التهجير القسري واحد من أبشع الممارسات الاستعمارية التي مارستها القوى المستعمرة ضد الشعوب المستضعفة، فهو جريمة مكتملة الأركان وفقًا للقانون الدولي، تقوم على إخلاء السكان الأصليين من أراضيهم بالقوة أو بالإكراه، أو تحت ذرائع مثل التطوير الاقتصادي أو الأمن. ولطالما استخدم المستعمرون مصطلحات مضللة لتجميل هذه الجرائم، مثل "الترانسفير" أو "إعادة التوطين"، لإخفاء الطابع الإجرامي وراء تسميات تقنية ملطّفة، في محاولة لشرعنة وتبرير التطهير العرقي والطرد المنظم للسكان من أراضيهم الأصلية.
تاريخ التهجير القسري
إن عدنا إلى تاريخ المحتلين في العصر الحديث، نجده حافلًا بجرائم الإبادة والتهجير القسري ومسح السكان من المناطق المستعمرة، فإن برعوا في شيء فهو صناعة شعوب أخرى فوق أنقاض الشعوب المبادة، إذ حوّلت بريطانيا الأراضي الأسترالية إلى سجن مفتوح لمجرميها، بعدما عجزت عن إقناع البريطانيين بالاستيطان فيها، فتوجهت لإرسال أصحاب العقوبات ومرتكبي الجرائم، ولقلة المرحّلين قامت بتشديد إجراءات الترحيل، فكان يكفي أن يرتكب المواطن مخالفة أو يتورط في شجار أو سرقة بسيطة ليجد نفسه في أستراليا.
قد يكون ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية خلال فترة الرئيس الثامن عشر، يوليسيس غرانت، شبيهًا بما يحدث اليوم في غزة؛ إذ تبدو مشاريع التهجير الحالية أشبه باستعادة لما عُرف تاريخيًا بـ"درب الدموع" قبل قرن ونصف. ولم يكن ذلك إلا سلسلة من عمليات التهجير القسري لسكان أميركا الأصليين من مناطقهم شرق البلاد نحو غرب نهر المسيسيبي، بهدف الاستيلاء على الأراضي الغنية بالموارد والثروات.
حاولت أميركا التخلّص من مقاومة السكان الأصليين الشرسة فوضعتهم بالقوة في محميات معزولة، وكانت هذه المحميات أشبه بمراكز الاحتجاز، وقد حصل الهنود على منطقة واسعة تسمى" محمية سيوكس" الكبرى، ووعدت السلطات الأمريكية علاوة على ذلك، بتزويد قبائل الهنود الحمر بالطعام والسلع الضرورية.
بعدها، بدأ المستوطنون بالزحف نحو هذه الأراضي وضمّها، خاصةً بعد اكتشاف المعادن الثمينة والذهب فيها. وتذكر مراجع تاريخية أن الأميركيين قاموا في نهاية كانون الثاني/يناير 1838 بتهجير شعب شيروكي قسرًا، في آخر موجة تهجير شرق نهر المسيسيبي، بسبب اكتشاف الذهب قرب منطقة داهلونغا.
اتسعت المدن الأميركية وكان المستوطنون بحاجة للمزيد من الأراضي فبدأت هجمات المحتلين، وكانت التلال السوداء "بلاك هيلز" غنية بالغابات والمعادن وحين اكتشف الذهب في الجبال تدفق الآلاف من الباحثين عن الثروات.
قيل فيما بعد إن هذا الأمر لم يرق للحكومة الأميركية في بادئ الأمر، وأنها اعترضت بشأن أطماع المستوطنين، لكن ما سيأتي لاحقًا سينفي هذه الرواية، فهي خضعت فيما بعد للضغط، وأرسلت إخطارًا نهائيًا. إلى جميع المستوطنات لإخلائها، وزحفت بجيوش جرارة، فنجم عن ذلك حربٌ دامية بين السكان الأصليين والأميركيين، انتهت بتجويعهم وتعطيشهم حتى استلموا تحت الحديد والنار.
التهجير في الفكر الصهيوني
منذ بدايات المشروع الصهيوني، التقت مختلف التيارات على فكرة أساسية مفادها ضرورة ترحيل الفلسطينيين عن أراضيهم، لكن الاختلاف كان يتركز على الأساليب فقط؛ فاليمين فضّل الطرد القسري، بينما مال اليسار إلى الحديث عن طردٍ طوعي يبرره بأنه مجرد انتقالٍ للسكان من مقاطعة عربية إلى مقاطعة أخرى، انطلاقًا من فكرة أن فلسطين هي حقٌ وراثي لليهود، بينما العرب فيها غرباء عليهم المغادرة.
