ستبقى القوة والهيمنة هي أساسُ بقاء الدول العظمى، برأي الكاتب جون ميرشامر، في كتابه "The Tragedy of Great Power Politics"، مرجّحًا أن القوة هي أساس بقاء هذه الدول وأن لها مناطق نفوذ تُدافع به عن مصالحها خارج حدودها وعلى حساب الدول الأخرى، فالنظام الدولي حسبه، فوضوي ولا قيود له، والسبب هو عدم وجود سلطة مركزية أعلى من الدول التي تجبرها على احترام هذا القانون، مما يخلق لديها حالة من العدوانية والتنافسية.
في مسارات التاريخ، سنجد أنه في جزءٍ ما من العالم، وبسبب الحروب والصراعات الداخلية وضعف الامبراطوريات والدول وهيمنة دول أخرى على الجغرافيا، ستسقط قوى وتصعد قوى أخرى تتصادم لاحقًا كلما تلاحمت مناطق نفوذها، فينشأ نظام دولي تحكمه مناطق الثروة والنفوذ وأقاليم التجارة، وستنقسم الدول في تكتلات جديدة بينهما، وفق قطبية ثنائية يحاول فيه كل قطب إخضاع الآخر له.
مصطلح الحرب الباردة
ظهر مصطلح القطبية الثنائية حديثًا بعد الحرب العالمية الثانية، وأُطلقت تسميته على النظام الذي ميّز العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية إلى غاية مطلع التسعينات، وقد تميّزت هذه الفترة ببروز قطبين متصارعين هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، حيث نشأ بينهما تسابق نحو توسيع مناطق النفوذ والتسلح، وإنشاء التحالفات العسكرية وتطوير التكنولوجيات الفضائية، مع ما صاحب ذلك من إنفاق كبير على الدفاعات العسكرية والترسانات النووية والتورّط في حروب غير مباشرة.
وفي تعريف بسيط لمصطلح القطبية "Polarity"، سنجد أنه يُشير إلى عدد القوى العظمى في النظام الدولي، أو بمعنى آخر فهو يحدد مجموع الدول التي تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية ومناطق النفوذ والهيمنة، أما خبراء الاستراتيجية فيقدّرون ذلك بأن القطبية هي وصف لتوزيع القوّة في النظام الدولي، ويعودون إلى ذلك لفهم الصراعات القائمة والتنافس بين الدول.
أشكال القطبية
يحدد خبراء ثلاثة أشكال للقطبية، هي:
القطبية الأحادية أو "Unipolarity": وتهيمن فيها دولة واحدة على العالم، حيث تكون القوة الأكثر فعالية والأقوى إلى حدّ بعيد عن بقية الدول، وتستفرد بقرارات شن الحروب أو إيقافها والضغط على القوى الأخرى لفرض سياسيات معينة تحمي مصالح نفوذها أو تهدف لإزاحة التهديدات المحتملة لها.
القطبية الثنائية "bipolarity": قد يكون العالم قد عاش تجارب حيّة لهذه القطبية، في صراع الحرب الباردة الأولى والثانية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وقد عرف تلك الفترة خلافات أيديولوجية، ومحاولة كل منهما بسط نفوذه على مناطق مختلفة من العالم حيث حاول الاتحاد السوفييتي بسط نفوذه على دول البلقان، ببنما سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى دعم الدول الأوروبية لإعادة بناء اقتصادية لحمايتها من المد الشيوعي.
التعددية القطبية "multipolarity": وهو أن يكون العالم مقسمًا على أكثر من قوة مهيمنة، أو عندما تكون القوة أكثر انتشارًا بين عدة دول، وهو ما يدعو إليه عدد من الخبراء الاستراتيجيين، لفرض حالة من التوازن في النظام الدولي وعدم الدخول في صراعات اقتصادية وعسكرية قاتلة تضرّ بجميع الدول المتصارعة.
لا وجود لقطبية تعددية
في هذا السياق، يحاول المفكر الروسي ألكسندر دوغين، تأطير فكرة التعددية القطبية، في إطار نظري متماسك وتقديمه كمشروع سياسي، إذ لا تتوفّر نظرية سياسية مؤطّرة لهذه الفكرة، فهو يذهب إلى أنه "لا توجد نظرية تامة ومتكاملة لعالم متعدد الأقطاب"، ويقول في هذا الصدد: "لا يمكن العثور عليها بين النظريات والنماذج الكلاسيكية للعلاقات الدولية".
على ضوء ذلك، يفسّر المفكر الروسي مجريات الحرب على غزة، بأنها تأتي في سياق ظروف دولية، يتراجع فيها نظام القطب الواحد، وتزداد فيها قوة التعدّدية القطبية، وأوضح أن ذلك سيظهر بشكل جلي إذا توسّعت رقعة الحرب.
