القصة القصيرة

القصة القصيرة التي لم تفِ بوعودها

22 نوفمبر 2024

في مقال تحت عنوان "في أزمة القصة القصيرة"، كتب الناقد المصري الراحل غالي شكري متسائلًا: "إلى أين تمضي القصة العربية القصيرة في مصر؟ عشرات المجموعات القصصية الجديدة تتزاحم بعضها فوق بعض على سور الأزبكية، وتقدم لنا هذا السؤال: هل هي ظاهرة مرضية أن يتزايد عدد كتّاب الأقصوصة ويتناقص قراؤها في نفس الوقت؟". والمقال هذا موجود في كتاب عنوانه "ماذا أضافوا إلى ضمير العصر؟"، وقد أعادت "مؤسسة هنداوي" نشره منذ أشهر، بينما صدرت طبعته الأولى في العام 1967. 

يبدو غريبًا أن يدور الحديث في العام 1967 عن أزمة للقصة القصيرة، عن تزايد في عدد كتابها مقابل تناقص في قرائها، ذلك أننا اعتدنا اعتبار "الستينيات" العصر الذهبي للقصة القصيرة، في مصر وفي مختلف البلدان العربية. ومسيرة شكري، وسمعته كناقد مواكب ومدقق، لا تسمحان بالاستنتاج أنه كان ينطق عن نزق انفعالي، وأن رأيه صادر عن انطباع شخصي عابر، كما أن سياق مقاله يؤكد أنه يتحدث عن أمر "راهن" ولا يستشرف أزمة سوف تقع فيما بعد. بمعنى آخر: من البديهي أنه كان يتكلم عن زمنه لا عن زمننا. 

إذن، فأزمة القصة القصيرة ليست ابنة العقدين، أو العقود الثلاثة الأخيرة، كما نكرر عادة، وبالتالي فهي لا تنحصر فقط في سياق طفرة تكنولوجيا المعلومات التي تسببت في عزوف عام عن القراءة، كما يحلو للبعض أن يفسر. 

 

كتّاب أكثر من القراء

لكن ما هي أزمة القصة القصيرة، وكيف تتجلى؟ باختصار، الأمر لا يزال في جوهره كما وصفه شكري: تكاثر في عدد الكتّاب وتناقص في عدد القراء، مع إضافة أن التناقص صار أكثر حدة هذه الأيام حتى يكاد يلامس القاع. وقد تصح إضافة أخرى وهي أن الكتّاب القاصين، وإن ما زالوا يتكاثرون، إلا أن أعمالهم المطبوعة في تناقص ربما يضاهي تناقص القراء، فدور النشر قلما ترغب الآن في طبع المجموعات القصصية مبررةً ذلك باكتساح الرواية أوساط القراء، وباقتصار الجوائز الأدبية السخية والمرموقة على الروائيين. 

ولكتّاب القصة القصيرة وللمتحمسين لها أن يرفضوا وجود أزمة، وأن يصروا على أن هذا النوع الأدبي لا يزال مزدهرًا وعلى ما يرام. لكن رفضهم وإصرارهم لا يحجبان الواقع، والواقع باد للعيان في قوائم إصدارات دور النشر، في مبيعات المعارض، في مؤشرات الرواج، وفي ذيوع أسماء الكتاب. وقد يحمل المؤشر الأخير دلالة خاصة، فالأسماء الذائعة والرائجة بين كتاب القصة هي الأسماء المرسخة منذ عقود، وغالبية القصص التي لا تزال تقرأ هي الممهورة بأسماء مثل: يوسف إدريس، إبراهيم أصلان، سعيد الكفراوي، محمد المخزنجي، زكريا تامر، سعيد حورانية.. إلخ.

ويبدو أنها أزمة عالمية ولا تقتصر على العالم العربي. ففي كتابه "قصر الكتب"، وفي فصل بعنوان "نصف ساعة عند طبيب الأسنان"، يتحدث روجيه غرينييه عن القصة القصيرة ملاحظًا أن مصيرها كان على الدوام مرتبطًا بشروط اقتصادية، فهي تنطلق في بلد ما، في فترة ما، عندما يكون هناك صحافة ومجلات قادرة على إعاشة الكتاب. إنها "فرنسا موباسان وروسيا تشيخوف والولايات المتحدة في زمن فولكنر وهمنغواي وسكوت فيتزجيرالد".

