أدباء كتبوا بغير لُغتهم الأم (ميغازين).

المنفيون في اللغة.. لغة نقولها ولا تقولنا

30 يونيو 2025

المنفى ليس فقط حالة جغرافيّة يُنتزع فيها الإنسان من أرضه، بل تجربة وجودية تتسلل إلى اللغة، وتحولها من أداة تواصل إلى حقل صراع. ففي التراث الغنائي الجزائري، كما في أدب المنفيين، تظهر اللغة بوصفها الوعاء الأعمق للاغتراب، والمرآة الأصدق لتمزق الهوية. تُجسّد أغنية "المنفي"، التي أعاد إحياءها الفنان رشيد طه، هذا الألم المزدوج: غياب الأجساد عن الوطن، وضياع الأرواح في المنعطفات اللغوية والثقافية. ليس غناء رشيد طه مجرد استعادة لماضٍ منسي، بل هو فعل مقاومة لغوية وهوية، تَصدّى من خلاله لفكرة الانتماء الأحادي، وانفتح على المنفى بوصفه شرطًا للإبداع.

تعود أغنية "المنفي" إلى القرن الثامن عشر، حين كُتبت لتوثيق تجربة النفي القسري الذي تعرّض له المقاومون الجزائريون المُرحّلون إلى جزيرة ماكدونيا. ويقول مطلعها: "قولو ليمّا ما تبكيش، ولدك راجل ما تخافيش"، وهي جملة تختصر ألم الغياب والفقد معًا. وتجربة رشيد طه مع هذه الأغنية لم تكن استثناءً، بل امتدادًا لرؤيته الفنية التي استحضرت سيرة التهجير والانفصال، بينما كان هو نفسه يعيش تجربة اغتراب ثقافي، مُغنيًا باللهجة الجزائرية في مجتمع فرنسي، يعيش فيه بين لغتين وهُويتين.

لا تنحصر تجربة المنفى في رشيد طه ولا في ما أعاده من إنتاجٍ غنائي، بل هي حالة وجدانية مستمرة تتكرر في كل شكل من أشكال الإبداع، كالموسيقى والتمثيل والرسم والأدب. ولعل الأدب هو أكثر المساحات الإبداعية التي تجلّت فيها تجربة المنفى، خاصة عند أولئك الذين أُجبروا أو اختاروا الكتابة بلغةٍ غير لغتهم الأولى.  شبّههاإلياس خوري ب "اللغة المكسورة"، حيث لا يعود الكاتب  قادرًا على امتلاك لغته الأصلية كما كان في السابق، كما أنه لا يثق في اللغة الجديدة كما ينبغي. تشبه اللغةُ القطعةَ النقدية، إذ لا تُقوّض مهمتها التواصلية حمولتها الهوياتية. فهي مرآة عاكسة للانتماء الجمعي والفردي. والحديث عن اللغة كشحنة هوياتية في الإطار الأدبي، يستدعي بالضرورة الحديث عن المنفيّين في اللغة، بوصفه امتدادًا طبيعيًّا لأولئك الذين يجدون أنفسهم معزولين أو مغتربين داخل لغاتهم، بسبب الاحتلال، أو الاضطهاد الثقافي، أو حتى نتيجة صراع داخلي.

 الكتابة بغير اللغة الأم  قطيعة  أم تصالح مع  الاغتراب؟ 

يضعنا الأدب أمام تجارب كثيرة لكتّاب اختاروا، أو أُجبروا، على الكتابة بلغة غير لغتهم الأم، تنبع  هذه التحولات غالبًا من سياقات سياسية واستعمارية وأمنية معقّدة. وتؤثر بعمق في تشكيل الهوية الأدبية والفكرية لهؤلاء الكتّاب. وتُعد تجربة الكاتب الجزائري مالك حداد صاحب روايات "سأهبك غزالة" و"التلميذ والدرس" حالة أدبية فريدة ومعقدة ونموذجًا بالغ الدلالة على هذا التوتر اللغوي والوجودي. فقد  كتب حداد بالفرنسية، اللغة التي تلقاها في المدرسة الاستعمارية وأتقنها جيدًا، لكنه لم يشعر يومًا بأنها تمثّل امتدادًا لهويته أو انتمائه الثقافي.بل على العكس، اعتبرها وسيلة تواصل ضرورية، لكنها لغة "الآخر"، لغة المستعمر، لغة من سرق الأرض واللسان. اللغة الحاجز الذي يفصله عن بلده "اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني، أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط" هذا الشعور العميق بالاغتراب اللغوي دفعه إلى الاعتراف الصريح بقوله: "أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين إنني لست فرنسيًّا". 