ويذهب دوغين، إلى أن نزعة الخضوع للغرب تتراجع تدريجيًا، معتبرًا أن حلفاء أميركا في العالم الإسلامي وعلى رأسهم تركيا والسعودية، لا ينسجمون مع كل أوامرها.
إلى هنا، وفي تاريخ الحضارات القديمة وإلى غاية عصرنا الحالي، سنجد تاريخًا حافلًا بصراعات القوى التي حكمت العالم وقسمت الدول والبلدان إلى صفين متصارعين، وهو ما يصفه مؤرّخون بصراع الحضارة الآشورية مع البابلية سيدعم فكرة التحالفات مع الأقطاب المتصارعة، إضافة الحروب المتواصلة بين الحضارة البابلية والمصرية القديمة، وأخرى تتحدث عن حروب طويلة بين الروم والفرس، ولا تخلو هذه الحروب، كما في عصرنا الحديث، من استقطابات وتعبئة للدول التابعة لإقليم الدول المهيمنة في الحروب وإشراكها في صراعات لا تعنيها.
لقد كانت الدول التي انجرفت نحو هذه القطبية وقودًا لحروب طاحنة بين قوّتين عظميين في فترات سابقة من التاريخ، إذ كانت تُحاول كل واحدة بسط نفوذها على الأخرى، وربّما تنهي هذه الصراعات بظهور قوّة جديدة مستفيدة من تفكّك القوى المتصارعة وإنهاكها، حيث تشير اتجاهات تاريخية إلى أن صعود الدولة الاسلامية استفاد من الصراعات الطويلة بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، بعدما كان العرب يعيشون في قبائل متناثرة تقاتل بعضها بعضًا كالمناذرة الذين تحالفوا مع الفرس ضد الغساسنة حلفاء الروم، وفي كثيرٍ من الحالات طُحنوا في حروب بالوكالة دفاعًا عن أحد الأقطاب.
الأقطاب المتصارعة
في تاريخ الصراعات التقليدية التي حدثت في العالم القديم، سنجد أرشيفًا ثريًا يتحدث عن صراع القوى المهيمنة والأقطاب التي شكلت ملامح العالم، على بسط نفوذها، فيروي مؤرّخون عن قوى متجاورة شكلت تحالفات للإطاحة بالقوّة المهيمنة في المنطقة، ويمكن الاستشهاد هنا بمعركة نينوى الشهيرة (تمرد جيش متحالف يتكون من الميديين والبابليين والسيكثيين ضد الآشوريين)، التي كانت نهاية معارك طويلة ودامية بين الآشوريين والبابليين ما بين 613 و611 قبل الميلاد، ما أدّى إلى تدمير الإمبراطورية الأشورية الحديثة بعد حصار مطبق، وأصبحت بابل في المقابل المركز الإمبراطوري لبلاد ما بين النهرين لأول مرة منذ أكثر من ألف عام.
في هذا السياق، عرفت الحروب المصرية البابلية حالة مدٍ وجزرٍ لبسط نفوذهما على سوريا وفلسطين، ويمكن قراءة هذه الصراعات، بإدراك الشعوب القديمة لما سمّي لاحقًا بالقطبية الثنائية التي تعتمد على التحالفات وتوسيع مناطق النفوذ، ففي فترة ما، تحالف المصريون القدامى مع الأشوريين، وبعد عودة البابليين إلى مركز الهيمنة، دخلت القوّات المصرية في حرب مع البابليين لمدّة ثلاث سنوات متواصلة انتهت في سنة 604 ق.م، ببسط البابليين لسيطرتهم على الجزء الأكبر من سوريا وفلسطين، وفي معركة تل الحير خرج الملك المصري نكاو الثاني، واستعاد سوريا وفلسطين بعدما ظلتا تتمردان على الحكم البابلي، ووقعت معركة خسائرها فادحة انتهت بانسحاب البابليين واستيلاء نخاو على غزة.
في مرحلة متقدّمة من التاريخ، سنقف على حروب والفرس وسلسلة النزاعات بين العالم اليوناني الروماني والإمبراطوريات الإيرانية المتعاقبة وحكّام مملكة بارثيا والساسانيين، فقد بدأت المعارك بين هذين القطبين عام 92 قبل الميلاد، واستمرّت لفترة طويلة قبل أن تنتهي بفعل الغزوات الإسلامية حيث هاجم المسلمون الساسانيين والبيزنطيين الشرقيين، وأثّر ذلك على استمرار الإمبراطوريتين عقب فترة قصيرة من انتهاء الحرب بينهما.
انقسام العالم
بعد الحرب العالمية الثانية، قسّمت الحرب الباردة العالم إلى قطبين، حيث عُرفت هذه الحرب بمصطلح المواجهة السياسية والأيديولوجية وأحيانًا العسكرية بشكلٍ غير مباشر، كان العالم مسرحًا لها، لكنها في الواقع دارت بين أكبر قوّتين بعد الحرب العالمية الثانية، وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وكان من مظاهر هذا الانقسام ظهور معسكرين، أحدهما ليبرالي تتزعمه أميركا والثاني شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفييتي.
