تلعب البيانات الضخمة Big Data دورًا حاسمًا في مرحلة إعادة إعمار سوريا، إذ تُوفر أدواتٍ لمواجهة التحديات المعقدة لإعادة بناء دولةٍ مزقتها الحرب طوال عقد ونصف من الزمن. وتكمن أهميتها في قدرتها على معالجة مجموعات بياناتٍ ضخمة ومتنوعة وسريعة التوليد، وذلك لدعم عملية صنع القرار، وتحسين تخصيص الموارد، وتعزيز الشفافية في سياقٍ يتسم بالدمار والانهيار الاقتصادي. فما هي البيانات الضخمة وكيف يمكن أن تساهم في إعادة إعمار سوريا؟
ما البيانات الضخمة وما تحليلها؟
يشير المصطلح إلى مجموعات بيانات ضخمة ومعقدة تتميز بحجمها الكبير (مثل صور الأقمار الصناعية، بيانات الهواتف المحمولة، منشورات التواصل الاجتماعي، سجلات المعاملات الإدارية والبنكية والدراسية والطبية وغيرها، بيانات الاستشعار عن بعد..)، تتميز بسرعتها (سرعة التوليد/المعالجة)، وتنوعها (مصادرها/ أشكالها المتنوعة)، ودقتها، وقيمتها (رؤى عملية). وتتطلب تقنيات متقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، لتحليل هذه البيانات واستخلاص الرؤى اللازمة لاتخاذ القرارات في مجالات مثل إعادة الإعمار، والمساعدات الإنسانية، وتخصيص الموارد ودفع الابتكار والتقدم نحو الأفضل.
التطبيقات الرئيسية لتحليل لبيانات الضخمة في إعادة إعمار سوريا
تقييم الأضرار وتخصيص الموارد:
تُتيح البيانات الضخمة، وخاصةً صور الأقمار الصناعية والبيانات الجغرافية المكانية، إجراء تقييماتٍ دقيقةٍ للأضرار. فعلى سبيل المثال، استخدمت مبادرة المعلومات والبحوث السورية (SIRI) التابعة للبنك الدولي صور الأقمار الصناعية لتقييم الدمار في مدنٍ مثل حلب وحمص وحماة، حيث قدّرت تكاليف إعادة إعمار المساكن بحوالي ستة مليارات دولار لست مدنٍ رئيسية.
وتساعد هذه الرؤى على تحديد أولويات جهود إعادة الإعمار، وتحديد المجالات الأكثر احتياجًا، مثل الإسكان (القطاع الأكثر تضررًا) والبنية التحتية الحيوية كمنشآت الرعاية الصحية والتعليم، حيث تضررت 20% من المساكن جزئيًا ودُمرت 7% منها بحلول عام 2017.
التخطيط للتعافي الاقتصادي والاجتماعي:
يمكن لتحليلات البيانات الضخمة، بما في ذلك بيانات الهواتف المحمولة وتحليلات وسائل التواصل الاجتماعي، تتَبُّع تحركات السكان والاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية. على سبيل المثال، استُخدمت سجلات تفاصيل المكالمات (CDRs) لدراسة سلوك اللاجئين السوريين في تركيا، كاشفةً عن اختلافات في أنماط الاتصال تُسهم في صياغة سياسات التكامل الاجتماعي.
في سوريا، يُمكن لهذه البيانات رصد النازحين (أكثر من نصف سكان سوريا قبل الصراع، والبالغ عددهم 21 مليون نسمة) وتقييم الضغط على الخدمات العامة في المناطق الأقل تضررًا، مما يُساعد على توزيع الموارد بشكل عادل.
المساعدات الإنسانية وتقديم الخدمات:
تُعزز البيانات الضخمة كفاءة المساعدات الإنسانية من خلال رسم خرائط للاحتياجات في الوقت الفعلي. فيمكن لبيانات شبكات الهاتف المحمول، مع تزايد انتشارها في البلدان النامية، تتبُّع أحداث مثل تفشي الأمراض أو نزوح السكان، وهو أمر بالغ الأهمية لسوريا حيث احتاج 16.7 مليون شخص (75% من السكان) إلى مساعدات إنسانية في عام 2024.
