لاحظ أوائل الأنثروبولوجيين أن التبادل وإبرام العقود في الحضارة الإسكندنافية، وفي عدة حضارات أخرى، يتم على شكل هدايا وهبات تبدو، نظريًا، اختيارية إرادية وحرة مجانية. لكن تقديمها والرد عليها يأخذ في الواقع طابعًا إلزاميًا. وهذا ما تنبّه إليه، على نحو مميز، مارسيل موس مؤلف كتاب "بحث في الهبة: شكل التبادل وعلّته في المجتمعات القديمة"، الذي سعى عبره إلى بناء نظرية شاملة لظاهرة الإلزام، من خلال تناول موضوع الهبة والهدية.
انطلق مارسيل موس من سؤال مركزي عن القاعدة القانونية والنفعية في المجتمعات المتأخرة أو القديمة، التي تفرض المبدأ القائل بأن "الهبة التي تُقبَل لا بد أن تردّ". ومن خلال هذا السؤال أيضًا، حاول أن يجيب عن سؤال آخر لا يقل أهمية، وهو: ما هي القوة التي تتضمنها الأشياء المهداة كي تردّ؟ وفي هذا الصدد، يرى أن: "الرابطة القانونية بالأشياء، في القانون الماوري على سبيل المثال، هي رابطة أرواح"، بينما هي في مجتمعات أخرى تتجاوز الارتباط بالأشياء إلى الارتباط بمنظومة اجتماعية، من قيم وأعراف وعادات وغيرها، موجِّهة للأفراد.
ومن جهة أخرى، فإن بعض الدارسين في ظاهرة الهبات والهدايا يتلمسون الأسس الأخلاقية للعلاقات الاقتصادية، بوصف الهبات والهدايا ظاهرة تتقاطع عندها نماذج متعددة من المعاملات والأنظمة الأخلاقية، يختزلها دافيد غرايبر في مقولات ثلاث هي: "الشيوعية والتبادلية والتراتبية". فمن وجهة نظر غرايبر، تجري الهبات والهدايا وفق منطق متعدد ومتباين من المعاملات قلما أُخذ في الاعتبار، على الرغم من أن البشر حددوا انطلاقًا منها: "الملامح الأساسية لهويتهم ورغائبهم وتطلعاتهم ووسائل وغايات الوجود الإنساني".
من هذا المنطلق، اعتبر مارسيل موس أن الهبة أو الهدية تمثل ظاهرة أو واقعة اجتماعية كلية تتضافر وتتجلى فيها جميع المؤسسات الأخرى: "دينية كانت أو حقوقية أو أخلاقية أو اقتصادية أو حتى جمالية".
ضرورة التقديم، والقبول، والرد
يعكس "البوتلاتش"، ومعناه في العربية "احتفال الوَهبْ" كما ترجمه خليل أحمد خليل، هذه الظاهرة الكلية في "أبهى" صورها كونه يمثل نظامًا من الهبات المتبادلة. لكن البوتلاتش يتميز عن غيره من ظواهر التبادل عبر الهبة والهدية بعناصر المبالغة والعنف والصراعات التي يثيرها. ولذلك يطلق عليه موس تسمية "الخدمات الكلية من النوع التصارعي"، ويوجد هذا النمط من التبادل أساسًا في قبائل شمال الغرب الأميركي وبعض مناطق بابوازي وميلانيزيا، مع الإشارة إلى أن هذه المجتمعات الأخيرة تعرف تبادلًا من النوع غير الصراعي يسمى "الكولا". وعلى الرغم من هذا الاختلاف، يبقى ثمة مشترك بينهما وهو طابع الإلزام المتمثل فيما يسميه البعض القانون الهبوي لموس، الذي يُختصر في كلمات ثلاث، وهي: "هِبْ، خُذْ، رُدّ".