علينا أن نذكر أن من أسباب هذه الصراع هو رغبة الاتحاد السوفييتي في ضم بلدان من أوروبا الشرقية، حيث تأكّدت هذه المخاوف بعد انعقاد مؤتمر بوتسدام في آب/أغسطس 1945، حيث رفض الرئيس جوزيف ستالين تنظيم انتخابات ديمقراطية في بولندا وهو ما أحدث خلافات بين الطرفين.
وفي سياق هذا الحدث، سنعود إلى أن الاتحاد السوفييتي تحالف مع بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية ضدّ العدو النازي المشترك، ورغم التناقض الأيديولوجي وصراع المصالح، فإن الأهداف دفنت هذه الهوّة لتعيد حرب المصالح مرّة أخرى تشكيل قطبية أخرى من جديد.
ليس مجرد صراع أيديولوجي
على إثر هذه الرغبة في التوسّع والهيمنة، ستُطلق الولايات المتحدة مشروع "مارشال" الشهير، الهادف إلى دعم أوروبا اقتصاديًا بتمويلات مكلفة لبناء بلدانها التي دمرتها الحروب، ولكن هدفه الحقيقي، كان قطع الطريق أمام الهيمنة السوفييتية التي جاءت تحت غطاء مساعدة أوروبا المنكوبة من الحرب.
شكّل ستالين منظمة "مكتب الإعلام الشيوعي" في البلدان الأوروبية وكان لهما حضورٌ شعبيٌّ في هذه الدول، واستهدف المنتدى توجيه التطورّ الأيديولوجي للدول والأحزاب الأعضاء فيه، وانقسم العالم إلى معسكرين اثنين: ديمقراطي مناوئ للإمبريالية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وإمبريالي بقيادة أميركا، وستجد أوروبا نفسها فيما بعد، مقسّمة بين المعسكرين وفق ما عرف بـ "الحرب الباردة".
هذه الحرب ستخلقُ انقسامًا حادًا بين دول العالم، ليس على المستوى الأيديولوجي فحسب؛ بل امتدت مظاهره لتشمل القطيعة الاقتصادية بين المعسكرين وتكوين الأحلاف العسكرية والتسابق نحو التسلح، حيث أنشأت الكتلة الغربية السوق الأوروبية المشتركة بينما أنشأت الكتلة الشرقية الكوميكون.
على المستوى العسكري، اتجهت الدول الغربية إلى تكوين حلف شمال الأطلسي، وأنشأ السوفييت في المقابل "حلف وراسو"، وهذا في ظل تنافس محموم حول التسلح وبناء القدرات العسكرية وصنع القنابل النووية والهيدروجينية، فنشأ بذلك ما يُسمّى "نظام توازن الرعب" القائم على تفادي الطرفين الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة، تجنبًا من استخدام الأسلحة المدمّرة.
بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، وهيمنة التعايش السلمي البلدين كليًا عام 1991، دخل العالم فيما يسمّى مرحلة الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وهو مصطلح عمّر طويلًا منذ تلك الفترة إلى اليوم، حيث شهدت العقود الثلاثة الأخيرة هيمنة أميركية واضحة عسكريًا واقتصاديًا، بافتعالها حروبًا في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، في الصومال والعراق وأفغانستان، والتدخل في ليبيا واليمن وسوريا من خلال الضربات الجوية العسكرية لفرض واقع مغاير ودعم أنظمة أو بدعوى محاربة الإرهاب تارة وحماية مصالحها ومصالح دول حليفة تارة أخرى.
تساهم ديناميات التفاعل بين الدول اليوم، في إعادة إنتاج القطبية الأحادية، في وقت تتصاعد فيه دعوات إلى العمل من أجل بناء عالم متعدد الأقطاب، في ظلّ تنامي القوة الصينية "القوة العظمى الناشئة المحتملة".
تدافع الصين وروسيا اليوم عن عالم متعدد الأقطاب، بينما تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى احتواء القوة الصينية، بينما يرى خبراء أنها لم تعد قادرة اليوم على إقناع الدول بعزل الصين اقتصاديًا، مقابل وعودٍ بالوصول إلى السوق الأميركية، وهو ما يبدو أن إدارة ترامب اليوم تسعى إليه، من خلال الضغط المستمر واستحداث ضرائب مضادة على دول العالم، في مقابل ذلك يرى كثيرون باستحالة بلوغ عالمٍ متعدد الأقطاب، وبأن الحديث عن ذلك أقرب إلى الأسطورة، مشترطًا تنامي قوّة ثالثة تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ العالمي، كما ذهب إليه جو إينج بيكيفول (Jo Inge Bekkevold) في مقاله "لا العالم ليس متعدد الأقطاب".