ويمكن لمنصات مثل DataKind، التي تربط علماء البيانات بالمنظمات الاجتماعية، أن تدعم المنظمات غير الحكومية السورية في تحسين تقديم المساعدات واتخاذ القرارات.
مكافحة التضليل الإعلامي وضمان المساءلة:
تُوثّق تقنيات مثل TruePic وسلسلة الكتل blockchain، التي تستخدمها منظمات مثل الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS) وأنظمة هلا، آثار الصراع (مثل الهجمات الكيميائية في دوما عام 2018) بعلامات زمنية مُتحقق منها، مما يُكافح التضليل الإعلامي ويدعم المساءلة في تمويل إعادة الإعمار.
وتضمن سلسلة الكتل blockchain (آلية متقدمة لقواعد البيانات تسمح بمشاركة المعلومات بشكل شفاف داخل شبكة أعمال) سلامة البيانات، مما يُصعّب تزوير السجلات، وهو أمر حيوي لعمليات إعادة الإعمار والشفافية، وسط مخاوف بشأن تحويل للمساعدات إلى غير وجهتها الصحيحة.
كما تكشف معالجة اللغة الطبيعية (NLP) عن الدعاية وتُكافحها، وهو أمر بالغ الأهمية في سوريا حيث تُغذي المعلومات المضللة انعدام الثقة. ويضمن الذكاء الاصطناعي المُدمج مع تقنية بلوكتشين، والذي تستخدمه منظمات مثل SAMS، سلامة البيانات لضمان صحة التقارير.
النهضة الرقمية والتكنولوجية:
سلط مؤتمر سوريا 2025 (AI-SYRIA 2025) الضوء على طموحات تحديث البنية التحتية للاتصالات باستخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، بهدف دفع عجلة الانتعاش الاقتصادي. ويمكن لهذه المبادرات الاستفادة من البيانات الضخمة لإعادة بناء خدمات الاتصالات والخدمات الرقمية، على الرغم من تحديات مثل العقوبات ( والتي بدأت بالتقلص تدريجياً بعد قرار الرئيس ترامب في منتصف مايو/ أيار، وقف العقوبات على سوريا) وتضرر البنية التحتية.
كما يُمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بسيناريوهات التعافي الاقتصادي، مما يساعد صانعي السياسات على تخصيص الأموال بفعالية في ظل انهيار الاقتصاد السوري (معدل فقر 90% في عام 2024).
تحديات تطبيق البيانات الضخمة في سوريا
قيود البنية التحتية والموارد:
يُحدّ تدمير البنية التحتية السورية، وما لحق بها من أضرار جسيمة في أنظمة الاتصالات والكهرباء، من قدرات جمع البيانات ومعالجتها.
وتُشكّل التكاليف المرتفعة للبنية التحتية للبيانات الضخمة والحاجة إلى كوادر مؤهلة عوائق هامة، على الرغم من أن منصات مثل Kaggle يُمكنها المساعدة من خلال الاستعانة بالخبرات الجماعية.
وهنا يُعزز الذكاء الاصطناعي مصادر البيانات البديلة (مثل شبكات الهاتف المحمول، ووسائل الإعلام مفتوحة المصدر) في المناطق التي تتعطل فيها عمليات جمع البيانات التقليدية، كما هو الحال في المناطق التي مزقتها الحرب في سوريا.
خصوصية البيانات وأمنها:
يُعدّ ضمان خصوصية وأمن البيانات الحساسة، لا سيما في سياقات الرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية، أمرًا بالغ الأهمية. ويُسلّط إطار عمل HIPAA الأمريكي الضوء على الحاجة إلى سياسات قوية، وهو ما تفتقر إليه سوريا حاليًّا، مما يُعرّضها لخطر الاختراقات في بيئة متقلبة. وتُعد الاعتبارات الأخلاقية وسياسات استخدام البيانات الشفافة أمرًا أساسيًّا لبناء الثقة بين أصحاب المصلحة.
التوافق التشغيلي وتكامل البيانات:
يُمثل دمج مصادر البيانات المتنوعة (مثل صور الأقمار الصناعية، وبيانات الهاتف المحمول، ووسائل التواصل الاجتماعي) تحديًا نظرًا لعدم اتساق البيانات الوصفية والصيغ. لذا، هناك حاجة إلى بروتوكولات موحدة لاستخدام البيانات بفعالية في تخطيط إعادة الإعمار.