تجسّد روايته "رصيف الزهور لم يعد يجيب" حالة وجودية مُمزقة: كاتبًا يعيش بين لغتين؛ لغة ينتمي إليها لكنه لا يجيدها (العربية)، ولغة يُجيدها لكنه لا ينتمي إليها (الفرنسية). لم تكن اللغة هنا وسيلة للانتماء أو التعبير الذاتي، بل كانت قيدًا وجوديًّا ومنفى داخليًّا يفرض على الكاتب أن يتكلم بصوت لا يشبهه. ولذلك، وبعد استقلال الجزائر، قرر حداد التوقف عن الكتابة، معتبرًا أن الاستقلال السياسي لا يكتمل دون تحقق الاستقلال الثقافي، بما يشمل اللغة والهوية.

 كان موقف مالك حداد من الفرنسية صارمًا ، على نقيض  مواقف  أخرى مغايرة لدى كتّاب جزائريين آخرين ممن تلقوا التعليم نفسه، وكتبوا بالفرنسية، مثل محمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين. وقد عبّر ياسين عن علاقة مختلفة بالفرنسية، واصفًا إياها بأنها "غنيمة حرب"؛ لغة يمكن توظيفها في محاربة الاستعمار من داخل لغته، أي عبر تحويل أداة الهيمنة إلى أداة مقاومة. بين موقف حداد الرافض للغة الآخر باعتبارها قيدًا ثقافيًّا، وموقف ياسين الذي رأى فيها أداة اختراق، تتجلى ثنائية المنفى اللغوي كعِبء أو كأداة مقاومة. فحداد لم يرَ في الفرنسية وسيلة للتحرر بل لعنة لغوية، في حين استطاع ياسين تكييفها لتصبح جزءًا من نضاله الثقافي.

يحيلنا هذا التوتر الوجداني المتعلق باللغة  والذي عبر  عنه مالك حداد بقوله  إن "الكتابة بالفرنسية شبيهة بالكتابة في لغة لا تشبه الوطن" إلى تجربة أخرى تتقاطع مع ما عاشه مالك حداد، وهي تجربة المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، مع الحفاظ على السياقات الثقافية والتاريخية لكلّ تجربة، فرغم اختلاف المسارات فإنّ تجربة النفي والاقتلاع حاضرة، فقد نشأ سعيد في فلسطين ثم القاهرة، متحدثًا بالعربية، لكنه تلقى تعليمه وكتب أعماله باللغة الإنجليزية، لغة المستعمر الثقافي، وعيًا منه بفجوة الانتماء اللغوي. وفيما اعتبر حداد اللغة  حاجزًا بينه وبين وطنه كان إدوارد  سعيد يُطوع اللغة ليكتب عن فلسطين وعن هويته الممزقة، ففي كتابه "تأملات حول المنفى" يعترف سعيد بما يخلفه المنفى من اغتراب وانفصال "إن  المنفى مؤلم، لكنه يمنح  قدرة خاصة على الرؤية  من حافة الأشياء، حيث لا مكان آمِن بالكامل".

 يرى سعيد أن المنفى لا يحمل أي بعد رومانسي، بل ينطوي على مشاعر متناقضة، وقد عاشه كجرح مفتوح، ميزته أنه يمنح نوعًا من الوعي النقدي، ويحرّر الإنسان من التورط الكامل في الانتماء، يمنح القدرة على رؤية  ما لا يراه الآخرون، رؤية الهامش، أي القدرة على النظر إلى الخارج، بتجرد من كل الأنساق الثقافية والاجتماعية والانسانية، رؤية تترك مسافة أمان بينها وبين المركز. لهذا تعامل سعيد مع اللغة الإنجليزية، رغم كونها لغة الآخر، على أنها أداة فعالة للنقد والكشف، لا مجرد لغة استِلاب.

لغة الآخر جسر  نحو ذات جديدة 

 قد تمثل لغة "الآخر" منفى اضطراريًّا يُفرض على الكاتب نتيجة ظروف سياسية أو اجتماعية، لكنها في المقابل قد تُصبح، في حالات معينة، فضاءً تعويضيًّا يمنح حرية أكبر من اللغة الأم. هذه المفارقة تُجسّد جدلية المنفى والملاذ: فبينما تُفقَد اللغة الأم كتجسيد للهُوية الأولى، قد توفر اللغة المكتسبة لاحقًا إمكانات جديدة للتعبير والكتابة والتجاوز.