وبعد استعراض تاريخي لنشأة هذا النوع الأدبي وأبرز محطاته، يصل غرينيه إلى حال القصة القصيرة في أيامنا هذه ليقول: "اكتب الآن قصة قصيرة في فرنسا ولن تعرف ما ستفعل بها. وإذا ما قدمت، ككاتب مبتدئ، مجموعة إلى ناشر فهناك احتمال كبير بأن يجيبك: إنها ليست خالية من الموهبة. ولكن ألا تريد أن تبدأ بإعطائنا رواية؟!".

ومع ذلك، فلنبق في القصة القصيرة العربية. وإذا ما اتفقنا أن جذور الأزمة تعود إلى ذلك الزمن الذي كتب فيه غالي شكري مقاله، فربما يكون مفيدًا متابعة ما كتبه ومعرفة مقاربته وكيفية تفسيره.

بعد استعراضه عددًا من المجموعات القصصية الصادرة وقتئذ، يصل الناقد إلى هذا الاستخلاص: "معنى ذلك أنّ تخلّفنا العظيم في فهم القصة القصيرة هو الآفة الرئيسية. معناه أننا ما زلنا متعلقين بنماذج القرن التاسع عشر في إنتاج تشيكوف وموبسان وغيرهما من رواد القصة القصيرة في العالم. وهو تعلق طفولي لا ينم عن نضج في التفكير الفني. فالرواية عندنا رابضة بين أسوار القرن الماضي. ولكنها كتعبير مستريح عن مراحل تطورنا الاجتماعي لا يضطر مؤلفوها إلى الافتعال. بينما القصة القصيرة، كالشعر الحديث، إذا لم تستجب لأحداث منجزات الحضارة في العالم، فإنها تتخلف عن التعبير السريع عن حضارتنا وعصرنا".

واستخلاص آخر سوف يتكرر كثيرًا بعد ذلك: "النقد عندنا لم يؤدّ واجبه كما ينبغي"، ويقف شكري عند سؤال لا يزال يتردد حتى يومنا: "ألأن الرواية تغري بالجدية والتروي، بينما الأقصوصة تغري بالسهولة واليسر؟". ويجيب: "ربما. ولكنه على كل حال سبب سطحي لا يقبل التعميم، ولا ينسحب على كل كتاب الرواية والقصة القصيرة؛ لأننا سوف نكشف في الفريقين من يأخذون الفن عموما على أنه قضية جادة، ومن يأخذونه لهوا وتسلية".

يفصلنا عن مقال شكري نحو 60 عامًا، ولا شك أنها فترة كافية لأن تتغير أشياء كثيرة، وإذا كانت أزمة القصة القصيرة قد بقيت، بل وتعمقت، فإن وجوهًا جديدة لها قد استجدت، وأسبابًا أخرى قد أضيفت.

 

آمال خائبة

بشرت السريالية بمستقبل لا مكان فيه للرواية، فهذا الفن القائم على "الوصف المسهب والعناية الزائدة باليومي والعادي والمعرض دومًا للحشو والإطالة والمصاب بالترهل" لن يغدو محتملًا أو مقبولًا في الغد الوشيك. وبالطبع، فإن النقيض لهذا الفن، الذي سيغدو بائدًا، هو الشعر بتكثيفه وتوتره وبكونه مشحونًا بطاقة هائلة مركزة من الدلالات والإشارات. ووقع في ظن الكثيرين أن القصة القصيرة أيضًا سوف تكون في الجانب المنتصر، إذ إنها تشاطر الشعر في كثير من سماته وإمكانياته.

وعربيًا، كان توفيق الحكيم قد أطلق نبوءة مشابهة. ففي تقديم مجموعته القصصية "ليلة الزفاف"، يشير إلى احتمال أن يكون "مجد الرواية قد انقضى بانقضاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين". أما القصة القصيرة، فمجدها مضمون في المستقبل. إنها فن المستقبل. 