ما أهمية البيانات الضخمة لإعادة إعمار سوريا؟
الدقة والمرونة: يُمكّن حجم البيانات الكبير وسرعتها وتنوعها من اتخاذ قرارات دقيقة وفورية، متجاوزةً بذلك التحليلات التقليدية. وهذا أمر بالغ الأهمية لإدارة احتياجات إعادة الإعمار المعقدة في سوريا، من إصلاح البنية التحتية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
خلق القيمة: من خلال استخلاص رؤى عملية، يُمكن للبيانات الضخمة تحسين استثمارات إعادة الإعمار (المُقدرة بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار)، مما يضمن تلبية الأموال للاحتياجات المُلحّة مثل الإسكان والخدمات العامة.
ملاءمة السياق الهش: في مناطق النزاع مثل سوريا، حيث يُمثل جمع البيانات التقليدي تحديًا، تُوفر مصادر البيانات الضخمة (مثل صور الأقمار الصناعية، وبيانات CRD) بيانات موثوقة ودقيقة لرصد التقدم وتقييم النتائج.
الشمول الاجتماعي: يُمكن للبيانات الضخمة دعم إعادة الإعمار الشامل من خلال تحديد احتياجات الفئات المهمشة، وتعزيز مشاركة الفئات السكانية الضعيفة، ومواجهة سيطرة النخبة، مع أن هذا يتطلب حوكمة ديمقراطية.
ما هي أهم النصائح للاستفادة من البيانات الضخمة في سوريا؟
الاستثمار في البنية التحتية: إعطاء الأولوية لإعادة بناء أنظمة الاتصالات وتخزين البيانات، والاستفادة من الشراكات مع دول مثل المملكة العربية السعودية للحصول على المساعدة الفنية.
تعزيز حوكمة البيانات: وضع أطر واضحة للخصوصية والأمن، بالاعتماد على نماذج مثل قانون نقل التأمين الصحي والمساءلة (HIPAA)، لحماية البيانات الحساسة وبناء الثقة.
تعزيز قابلية التشغيل البيني: اعتماد معايير عالمية لتكامل البيانات لتبسيط تخطيط إعادة الإعمار عبر مجموعات بيانات متنوعة
تخفيف المخاطر السياسية: ضمان توافق مشاريع البيانات الضخمة مع حوكمة شاملة وشفافة لمنع إساءة الاستخدام وإعطاء الأولوية لاحتياجات المدنيين. يمكن للرقابة الدولية وأنظمة الذكاء الاصطناعي اللامركزية (مثل تلك القائمة على تقنية البلوك تشين) تعزيز الشفافية والمساءلة، كما أن تعديل العقوبات يمكن أن يُسهّل ذلك.
يُمكن للرقابة الدولية الاستفادة من الخبرات العالمية: استخدام منصات مثل Kaggle أو DataKind للوصول إلى المواهب العالمية في مجال علوم البيانات، وتعويض نقص المهارات المحلية.
كلمة أخيرة
إن تحليل البيانات الضخمة يشكل قوة تحويلية عبر الصناعات، مما يمكّن المنظمات من تسخير قوة البيانات من أجل الابتكار والكفاءة والنمو. وفي حين أن تحديات مثل جودة البيانات والخصوصية والفجوات في المهارة موجودة، تستمر التطورات في التكنولوجيا والمنهجيات في توسيع إمكانيات البيانات الضخمة. ومن خلال الاستثمار في الأدوات المناسبة والمواهب والاستراتيجيات، يمكن للشركات فتح الإمكانات الكاملة لتحليل البيانات الضخمة واكتساب ميزة تنافسية في العصر الرقمي.
وتُعد البيانات الضخمة محورية لإعادة إعمار سوريا، إذ توفر أدوات لتقييم الأضرار، وتخطيط التعافي، وتقديم المساعدات، وضمان المساءلة. ومع ذلك، تعتمد فعاليتها على التغلب على تحديات البنية التحتية والخصوصية والتحديات السياسية. وفي حال نجحت الحكومة الحالية في معالجة هذه التحديات، يمكن لسوريا تسخير البيانات الضخمة لإعادة الإعمار بشكل منصف ومستدام، مما يعزز الأمل في مستقبل مستقر وشامل لكل السوريين.