يُقام البوتلاتش في الشتاء عندما تتجمع الجماعات والقبائل، بعد صيف وخريف قضته في الصيد والقطف والتحصيل. وفي تجمعها ذاك، تصبح الحياة أكثر كثافة بعبارة موس، ويصل الغليان الاجتماعي لهذه القبائل درجته القصوى: "زيارات متبادلة ومستمرة بين القبائل وبين العشائر وبين العائلات، وهي عبارة عن حفلات متكررة ودائمة تستمر أحيانًا لفترة طويلة. وأثناء إقامة مختلف الطقوس، وخلال حفلات الزواج، أو تلك التي تقام بمناسبة الارتقاء في سلم المراتب الاجتماعية، يُنفق دون حساب كل ما جُمع بكد وعمل خلال الصيف والخريف". نحن هنا، والعبارة لموس، إزاء حركة عطاء وأخذ مستمرة. لكن ما هي الأدوار التي تؤديها هذه الأشكال من التبادلات في المجتمعات القديمة؟
إن جوهر البوتلاتش، كما يقول موس، هو ضرورة تقديم الهدايا: "فالقائد عليه أن يقدم عددًا من البوتلاتش أو الهدية عن نفسه أو عن ابنه أو عن صهره أو عن ابنته، وعن الأموات أيضًا، فهو لا يستطيع أن يحافظ على سلطته وعلى قبيلته وعلى قريته وعلى عائلته، وحتى على رتبته كقائد، إلا إذا أثبت أنه ثري ومسكون بالأرواح ومقبول لديها وأنها متلبسة به وأنه يملكها. وهو لا يمكن أن يثبت ثروته إلا إذا أنفقها ووزعها وأهان الآخرين بأن وضعهم في ظل اسمه".
ولذلك، يبدو البوتلاتش وكأنه "حرب ثروات وممتلكات". وقد ميز مارسيل موس بين 4 أشكال من البوتلاتش الأميركي الشمالي، وهي على التوالي:
- البوتلاتش الذي يكاد لا يعني إلا أقرباء وعائلات القادة (تلنغيت).
- البوتلاتش الذي يؤدي فيه الأقرباء والعشيرة والعائلات والقادة تقريبًا أدوارًا متكافئة.
- البوتلاتش الذي يتصارع من خلاله القادة بواسطة العشائر (تسمشيان).
- بوتلاتش القادة والجمعيات الأخوية (كواكيوتل).
وبغض النظر عن أشكال البوتلاتش، فهو يتضمن ثلاثة التزامات تفرض نفسها على جميع أطراف العملية سواء كانوا أفرادًا أو عشائر أو قبائل وهي: ضرورة التقديم، وضرورة القبول، وضرورة الرد.
يشتمل البوتلاتش المعروف لدى المجتمعات الهندية في شمال الغرب الأميركي وألاسكا (مجموعات تلنغيت وهايدا)، وتلك المتناثرة في شواطئ كولومبيا البريطانية (هايدا وتسمشيان وكواكيوتل)، على أكثر من بعد؛ فله بعد طقوسي احتفالي ديني وبعد تبادلي اقتصادي، وأبعاد قانونية أخلاقية (الإلزام والتعاقد)، أي أن البشر عرفوا في مراحل مبكرة كيف يلتزمون بشرطهم قبل أن يعرفوا ظاهرة الإمضاء والتوقيع ورقن العقود وختمها.
إضافةً إلى أبعاد سياسية (تثبيت المراتب وتغييرها)، وأبعاد جمالية مورفولوجية: "فالرقصات الدرامية التي تقدم بالتناوب، والأغاني والاستعراضات من كل نوع، والعروض الدرامية التي تقدم من مضرب إلى مضرب ومن شريك إلى شريك، ومختلف الأشياء التي تُصنع وتُستعمل وتزخرف وتصقل وتقطف وتُمنَح بحب، وكل ما يُحصَل عليه بفرح ويقدم بنجاح، والولائم في حد ذاتها، تلك التي يشارك فيها الجميع. كل شيء: الطعام والأشياء والخدمات، وحتى الاحترام، كل شيء يتسبب في حالة من الانفعال الجمالي، وليس فقط حالة من الانفعال الأخلاقي والمصلحي".
الأسس الأخلاقية للعلاقات الاقتصادية من خلال نظام الهبة والهدية
يرى أحد قراء مارسيل موس البارزين، وهو دافيد غرايبر، أنه في ظاهرة الهبة والهدية تثوي: "ثلاثة أشكال منطقية أخلاقية، تنتشر بأشكال وتعبيرات متعددة، تجعل بإمكان الفاعلين توظيف عدة أشكال من البرهان الأخلاقي بالنسبة لكل وضعية معينة". وهذه الأشكال الثلاثة هي حسب غرايبر: الشيوعية، والتبادل، والتراتبية.
ليست الشيوعية هنا بالنسبة إلى غرايبر مسألة ملكية أو تقاسمًا لكل شيء فتلك شيوعية أسطورية، بل هي كل علاقة إنسانية تقوم على مبدأ: "من كُلٍ حسب قدراته إلى كلٍ حسب حاجياته". وانطلاقًا من هذا التحديد تكون الشيوعية المتحدث عنها ههنا مبدًأ محايثًا للحياة اليومية، أي شيوعية يومية يتصرف الأفراد وفقًا لقواعدها في تعاملاتهم وتعاونهم مع بعضهم البعض في إطار عمل أو مشروع مشترك. فالشيوعية، باعتبارها مبدًأ أخلاقيًا وليس كشكل من أشكال الملكية، تتدخل في مختلف المعاملات بما فيها تلك التجارية. فإذا ربطتنا، حسب غرايبر، علاقات اجتماعية مع شخص ما، يغدو من الصعب تجاهل ظروفه الشخصية.
