخوف هو أداة للسيطرة، يحرص المجتمع كاملًا في الدول الفاسدة على أن يعلّم أفراده تكميم الأفواه، والسير مع القافلة أنّى كانت وجهتها، لأنّ أي معارضة هي تحدٍّ للنظام والسلطة وقد تُهلك صاحبها، وبذلك ينتج مجتمع كامل من الخائفين الذين يورِّثون الخوف للأجيال اللاحقة، ويكتبون في تمجيد السلطات المبالغ به ما يفضح خوفهم من أن يُحسبوا معارضين للقائد الأعلى أو الأخ الأكبر وفق تعبير جورج أورويل.

ختامًا، فإنّ الخوف في أصله شعور نفسي وجد لحماية الإنسان من مخاطر الحياة ولاستمراره التكاثري، ولكن يجب أن يدرك الإنسان دائمًا أن هذا الخوف يُنتصَر عليه بتجربته لا بمجرد الاكتفاء بوراثته عن الأسلاف، فكما أنّ للإنسان تاريخًا طويلًا مع الانصياع للمخاوف بأشكالها كافة، فإنّ له تاريخًا من التمرد عليها، بدءًا من مثال الانتصار على الخوف من الظلام، وانتهاءً بمثال الانتصار على الخوف من أعتى الدكتوتاريات في العالم.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

أشرف الصباغ: المكان في رواياتي هو ما يتركه البشر خلفهم

بدأ أشرف الصباغ طريقه بين رموز المعادلات وقوانين الفيزياء، لكنه وجد نفسه لاحقًا في قلب العواصف السياسية، ولعب دورًا لافتًا في ترجمة الأدب الروسي إلى العربية

3

ثلاثية الصعيد.. النيل والسكك الحديدية والموالد

الاحتفاء والاحتفال بموالد الأولياء، لا يقف عند المظهر الديني أو التدين الشعبي، بل يعكس حوارًا عابرًا للحضارات والثقافات

4

الأغاني العربية والثورات.. تاريخ بلغة النوتات

بقيت الأغاني العربية ملئية بأسماء الشخصيات الثورية والنضالية التي خلّدت في أرشيف المقاومة والوطنيات، أمثال الشيخ أحمد ياسين، وأبو إبراهيم، وكمال عدوان

5

أزمة المناخ العالمية.. النساء يدفعن الثمن وقد يمتلكن الحلول

تدفع النساء الثمن الأكبر للأزمات المناخية والبيئية، العائدات على الأراضي التي تديرها النساء أقل من تلك التي يديرها الرجال

اقرأ/ي أيضًا

التعليم التحرّري

التعليم التحرّري.. بين خوف الطغاة وحاجة المقهورين

أولى التجارب التطبيقية للتعليم التحرّري في فلسطين تعود إلى سنة 1909، حيث ألغى خليل السكاكيني العقوبة البدنية للطلبة بوصفها "بربرية وتعود إلى القرون الوسطى"

إسراء عرفات

دونالد ترامب
الكساد العظيم

ترامب يعيد التاريخ .. ماذا حدث في الكساد الكبير؟

ستُعاني غالبية الدول التي بدأت لتوّها من الخروج من تبعات جائحة كورونا، بسبب الحرب الاقتصادية التي بدأها الرئيس الأميركي ترامب

إسلام أحمد

الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية.. من الإدانة إلى الدعم المطلق

تذكر موسوعة الهولوكوست أن المحامي اليهودي البولندي رافائيل ليمكين، هو أول من صاغ كلمة "الإبادة الجماعية"

فريق التحرير

حركت BDS

كيف تحولت BDS إلى كابوس لإسرائيل؟

تتخذ حركة المقاطعة BDS طابعًا أساسيًا، حيث لا يقتصر على معارضتها السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل تؤكد على ضرورة ربط الحرّية الأكاديمية مع حقّ الوصول إلى التعليم المستدام والميسر

آمنة بعلوشة

بنت الشاطئ عائشة عبد الرحمان وعباس محمود العقاد

بنت الشاطئ ونيران العقاد

ساهمت المعارك الأدبية في تنشيط الحياة الثقافية، فأثرت واقعها، وتركت ميراثًا مهمًا من الكتابات

ممدوح النابي

المزيد من الكاتب

ميادة نصار

أخصائية وباحثة نفسية

من الهلع إلى الوعي.. تطور مفهوم المرض النفسي في السينما

تعاملت السينما في بدايتها مع المرض النفسي بوصفه أداة درامية تثير عاطفة المشاهد بغض النظر عن نوع هذه العاطفة

رغبة الحياة تُطفئها شهوة الموت.. نظرة في غريزة الموت لدى الانسان

إلى جانب غريزة الحياة توجد لدى الإنسان أيضًا غريزة نحو الموت يتم التعبير عنها بطرق مختلفة

الأغاني العربية والثورات.. تاريخ بلغة النوتات

بقيت الأغاني العربية ملئية بأسماء الشخصيات الثورية والنضالية التي خلّدت في أرشيف المقاومة والوطنيات، أمثال الشيخ أحمد ياسين، وأبو إبراهيم، وكمال عدوان