ونظرية الحكيم قائمة على المحاكمة البسيطة التالية: القصة القصيرة "فن اقتضاب وتركيز"، شأنها في ذلك شأن المسرحية والقصيدة، وهذا التركيز هو الذي سيجعل منها فن المستقبل، ذلك أن أدب المستقبل لن يحتمل الإسهاب، والقارئ الحديث الذي يعيش في عصر الطائرات النفاثات والمجلات المصورة الملونة والراديو والتلفزيون "لن يطيق طويلًا الاسترخاء في مطالعة مئات الصفحات ليحيط بصورة من الصور أو شخصية من الشخصيات".

ولا نحتاج إلى كثير عناء لنعرف أن مصير نبوءة الحكيم كان مثل مصير نبوءة السريالية، فلا الرواية أفلت، ولا الشعر والقصة القصيرة سادا وتصدرا.

ورغم ذلك، لا نستطيع إنكار أن في منطق الحكيم الكثير من الوجاهة، ولا ننسى أن ملامح عصر السرعة، وقت كتابته تقديم "ليلة الزفاف"، كانت تتجسد في "الطائرات النفاثات والمجلات المصورة الملونة والراديو"، فما بالكم اليوم ونحن نعيش عصر الإنترنت، بين الفيسبوك وإكس وإنستغرام وغيرها من المنصات ووسائل التواصل التي تجعلنا لاهثين على الدوام ومقطوعي الأنفاس في ملاحقة ما تغرقنا به من فيض المعلومات والصور والأخبار. أليس منطقيًا، والحال هذا، أن تكون القصة القصيرة هي النوع الأدبي الأنسب لقارئ اليوم، والأكثر ملائمة لمزاجه؟!

منطقي، على الأرجح، ومع ذلك فهو لم يغدو واقعيًا. فلماذا لم تف القصة بوعودها؟ بالأصح: لماذا لم يف المستقبل بوعوده إزاء القصة القصيرة؟

تُساق أسباب كثيرة، منها ما هو تكرار لما كان قاله غالي شكري، فعدم الفهم لهذا الفن قائم ومستمر، بعض الكتاب لا يزال مشدودًا إلى قوالب قديمة، وبعضهم يخلط بين القصة والخاطرة والحكاية والموعظة والمقال الصحفي. وأكثر من هؤلاء وأولئك هم الذين أغوتهم السهولة المزعومة للقصة القصيرة، فهنا ــ في القصة ــ أنت لست مطالبًا بما تقتضيه الرواية من إنجاز صفحات كثيرة نسبيًا، وملاحقة عدد أكبر من الشخصيات، وإدارة أحداث ومسارات متشعبة، وتصوير عوالم متسعة. والسمات المنسوبة للقصة، التكثيف والتركيز والسرعة، فهمها المستسهلون على نحو تبسيطي: صفحات أقل، فكرة واحدة، حدث واحد وشخصية واحدة يكفيان.. وفقط.

وإذا كان شكري قد رأى في الاستسهال سببًا سطحيًا، فإنه لم يعد كذلك الآن على الأرجح، إذ باتت المواهب القليلة، العملات الجيدة، تغرق تحت أكوام من العملات الزائفة، ما جعل القارئ يفقد ثقته بهذا الفن الأدبي برمته. ويضاف إلى ذلك أن القصة القصيرة شهدت تفرعات ومسالك جانبية، انشقاقات كثيرة، فصار هناك "القصة القصيرة جداً" و"القصة الومضة" و"القصة الصحفية". كما اختلط الأدب بغير الأدب وضاع كثير من ملامح القصة القصيرة وسماتها.

وما يؤكد أن الاستسهال لم يعد بذلك العامل السطحي، هو أن الكثير ممن ينفرون من المجموعات القصصية الصادرة هذه الأيام، ما زالوا يقبلون بشغف على قراءة قصص يوسف إدريس ونجيب محفوظ وتشيخوف وموباسان وزكريا تامر..

ويعاتب قاصون كثر النقد الأدبي، محملين إياه جزءًا غير يسير من المسؤولية، فبغيابه عن القصة القصيرة، حرم القراء من معين ضروري موثوق يفرز لهم الغث عن السمين، الأصيل عن الزائف، وأيضًا هم يعاتبون المؤسسات الرسمية والخاصة التي دللت الرواية بجوائز دسمة وحرمت منها المجموعات القصصية.