وفي مثال آخر، من المستبعد إذا قام عامل يُصلح تسرب الماء بطلب مساعدة من زميله قائلًا: ناولني المفتاح الإنجليزي، أن يرد عليه بالقول وماذا أجني من وراء ذلك؟ حتى ولو كانا يعملان لحساب شركة "إكسون موبيل" أو "بورغر كينغ" أو "البنك الملكي الإسكتلندي". وحسب غرايبر، يعود السبب بكل بساطة إلى ما يسميه الفعالية، وهو الأمر المضحك بالنظر إلى الحكم المسبق السائد الذي يرى أن "الشيوعية لا تصلح".
ويضيف غرايبر في نقد لاذع للرأسمالية: "باختصار إذا كنتم ترغبون في تحقق شيء ما فإن الصيغة المثلى للقيام بذلك هي توزيع المهام بحسب قدرات كل واحد، وإعطاء الناس ما يحتاجون إليه لإنجاز هذا العمل. ومن هذه الزاوية، فإن الرأسمالية تنطوي، في حقيقة الأمر، على حقيقة فاضحة تتجلى في أن معظم الشركات تعمل داخليًا، وفق مبادئ الشيوعية. وبطبيعة الحال، لا يعبر سلوك هذه الشركات عن طبيعتها الديمقراطية، بل إنها منظمة، في غالب الأحيان، وفق سلاسل قيادية ذات أسلوب عسكري صرف. والحال، بالضبط، أن هذه الآليات المتجهة من الأعلى إلى الأسفل ليست ذات فعالية كبيرة. إنها تميل إلى تعزيز الغباء في القمة والاستياء في القاعدة. وهذا هو السبب في أنه كلما كان التعاون متصلًا بالقدرة على الارتجال، اتجه نحو أن يصير ديمقراطيًا. وقد أدرك المخترعون هذه الحقيقة دائمًا، شأنهم في ذلك شأن رأسماليي اليوم في عالم الشركات الصاعدة".
ذات المنطق الأخلاقي يتصرف الناس وفقًا له عقب حدوث الكوارث أو الاضطرابات المفاجئة، مثل الفيضانات والزلازل والثورات والأزمات الاقتصادية الخانقة، ففيها يميل الناس جميعًا، حسب غرايبر، إلى التصرف بالكيفية نفسها، ويعودون إلى ضرب من الشيوعية الجاهزة للاستعمال. وبالتالي، تبدو التراتبيات والأسواق وما يتصل بها بمثابة مواد فاخرة لا يستطيع أحد اقتناءها.
في مثل هذه الأحداث، يبدو المجتمع الإنساني نفسُه كأنه يولد من جديد وفقًا لغرايبر: "إذ يحق لكل واحد أن يتوقع من أي شخص آخر، إذا لم يكن عدوًا له، أن يحترم، في حدود معينة على الأقل، مبدأ: من كلٍّ حسب قدراته إلى كلٍّ حسب احتياجاته. فإذا كان باستطاعة أحدهم، على سبيل المثال، أن يدلك على الطريق التي تريد، فإنه سيفعل ذلك. ونحن نعتبر هذا من البداهة بحيث أن الاستثناءات هي في حد ذاتها ذات دلالات كبيرة".
وينطبق الأمر ذاته على نظام المجاملات العادية من قبيل: طلب سيجارة أو إشعالها، أو فتح الباب لشخص غريب. يسمي غرايبر هذا الشكل بالشيوعية الأولية، حيث إنه: "كلما كانت الحاجة ملحة بما يكفي، وكانت الكلفة معقولة بما يكفي، يكون هذا المبدأ قابلًا للتطبيق.
وبطبيعة الحال، حسب غرايبر، فلكل جماعة على حدة معايير مختلفة حول ما هو معقول: "ففي الجماعات الأكثر امتدادًا والأكثر فردانية، من المرجح أن يعتبَر من غير المعقول أن يطلب المرء أكثر من إشعال السيجارة أو الطريق الذي سيسلكه. قد يبدو هذا الطلب سخيفًا، غير أنه يفتح إمكانية لعلاقات اجتماعية أوسع. وبالمقابل ففي جماعات أقل امتدادًا وأقل فردانية ـ ولا سيما داخل الجماعات التي لا تنقسم إلى طبقات ـ فإن المبدأ نفسه يمتد بصفة عامة إلى ما هو أبعد. فعلى سبيل المثال يكون من الصعب، في غالب الأحيان، أن يرفض المرء ليس طلب سيجارة فحسب، وإنما طلب الطعام أيضًا، حتى بالنسبة للأجنبي في بعض الأحيان، ودون استثناء بالنسبة لكل شخص يعتبر منتميًا إلى الجماعة".
