يثير مفهوم النخبة جدلًا قديمًا متجددًا. ففي حين يرى البعض أن الفكرة الأساسية في نظريات النخبة هي فكرة التفوق وتكريس حكم الأقلية للأكثرية، وبالتالي توجيه أكثر الآراء انتقادًا للديمقراطية وللاشتراكية الماركسية؛ يُحاجج آخرون بأن الاهتمام بالنخبة والنخب دافعه الرئيسي توجهٌ علمي لدراسة واقعةٍ اجتماعية وسياسة قائمة في كل مجتمع، وأن محاولة تجاوز هذا الواقع دافعه الرئيسي مطاردة فكرة طوباوية لا تاريخية عن مجتمع لا طبقي لا تفاوتات فيه.
وفي موقف نقدي وسط بين الموقفين السابقين، يرى توم بوتومور أن في كلتا النظريتين "الماركسية والنخبوية" ثمة عناصر من الحتمية والحد من الحرية بهذا القدر أو ذاك، لأن وجهة نظر أصحاب نظريات النخبة القائلة بأنه: "ليس فقط كل مجتمع معروف مقسم إلى طبقتين أقلية حاكمة وأكثرية محكومة، بل إن كل المجتمعات يجب أن تنقسم على هذا الشكل"، لا تقل حتمية عن رأي الماركسية القائل أو المتنبئ بأن "شكلًا مجتمعيًا معينًا، يتمثل في المجتمع اللاطبقي، سيأخذ طريقه إلى الوجود بشكل حتمي".
لكن على الرغم من الموقف الماركسي النافي لإلزامية وعمومية "قانون النخب والجماهير"، وموقف أصحاب نظريات النخبة القائل بإلزامية وعمومية ذلك القانون، فإننا مدينون إلى حد كبير لنظريات النخبة في إبراز تحديدات جديدة للديمقراطية، مع عدم استبعاد وجود مبادئ اجتماعية مناهضة للديمقراطية والاشتراكية بوجه خاص في بعض نظريات النخبة، لا سيما تلك المرتبطة بحالتيْ توماس كارليل "فلسفة البطل" ونيتشه "نظرية المتفوق ـ السوبرمان"، وبشكل أخف حدة نظرية باريتو حول النخبة الحاكمة، وأفكار موسكا المنهجية حول العلاقات بين النخبة والجماهير.
وفي هذا السياق، لاحظ أحد الدارسين، بكثير من الذكاء، أن مبادئ نظريات النخبة عند مفكري وفلاسفة القرن التاسع عشر، كانت في معظمها نتاجًا لمجتمع أوروبي ما زال يحمل كثيرًا من بقايا الإقطاعية، وأن تلك المبادئ مثلت، زيادة على ذلك، محاولة لبعث أفكار الهرمية الاجتماعية القديمة وإقامة العوائق في وجه انتشار الأفكار الديمقراطية.
وغير بعيد من ذلك، يرى لوكاتش أن علماء الاجتماع والفلاسفة الذين أثاروا مسألة القيادة السياسية هم على وجه التحديد من بلدان لم تنجح في "إنشاء ديمقراطية برجوازية أصيلة"، مثل ألمانيا (نيتشه، ماكس فيبر)، وإيطاليا (فلفريدو باريتو، غايتانو موسكا). وسنرى في فترة لاحقة من المقال كيف أنه يمكننا من خلال تتبع تطور موضوع النخبة أن نفسر تطور الأنظمة السياسية من حكم الأوليغارشية والأوتوقراطية إلى الأشكال المتعددة من الحكم الديمقراطي.
إضافةً إلى ذلك، فإنه في زمننا الراهن لعبت النخب السياسية دومًا أدوارًا حاسمة في ترسيخ الانتقال الديمقراطي أو عرقلته، ولنا في الربيع العربي أفضل مثال، حيث أدى فشل النخب السياسية في إدارة خلافاتها ضمن إطار القاعدة الديمقراطية، بحسب المفكر العربي عزمي بشارة، إلى إفشال وعرقلة التحول نحو الديمقراطية، إذْ شوهت الممارسة السياسية لهذه النخب العملية الديمقراطية بإظهارها عامل فوضى ومعول هدم يهدد الأمن والاقتصاد في أذهان كثيرين من المواطنين، ما فتح الطريق أمام وصول قادة عسكريين وزعماء شعبويين (لا تجربة سياسية لديهم) لسدة الحكم، وما ذلك إلا لفقدان الجماهير الثقة فيما يسمى في بعض الأدبيات بـ"الطبقة السياسية".
تحديدات وتوترات
في كتابه "دليل الاقتصاد السياسي"، يعرف عالم الاجتماع الإيطالي فلفريدو باريتو النخبة بأنها: "تلك الطبقة المتميزة في فروع النشاط المختلفة". لكن باريتو يقيم تفريقًا منهجيًا بين شكلين من النخبة هما: النخب غير الحاكمة، والنخبة الحاكمة التي بيدها القيادة والسلطة في أي مجتمع، والأخيرة هي الموضوع الأساسي الذي اشتغل عليه باريتو.