ظهرت هذه الفكرة بوضوح في اقتراح حاييم وايزمان سنة 1937، والذي كان متحمسًا جدًا لفكرة الترحيل، إذ قدّم خطة تقوم على منح قرض قدره مليون ليرة فلسطينية لكل فلاح فلسطيني يغادر أرضه ليتوطّن في الأردن. وتبنّت لجنة بيل البريطانية في العام ذاته أفكارًا مشابهة لخطة وايزمان، عبر الدعوة إلى تقسيم فلسطين وترحيل سكانها العرب. ورغم أن الظروف السياسية في تلك الفترة منعت تطبيق الخطة، إلا أن الأفكار التي طُرحت فيها ظلّت حيّة في العقل الصهيوني.
جاء التطبيق العملي لهذه الأفكار في حرب عام 1948، التي شهدت طرد حوالي ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني من مدنهم وقراهم. ورغم قيام دولة الاحتلال بعد ذلك، فإنها لم تتخلَّ عن فكرة التهجير، إذ عادت هذه السياسة بقوة بعد احتلال عام 1967 واصطدام إسرائيل مرة أخرى بما أسمته "المشكلة الديموغرافية". في هذه المرحلة، اعتمد الاحتلال سياسات سرية مثل خطة "التهجير للباراغواي" التي كانت تهدف إلى نقل الفلسطينيين بشكل سري إلى أميركا الجنوبية.
ومع مرور الزمن، أصبحت فكرة التهجير أكثر قبولًا في المجتمع الإسرائيلي، إذ أظهرت استطلاعات رأي في ثمانينيات القرن الماضي أن نصف اليهود الإسرائيليين يؤيدون طرد الفلسطينيين، ليس فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بل عرب الداخل أيضًا. ومع بداية تسعينيات القرن العشرين، دخل النقاش الإسرائيلي حول الطرد والتهجير مرحلة جديدة تميّزت بوضوح أكبر. إذ تركّز النقاش في ثلاث سيناريوهات محتملة:
- السيناريو الأول: تنفيذ الطرد خلال حرب مع بلد عربي أو أكثر، حيث يمكن حينها اعتبار الفلسطينيين عناصر معادية.
- السيناريو الثاني: في حالة عدم وجود حرب، يتم الطرد كإجراء انتقامي من تصاعد المقاومة الفلسطينية ("الإرهاب" بالتسمية الإسرائيلية)، مع تشجيع الفلسطينيين على العنف من خلال زيادة الاستيطان والاستفزازات الأمنية، مما يبرّر إجلاءً جزئيًا للسكان.
- السيناريو الثالث: إنشاء أوضاع شبيهة بالغيتو، عبر تعطيل الاقتصاد الفلسطيني، وإضعاف الخدمات الأساسية، وتشديد الملاحقات الأمنية، لإرغام الفلسطينيين على الهجرة طوعًا.
وتحت ضغط الرأي العام العالمي والخشية من الإدانة الدولية، اعتمد الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة مصطلح "التهجير الناعم"، حيث تروّج إسرائيل لرواية كاذبة مفادها أن نسبة كبيرة من سكان غزة ترغب بمغادرتها طوعًا، بينما تُظهر تقارير مستقلة أن هذه النسبة ضئيلة للغاية. وفي الواقع، تقوم إسرائيل عمدًا بتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم ملتهب، من خلال تدمير البنى التحتية، وتشديد الحصار، واستهداف المدنيين، مما يجعل الحياة مستحيلة ويجبر السكان على الرحيل، وهي سياسة تشبه إلى حد كبير أساليب التهجير القسري التي استخدمتها الولايات المتحدة سابقًا ضد الهنود الحمر، من خلال سياسة التجويع والإجبار على الرحيل.
لم تغب فكرة التهجير يومًا عن المشروع الصهيوني، بل هي جوهرٌ أساسيٌ من ممارساته وسياساته، ولا تزال مستمرة. وعلى امتداد العقود الطويلة من القهر والاقتلاع، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام عشرات الخطط الإسرائيلية التي تحاول سرقة مستقبلهم وتحويلهم إلى مجرد أرقام في قوائم المهجّرين، ومن أبرز هذه الخطط:
- خطة يغآل ألون (1967): تهجير سكان غزة إلى ليبيا.
- خطة موشيه دايان (1967): تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء ومصر.
- خطة التوطين في سيناء (أواخر الستينات): توطين سكان غزة في شبه جزيرة سيناء.
- خطة أرجنتين والبرازيل (الستينات والسبعينات): تهجير الفلسطينيين سرًا إلى أميركا الجنوبية إلى جانب خطة الباراغواي.
- مشاريع الثمانينات والتسعينات السرية: تشجيع الهجرة الطوعية عبر التضييق الاقتصادي والاجتماعي خلال الانتفاضة الأولى.
- خطة الترانسفير الكبرى (1988): طرحها رحبعام زئيفي وزير السياحة الإسرائيلي الأسبق، لطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة إلى الأردن وسوريا والعراق.