تُعد تجربة ميلان كونديرا مثالًا بارزًا على الانفصال المؤلم عن اللغة الأم. فقد كتب أعماله الأولى باللغة التشيكية، لكنه عانى من الرقابة والتضييق في بلاده، ما دفعه لاحقًا إلى اختيار الفرنسية لغة كتابة جديدةً بعد صمت طويل. لم يُخفِ كونديرا شعوره بالاقتلاع؛ فقد شبّه التخلي عن التشيكية بأنه "انفصال عن الحياة الأولى، عن الطفولة، عن صوت الأم". ورغم هذا الألم، وجد في الفرنسية لغة حرية واختيار، وأداة لإعادة بناء الذات، لا مجرد منفى لغوي قسري. لذا، لا يمكن اعتبار انتقاله إلى الفرنسية إنكارًا للغة الأم، بل تحولًا استراتيجيًّا وأدبيًّا، مكّنه من إنتاج رؤية جديدة للعالم.

في المقابل، يقدّم سليم بركات مقاربة مختلفة للمنفى اللغوي. فرغم انتمائه الكردي، كتب بالعربية، دون أن يعتبرها "لغة الآخر"، بل عدّها لغة بديلة قريبة، متجذرة في الدين والفكر والتراث، وإن لم يشعر بانتماء كامل لها. فالعربية بالنسبة له ليست وطنًا بديلًا فحسب، بل مساحة للمقاومة، في مواجهة نظام سياسي يسعى لطمس الهوية. وقد صاغ بركات ذلك بدقة حين قال: "اللغة منفاي ووطني"، معبرًا عن التوتر الدائم بين الانتماء والاقتلاع، بين الهوية والكتابة.

من خلال هاتين التجربتين، يظهر كيف أن اللغة الثانية لا تؤدي بالضرورة إلى الانفصال الكامل عن الجذور، بل قد تشكّل أفقًا جديدًا للذات، وتمنح الكاتب قدرة على إعادة تعريف نفسه وموقعه في العالم، سواء كان اختياره للغة الجديدة نابعًا من اضطرار سياسي، كما في حالة كونديرا، أو من خيار ثقافي وتاريخي، كما في حالة بركات.

الكتابة من موقع الآخر داخل اللغة 

 لا يمنح الاختيار اللغوي مكانًا مضمونًا، ولا ينهي التوتر ولا القلق الدائم المتعلّق بشعور الاغتراب، حتى عند أولئك الذين أجادوا وأبدعوا وانتشروا انتشارًا كبيرًا بلغة الآخر. فلا تتعلّق الغربة باللغة طالما أن الكاتب قد ملكها وأجادها وانتشر بها، ولكن تظهر اللغة كانعكاس لشعور داخلي يرتبط أساسًا بالانتماء إلى ثقافة الآخر. فالاغتراب الثقافي والاجتماعي هو ما يخلق حالة من انعدام الأمان الكلي، وحالة من عدم الرضا. ذلك أنّ  اللغة ليست فقط مجموعة من القواعد والمفردات، بل هي تمثيل ثقافي وحضاري يحمل ذاكرة جماعية وشعورًا بالانتماء. ولا يتقتصر الأمر على كونها " أداة تقنية " بل "اللغة كبيت للكينونة" كما عبر مارتن هايدغر.

كتبت الكاتبة اللبنانية إيتيل عدنان بالإنجليزية والفرنسية، وهما لغتان أجادتهما إجادةً مطلقة، ورغم ذلك عبّرت عن ألم الكتابة خارج لغتها الأم، اللغة العربية، بقولها: "أشعر أنني أكتب دائمًا من موقع الغريبة، حتى في اللغة التي أجيدها." ورغم وعيها بأن الكتابة بلغة أخرى كانت نتيجة منفى سياسي وثقافي ، فإنها لا تختلف عن الكتّاب المشار إليهم في هذا المقال.

وتتقاطع تجربة عدنان مع تجربة جوزيف كونراد، الكاتب البولندي، الذي يُمثّل أحد أعمق نماذج الاغتراب اللغوي في الأدب الحديث. ليس فقط لأنه كتب بلغة غير لغته الأم، ولكن لأنه ظل ينظر طوال حياته إلى اللغة التي كتب بها وأبدع فيها كمنفى لغوي. إذ وُلد كونراد في بولندا حين كانت تحت السيطرة الروسية، ونشأ ناطقًا بالبولندية والفرنسية، وتعلّم الإنجليزية بعد هجرته إلى بريطانيا. ورغم أن كتاباته نالت شهرة عالمية وغيّرت مسار الأدب الإنجليزي، فإنه اعتبر نفسه دخيلًا لغويًّا على الإنجليزية. كان يكتب من موقع "الغريب"، لا "ابن اللغة". وقد أشار في رسائله إلى الانفصال الذي يعيشه بين لغة يفكّر بها ولا يكتب بها، ولغة يكتب بها ولا يفكّر بها.