إن الإلزام بتقاسم الطعام وغيره من الضروريات الأساسية سلوك ملازم للأخلاق العادية للمجتمعات المساوية بين الناس، المجتمعات التي لا تنقسم إلى شرائح مختلفة من الأشخاص.
على العكس من ذلك، يقوم الشكل الثاني المتمثل في التبادل على منطق أخلاقي مختلف هو التكافؤ وتقديم الحساب. ومع ذلك، ينتبه غرايبر إلى أن الأمر لا يتعلق بتكافئ دقيق ـ حتى عندما يكون قابلًا للقياس ـ وإنما يتعلق بسيرورة تتجه، عن طريق المراوحة ذهابًا وإيابًا، إلى التكافؤ. فكل طرف يسعى للتفوق على الآخر، غير أنه غالبًا ما يكون من السهولة بمكان وضع حد لهذه التكاليف، والبقاء في وضعية يظن كل واحد أنه يستفيد منها استفادة مماثلة إلى هذا الحد أو ذاك.
وعلى العكس من ذلك تمامًا، تستند العلاقات التراتبية لمنطق مغاير، ذلك أنها محكومة بمنطق السابق الذي يتعارض من جميع النواحي مع منطق التبادل، فهي حصيلة وضعيتين اجتماعيتين مختلفتين: الأرفع مقامًا اجتماعيًا مقابل الأدنى مكانة اجتماعية. فالعلاقة بين الفلاحين الذين يوفرون الطعام والسادة الذين يوفرون الحماية ليست من نوع العلاقات التبادلية التكافؤية، بل تقوم على التسديد استنادًا للعادة والسوابق، وذلك في جانبها الناشئ عن الإخضاع بالعنف (نموذج الفلاحين والسادة)، وفي جانبها الخيري الإحساني القائم على توقع أن يقدم المحسن أو المتفضل سواء كان شخصًا أو جمعية خيرية المزيد للطرف الآخر الأدنى في العلاقة. فمثل هذه الأعمال الإحسانية أحادية الجانب يتم التعامل معها باعتبارها سوابق على أساسها تتحدد الهبات المستقبلية. ألا يحدث الأمر نفسه عندما نقدم قطعة حلوى إلى أحد الأطفال؟
إن منطق التراتبية كما يقول غرايبر: "يتعارض إذن مع منطق التبادل. فمن ناحية، إن الحدود التي تفصل بين ما هو أعلى وما هو أسفل حدود مرسومة بشكل واضح، ومقبولة من كلا الطرفين، وبما أن الوشائج التي نُسجت لا تستند على أساس الاستعمال التعسفي للقوة فقط، فإن هذه العلاقات ستسوّى من خلال مجموعة كاملة من العادات والسوابق".
وفي الختام، يمكن القول مع مارسيل موس بأن الهدية أو الهبة تعد: "إحدى الاكتشافات البشرية المذهلة التي ابتدعها الناس للتواصل فيما بينهم، وإقامة علاقات تبادل بين الأفراد والجماعات تعزز من فرص التعايش السلمي بينهم، فالهدية في أحد مضامينها في المجتمعات القديمة، هي شراء للسلم، وما إلزامية الهبة إلا لإلزامية التبادل"، الذي كان وما يزال أساس الروابط الاجتماعية، رغم تطوره واختلاف أشكاله وصوره. فكل مجتمع يفرز، حسب مارسيل موس ممارسات يستخلص من خلالها تصورًا معينًا للطبيعة البشرية.
ومن هذا المنطلق، يعتقد موس أن: "المجتمعات الغربية هي التي جعلت من الإنسان في وقت متأخر جدًا، حيوانًا اقتصاديًا"، ويتصل هذا التصور بتقنيات خاصة مثل (العملة، السجلات المحاسباتية، احتساب الفوائد). لكن موس يؤكد أن وجود هذه التقنيات لا يعني شيئًا، مضيفًا أنها ليست وليدة اليوم، فقد عرفت المجتمعات القديمة ظاهرة السوق قبل ظهور التجار وقبل أن يظهر ابتكار التجار الأساسي الذي هو العملة.