خطة ترامب لتهجير سكان غزة
في شباط/فبراير 2025، خلال لقاء مثير للجدل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطة خطيرة وجديدة لتهجير سكان غزة الفلسطينيين بشكل كامل، وإعادة توطينهم قسرًا في أراضٍ خارج فلسطين، وبشكل رئيسي في مصر والأردن، دون موافقة الدولتين. تضمنت الخطة سيطرة أميركية طويلة الأمد على قطاع غزة، وتحويله إلى منتجع سياحي عالمي على غرار "الريفييرا" الفرنسية. ووصف ترامب قطاع غزة بأنه مجرد "موقع هدم" يجب تنظيفه من الفلسطينيين، وأنه من المستحيل العيش فيه، مُدعيًا بشكل مستفز أن الفلسطينيين "سيكونون سعداء للغاية" بمغادرة أرضهم، وأن "السبب الوحيد الذي يدفعهم للبقاء هو غياب البديل".
قدّم ترامب تفاصيل إضافية خلال لقاءات إعلامية لاحقة، حيث كرر أمام الصحافيين، بحضور نتنياهو تارة، والعاهل الأردني عبد الله الثاني تارة أخرى، أن الفلسطينيين "لا يملكون خيارًا آخر" سوى الرحيل، مؤكدًا على هذه الرؤية بصلافة غير مسبوقة.
ولإثبات جديته في تنفيذ خطته، عرض ترامب فيديو مصممًا بالذكاء الاصطناعي لمدينة خيالية ستحل محل غزة، سماها "ريفيرا غزة"، تصوّر المنطقة كجنة سياحية واقتصادية بأبراج فاخرة وشواطئ مزدحمة بالسياح، مع مشاهد تُبرز ترامب ونتنياهو مسترخيين على الشاطئ وهما يحتسيان الجعة، بينما يظهر إيلون ماسك في لقطةٍ مستفزةٍ وهو يُلقي النقود فوق رؤوس أطفال فلسطينيين بشكل مهين. أثار هذا الفيديو غضبًا واسعًا وانتقادات حادة على مستوى العالم بسبب ما احتواه من رسائل استعمارية واستشراقية، تنظر إلى الفلسطينيين كأفراد يمكن شراؤهم أو إسكاتهم بالمال، وتختزل غزة في صورة فضاء ترفيهي غربي يمكن استباحته بسهولة، مُتجاهلًا تمامًا تاريخها وثقافتها ومعاناة أهلها، وحرب الإبادة الدائرة فيها.
لم تقتصر خطورة الخطة على تهجير سكان القطاع وتحويل المكان إلى مشروع استثماري، بل تجاوزتها إلى تقديم دعم استثنائي وغير مسبوق لليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو، إذ منحت الخطة إسرائيل ضوءًا أخضر لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة، مما يعني عمليًا إنهاءً تامًا لمشروع حل الدولتين وشرعنةً كاملة للتطهير العرقي والاستيطان.
كما ترافق إعلان الخطة مع قرار ترامب تقديم مساعدات عسكرية وإنسانية ضخمة لإسرائيل بقيمة 4 مليارات دولار، في تأكيد واضح على تماهيه الكامل مع الرؤية الصهيونية للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين. ورغم أن تيارات في إسرائيل كانت قد توقفت لفترة طويلة عن الحديث علنًا عن "الترانسفير" خوفًا من الإدانة الدولية، فقد أعادت خطة ترامب هذه الأحلام الصهيونية القديمة إلى الواجهة من جديد، وأظهرت أن الامتناع السابق عن طرح فكرة التهجير لم يكن بدافع أخلاقي، بل بسبب ضغوط سياسية دولية فقط.
بهذا، تتحول خطة ترامب إلى محاولة مباشرة لإحياء الأفكار الاستعمارية القديمة والجديدة حول التهجير القسري، ولكن هذه المرة برعاية ودعم علني من أقوى دولة في العالم، في تجاهل كامل للحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني، وانتهاك صريح للقانون الدولي.
ذاكرة لا تُمحى بالجرافات
ما يطرحه دونالد ترامب بشأن "إعادة توطين" سكان غزة وتحويل القطاع إلى "ريفييرا اقتصادية" ليس مبادرة فردية، بل هو امتدادٌ مباشر لمنظومة استعمارية عميقة. فالخطط التي تعيد إنتاج التهجير كحل تنموي أو استثماري ليست جديدة؛ إنها تنتمي إلى سلالة من السياسات التي ترى في السكان الأصليين عائقًا أمام المشاريع الكبرى.
منذ تأسيس الحركة الصهيونية، كان الطرد الجماعي للفلسطينيين جزءًا من التصور العملي لبناء "الدولة اليهودية"، تمامًا كما جرى مع السكان الأصليين في أميركا، حين استُخدم قانون "البيع أو التجويع" لاقتلاعهم من أراضيهم. ومن هنا، لا يمكن عزل طرح ترامب عن هذا السياق الطويل، إذ يُعيد تدوير منطقٍ قديم بلغة استعراض القوة والمشاريع السياحية، متجاهلًا أن غزة ليست مجرد حطام يُزال لبناء فندق، بل ذاكرة مقاومة وصمود، لا يمكن اقتلاعها بالجرافات.