المنفى ليس دائمًا مجرد خلعٍ جغرافي يتعلق باستبدال أرضٍ بأخرى، بل قد يكون خلعًا لغويًا وثقافيًا. إذ يجد الكاتب نفسه مضطرًّا للتعبير بلغةٍ يشعر حيالها بالاغتراب، وإن أتقنها. يتقاطع المنفى واللغة في منطقة مؤلمة من اللاوعي، حيث تصبح اللغة مأوىً ومأزقًا في آنٍ واحد.

حين يُنفى الكاتب قسرًا أو طوعًا، فإنه يفقد جزءًا من ذاته. فاللغة ليست مجرد مجموعة من المفردات والقواعد الضابطة لسلامة المعنى، بل هي الذاكرة الجماعية، وصوت الأم، وضجيج الشارع، وحكايات الطفولة، وشيفرة اللاوعي. وعندما يلجأ الكاتب إلى لغةٍ أخرى، فإنه غالبًا ما يقع بين فكيْها: لغةٍ يكتب بها، ولغةٍ يشعر ويفكر بها.

إن المنفى اللغوي من أكثر صور الاغتراب تعقيدًا، حيث تصبح اللغة مكانًا يسكنه الكاتب اضطرارًا، لكنه يصنع منه قوةً تعبيرية جديدة — جسرًا يمتد نحو عالمٍ آخر، وثقافةٍ أخرى، وذاتٍ أخرى تملك وعيًا نقديًّا وسؤالًا مستمرًّا عن الهوية والانتماء. تظل علاقة اللغة بالمنفى علاقةً لا نهاية لها؛ لا يحسمها الإتقان، ولا الانتشار الواسع، بل يظل صراعًا داخليًّا يولّد إبداعًا خاصًّا.

  من الاغتراب  اللغوي إلى العنصرية اللغوية 

ولأن اللغة ليست مجرد أداة تواصلية محايدة، بل حمولة هوياتية عميقة ومعقدة، ومرآة تعكس ثقافة مجتمعية، كما تنمّ عن ذاكرة فردية وجماعية  وأفق للانتماء. وحين يجبر الإنسان على التخلي عن  لغته الأم واستبدالها بلغة أخرى، سواءً كان ذلك طوعًا أم قسرًا، يحدث الألم، الألم الذي يعبر  عنه الكاتب ويتجلّى في  أحيان كثيرة  بشكل أدبي وجمالي عبر النصوص،أو نفسي  في شعوره بالانقسام الداخلي ، إنه ألم التمزق  والانفصال، ألم قابل للاشتعال، يتحول  إلى فعل مقاومة لغوية  وثقافية.

 تتشكل المقاومة اللغوية، لا باعتبارها مجرد موقف دفاعي عن اللغة الأم، بل نتيجة مباشرة  لذلك الألم المتراكم ، الناجم عن صراع طويل للغات فُرضت (كما في سياقات الاستعمار)، أو اختيرت اضطرارًا (كما في الهجرة أو الاستيعاب اللغوي القسري). يتقاطع الشعور الذي يعيشه الكتّاب الذين اختاروا الكتابة بلغة الآخر، مع الشعوب التي فُرضت عليها سياسات لغوية قمعية — سواء من قبل المستعمر أو من طرف الدولة الوطنية — فينتج عن ذلك إحساس عميق بالاقتلاع من الجذر اللغوي والثقافي.

لا يقتصر هذا الاقتلاع على الشعور، بل يتطور أحيانًا إلى رد فعل قومي لغوي متعصب، يتسم بالخوف من الآخر، ورفض اللغة المغايرة، بل قد يتحول إلى شكل من العنصرية الرمزية التي تقصي من لا ينتمي إلى "اللغة الأم". فتتحول "القومية اللغوية" من وسيلة حماية للهوية، إلى نموذج دفاعي عنصري يُغلق باب الحوار بدل أن يفتحه. 

  تجاوُز هذا الألم بوعي، يُحتّم استعادة مفهوم اللغة بوصفها مجالًا للتلاقي لا للتصادم ، ذلك أن اللغات ليست كيانات متصارعة وإن استغلتها النظم الحاكمة والسلطات السياسية والدينية والثقافية وحتى السياسات الاستعمارية، بل أدوات تواصل وحوار . 