لكن هذا التمييز المنهجي للنخبة يترتب عليه تمييز آخر طبقي هذه المرة، حيث يرى باريتو أنه في كل مجتمع وشعب لدينا طبقتان على المستوى الأفقي هما: الطبقة غير النخبوية، أي العامة والجماهير والشعب من جهة، والطبقة النخبوية التي هي في العادة الأكثر غنى في المجتمع، وبالتالي الأكثر قوة وتأثيرًا من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الطبقة العليا تنقسم بدورها إلى قسمين: نخبة حاكمة بالمفرد، ونخب غير حاكمة بالجمع.
أما في كتابه "Mind and Society"، فينصب اهتمام باريتو على التعارض بين من بيدهم القوة، أي النخبة الحاكمة، وأولئك الذين لا يملكون القوة، أي الجماهير أو المحكومين. وبالتالي، تتحدد النخبة الحاكمة بوصفها أقلية تتحكم في مصير الأغلبية.
وتأكيدًا لهذه النتيجة، يقول غايتانو موسكا إنه في كل بنية سياسية وفي كل المجتمعات – سواء تلك التي لم تكد تبلغ فجر المدنيات أو تلك المتقدمة والقوية – تنشأ طبقتان من الناس: طبقة حاكمة وطبقة محكومة. والطبقة الحاكمة هي دائمًا أقل هاتين الطبقتين عددًا، وهي التي تقوم بكل الوظائف السياسية وتحتكر السلطة، كما تتمتع بالفوائد التي تكون حصيلةً لتلك السلطة. بينما الثانية، وهي الأكثر عددًا، مسيرة من الطبقة الأولى التي تدير شؤونها بطريقة يقال فيها أحيانًا أنها شرعية بصورة أو بأخرى، ولكن يقال في أحيان أخرى أنها "كيفية" عنيفة بشكل أو بآخر.
ويعيد موسكا أسباب سيطرة الأقلية على الأكثرية إلى كون الأولى منظمة وتطيع دافعًا واحدًا، وتتشكل من أفراد متفوقين، عكس حالة الأكثرية غير المنظمة دائمًا. ويذهب موسكا أبعد من ذلك، إذ يعتبر حكم الأقلية المنظمة للأكثرية غير المنظمة أمرًا حتميًا.
إلى هنا يبدو أن موسكا وباريتو متفقان على تحديد معين للنخبة بوصفها مجموعات توجد في قلب السلطة وتؤثر بشكل حيوي في تدبير الشأن العام واتخاذ القرار. كما يتفق موسكا وباريتو على تكوّن النخبة المشكِّلة للطبقة السياسية من فئات اجتماعية متمايزة (سياسية، عسكرية، دينية، إدارية، تجارية.. إلخ).
لكن دراسة موسكا لطبيعة تشكل النخب، وعلى وجه خاص في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، دفعته إلى تنسيب الأمور في نظرته لعلاقة النخبة بالمجتمع بالانتقال من التصور المتعالي الذي يفصل النخبة عن المجتمع إلى تبني تصور اتصالي يتبين فيه أنه في الأزمنة الحديثة، على الأقل، لا ترتفع النخبة عاليًا فوق سائر المجتمع. بل، وعلى العكس، تتصل بالمجتمع اتصالًا حميميًا، لكن عبر نخبة فرعية، أكبر عدديًا من نخبة السلطة، تشمل كل الطبقة الوسطى الجديدة من: "خدام مدنيين ومديرين والموظفين عمال الياقة البيضاء وعلماء ومهندسين ورجال فكر". ويذهب موسكا أبعد من ذلك إلى الاعتراف بأن الأكثرية، الجماهير، قد تستطيع عبر ممثليها أن تمارس نوعًا من الرقابة، خاصةً في الديمقراطية التمثيلية، على سياسة الحكومة.
ومع تقدم المشاركة الديمقراطية شيئًا فشيئًا في المجتمعات الغربية، بدا يتضح مدى تأثر الطبقة السياسية بالقوى الاجتماعية المختلفة، إذْ بدأت وتيرة التمايز في تلك الطبقة تزيد لأنها باتت تمثل مصالح عديدة مختلفة في المجتمع، وكأن دمقرطة المجال السياسي ستقود حتمًا إلى دمقرطة النخبة لناحية فتح باب الالتحاق بها على مصراعيه، وتسريع وتيرة دوران النخبة وتغيرها (ظهور عناصر ووجوه جديدة في النخبة)، وبالتالي القطع مع الممارسات الاحتكارية للسلطة والنفوذ والمال.
لكن قبل فض التوتر المتصور بين حكم النخبة أو حكم الأفراد المتفوقين في كل تشكيل اجتماعي سياسي وبين الديمقراطية، والذي سيتجلى بوضوح مع جوزيف شومبيتر، لا بد من الإشارة إلى جانب من التحديدات المهمة لحقل مفاهيم النخبة أملته هذه المرة التمايزات والتدقيقات الجديدة التي أُحدثت في موضوع النخبة، مما استدعى وضع مصطلحات دقيقة مميزة غير تلك المستعملة في الأدبيات الكلاسيكية.
وفي هذا الصدد، ميز توم بوتومور في كتابه "النخبة والمجتمع" بين 3 مفاهيم هي على التوالي: مفهوم النخبة، ومفهوم الطبقة السياسية، ومفهوم النخبة السياسية. فالنخبة أو النخب، حسب بوتومور، هي فئات ذات وظائف ولها وضع مميز في المجتمع بصرف النظر عن أسباب ذلك الوضع. أما الطبقة السياسية، فهي الأقلية التي تحكم المجتمع، وهي تشير إلى الفئات التي تمارس السلطة والسياسة أو التأثير السياسي والتي تدخل في صراعات مباشرة في سبيل القيادة السياسية.
وبالتالي، يمكن القول إن الطبقة السياسية تتألف من عدد من الفئات التي قد تدخل في درجات متفاوتة من التعاون أو التنافس والصراع فيما بينها، في حين تمثل النخبة السياسية فئة صغرى ضمن الطبقة السياسية تشمل الأفراد الذين يمارسون السلطة السياسية في مجتمع ما في وقت من الأوقات، وتضم أعضاء الحكومة وأعضاء الإدارة العليا والقادة العسكريين، وفي بعض الحالات العائلات ذات النفوذ السياسي، وقادة المؤسسات الاقتصادية القوية.
وفي الوقت الذي يلاحَظ فيه أن عملية تحديد حدود النخبة السياسية غير سهلة، فإن تحديد حدود الطبقة السياسية أكثر يُسرًا، فهي تضم – بالإضافة للنخبة السياسية – النخب المضادة لها المؤلفة من قادة أحزاب سياسية ليست في الحكم، وممثلي مصالح أو طبقات اجتماعية جديدة، مثل قادة النقابات مثلًا وفئات من رجال الأعمال ورجال الفكر ممن هم فاعلون في حقل السياسة.
فض التوتر والتعارض بين النخبة والديمقراطية
إن التعارض المفترض بين فكرة النخب وفكرة الديمقراطية يُختزل في بعدين، أولهما أن تأكيد نظريات النخبة على تفاوت الأفراد في الملكات والمواهب والقدرات يعارض مرتكزًا أساسيًا في بناء الفكر السياسي القائل، ضمنًا، بتساوي الأفراد/المواطنين. أما البعد الثاني، فيتعلق بالتعارض والتناقض بين فكرة حكم الأقلية النخبوية ونظرية حكم الأكثرية الديمقراطية.
إن فض هذا التوتر "المتوهم"، بحسب البعض، يأخذ شكلين: يتمثل الأول منهما في أن الحكم الديمقراطي لا يختزل في حكم الأكثرية الفعلي، فهذا أمر شبه مستحيل، بل تكمن أهمية الحكم الديمقراطي أساسًا في أن: "مراكز القوى والقرار في الدولة مفتوحة، مبدئيًا، أمام الجميع، وأن هناك تنافسًا في سبيل الوصول إلى السلطة، كما أن من يتولون السلطة في وقت من الأوقات، مسؤولون عن تأدية حساب للناخبين الذين بيدهم القدرة على إزاحتهم بعدم تجديد الثقة فيهم". وهذا ما أشار إليه كارل مانهايم في مرافعته حول انسجام نظريات النخبة مع الديمقراطية، حيث يحاجج بأنه: "يكفي الديمقراطية أن المواطنين، على الرغم من أنه لا يسمح لهم بلعب دور مباشر في الحكم بصورة دائمة، لديهم إمكانية جعل مطامحهم محسوسًا بها بين مدة وأخرى"، في إشارة إلى الانتخابات الدورية.
وهذا الرأي هو ما يذهب إليه بشكل أكثر عمقًا شومبيتر بقوله إن الديمقراطية هي: "التدبير المنظم للوصول إلى قرارات سياسية يستطيع فيها الأفراد الحصول على سلطة التقرير، بواسطة صراع تنافسي على أصوات الشعب".
وبالعودة لفكرة المساواة التي تعتبر التوتر الأبرز في تناقض نظريات النخبة مع الديمقراطية، يرى بوتومور أن فكرة المساواة التي تنطوي عليها الديمقراطية، كشكل من أشكال المجتمع، يمكن أن تؤول بكونها مساواةً في الفرص. وعندئذ يمكن أن تعتبر الديمقراطية، مجتمعًا تصبح فيه النخب، الاقتصادية والثقافية والسياسية، مفتوحةً من حيث المبدأ، والعامل الأساسي في الالتحاق بها ليس التوارث وإنما الجدارة الفردية.
ومع فض التعارض بين نظريات النخبة والديمقراطية، يبقى التعارض الحقيقي هو ذلك القائم مع الاشتراكية الماركسية التي كان أصحاب نظريات النخبة الأوائل يرون أن الديمقراطية، كمرحلة في "ثورة الجماهير" تؤدي بالضرورة إليها، وهو ما تبين أنه افتراض وتوقع خاطئ.