 في عالم بدأت حدوده تُختزل بشكل واضح، تلعب فيه التكنولوجيا دورًا ثقيلًا في تقريب الثقافات وفتح أبواب الحوار، يصبح التعصب اللغوي شكلًا من أشكال العنصرية الخطيرة التي تنبئ بتآكل المجتمعات، لا كمجتمعات لغوية  نقية ، بل كمجتمعات  ثقافية  غير قابلة  للانفتاح على مجتمعات  لغوية وثقافية أخرى، رافضة أن  تذوب عندها كلّ أشكال  التعصب اللغوي والثقافي والديني. 

هكذا يبدو المنفى، في أعمق صوره، تجربة تتجاوز حدود الجغرافيا لتستقر في اللغة ذاتها. فمنفى الجسد قد يُحتمل، لكن منفى اللسان هو الأقسى، لأنه يمس جوهر الهوية ويزرع التمزق في داخل الذات. ولأن اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل حاضنة للذاكرة والانتماء، فإن الكتابة بلغة الآخر تتحول أحيانًا إلى معركة مزدوجة: مع الآخر ومع الذات. في مواجهة هذا التمزق، ينقسم الكُتّاب بين من يرفض اللغة المفروضة كمستعمر لغوي، ومن يعيد تشكيلها لتصبح أداة مقاومة.

إن مواجهة هذا التحول تبدأ أولًا بالاعتراف بالاغتراب كألم مشروع، لكن دون السماح له بأن يُنتج خطابًا إقصائيًّا، بل ينبغي تحويله إلى جسر لفهم الآخر وتوسيع معنى الانتماء، بحيث تصبح اللغة وسيلة تواصل لا أداة سيطرة، ومساحة لقاء لا ميدان صراع.

وما بين الرفض والتكيّف، تظل تجربة المنفِيِّين في اللغة دعوة لإعادة التفكير في العلاقة بين التعبير والانتماء، وبين اللغة والحرية. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

كان الضحك أقدم من اللغة في الوجود (ميغازين)

سيرة الضحك: حين يهتز الوجود مِن خاصرته

سيرة الضحك وتاريخه في الوجود الإنساني، وتمثلاته الفلسفية والاجتماعية

محمد العربي

دونالد ترامب
الكساد العظيم

ترامب يعيد التاريخ .. ماذا حدث في الكساد الكبير؟

ستُعاني غالبية الدول التي بدأت لتوّها من الخروج من تبعات جائحة كورونا، بسبب الحرب الاقتصادية التي بدأها الرئيس الأميركي ترامب

إسلام أحمد

وارقة الخوف

وراثة الخوف

الخوف حالة نفسية تهدف لحماية الإنسان، لكن تجاوزه يتطلب تجربة شخصية، لا الاكتفاء بوراثته عن الأسلاف

ميادة نصار

الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية.. من الإدانة إلى الدعم المطلق

تذكر موسوعة الهولوكوست أن المحامي اليهودي البولندي رافائيل ليمكين، هو أول من صاغ كلمة "الإبادة الجماعية"

فريق التحرير

مثّلت الأغنية البدوية امتدادًا حيًّا للشعر القديم (ميغازين).

الأغنية البدوية.. صوت العربي القديم يتجدد في مصر وليبيا

حملت الأغنية البدوية وجدان العربي لتُمثل امتدادًا حيًّا للشعر العربي القديم

أحمد حافظ

المزيد من الكاتب

كريمة سماعلي

كاتبة ومترجمة جزائرية

الحايك الجزائري: نسيج التراث والحرية

ارتبط الحايك بسردية تاريخية تخص النضال الجزائري في مواجهة الاستعمار الفرنسي في جميع مراحله، وكان واحدًا من أبرز وجوه التصدي لسياسة فرنسا التغريبية

التعليم الاستعماري في الجزائر.. حرب على العربية

محاربة المؤسسات التعليمية الجزائرية ومنع التعليم باللغة العربية، كانا جزءًا من محاولات فرنسا قطع كل رابط من شأنه أن يضع الجزائريين في إطار يمكّنهم من التواصل المستمر مع مكونات هويتهم

ليس أناركيًا ولا محافظًا.. اقتفاء أثر لرحلة أورويل السياسية

تجاوز جورج أورويل مواقفه السياسية المبكرة نحو اشتراكية إنسانية قائمة على رفض الهيمنة والدفاع عن الحريات الفردية

فانون والاستقلال الناقص

ارتكزت أطروحات فانون على تشخيص سُعار ووحشية النظام الاستعماري وآليّاته بغية محو أمّة قائمة واستبدالها بأمّة أخرى