وتبقى وجهة نظر لعلها تكون الأقدر على تفسير الطور المستجد من الأزمة المديدة، فالبنية الخاصة للقصة القصيرة سهلت على الكثيرين إدماجها في مفردات "كتابة الإنترنت": البوست الفيسبوكي، التغريدة، القصة الصحفية للمواقع الإلكترونية، المقالات والتأملات والخواطر التي تملأ المدونات.

لقد صارت القصة القصيرة جزءًا من روح العصر ونوعًا مندمجًا في كتابته الجديدة. أما الرواية فظلت بمنأى، وقامت كمعادل لهذا الهذيان المدوخ، وصارت الواحة الضرورية التي يلجأ إليها الراغبون في تأمل أكثر هدوءًا ونظرة أكثر عمقًا واتساعًا، وفي معايشة تستعيد جماليات البطء والتروي والتفهم. وهكذا تكون الميزة التي اعتقد البعض أنها ستشفع للقصة في (المستقبل) هي السبب الأساسي في محنتها.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

من صدّام حسين إلى النسوية الحديثة: سيرة ذاتية للشنب

سيرة الشوارب من ثقافات الشعوب إلى النسوية الحديثة

5

من غزة إلى سازان.. الاستعمار العقاري ورسم خرائط الإمبراطورية الجديدة

عن جزيرة سازان الألبانية التي أصبحت أرضها فريسة لأطماع استثمارية يقودها جاريد كوشنر

اقرأ/ي أيضًا

كان الضحك أقدم من اللغة في الوجود (ميغازين)

سيرة الضحك: حين يهتز الوجود مِن خاصرته

سيرة الضحك وتاريخه في الوجود الإنساني، وتمثلاته الفلسفية والاجتماعية

محمد العربي

دونالد ترامب
الكساد العظيم

ترامب يعيد التاريخ .. ماذا حدث في الكساد الكبير؟

ستُعاني غالبية الدول التي بدأت لتوّها من الخروج من تبعات جائحة كورونا، بسبب الحرب الاقتصادية التي بدأها الرئيس الأميركي ترامب

إسلام أحمد

وارقة الخوف

وراثة الخوف

الخوف حالة نفسية تهدف لحماية الإنسان، لكن تجاوزه يتطلب تجربة شخصية، لا الاكتفاء بوراثته عن الأسلاف

ميادة نصار

الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية.. من الإدانة إلى الدعم المطلق

تذكر موسوعة الهولوكوست أن المحامي اليهودي البولندي رافائيل ليمكين، هو أول من صاغ كلمة "الإبادة الجماعية"

فريق التحرير

مثّلت الأغنية البدوية امتدادًا حيًّا للشعر القديم (ميغازين).

الأغنية البدوية.. صوت العربي القديم يتجدد في مصر وليبيا

حملت الأغنية البدوية وجدان العربي لتُمثل امتدادًا حيًّا للشعر العربي القديم

أحمد حافظ

المزيد من الكاتب

سلمان عز الدين

صحافي سوري

أفول السحر.. هل انتهت الواقعية السحرية وما الذي جاء بعدها؟

مع أن مصطلح "الواقعية السحرية" ظهر في ألمانيا ضمن حقل الفن التشكيلي إلا أنه ارتبط بنوع روائي ظهر في أميركا الجنوبية، نموذجه الأبرز هو رواية "مائة عام من العزلة"

مئة عام على بيان أندريه بريتون: ما الذي بقي من السريالية؟

صرف السرياليون نظرهم عن الصور والحقائق والمعطيات الحسية المباشرة، وتوجهوا إلى اللاواعي، اللاشعور، الأحلام، تعبيرات الأطفال وخيالاتهم

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

الدراما السورية.. الهروب من الواقع

تعدّدت اتجاهات الدراما السورية ما بعد 2011، لكنها أفضت كلها إلى المكان ذاته: حائط مسدود. وتشاركت جميعها السمة نفسها: الهروب من الواقع!

فيلم "رحلة 404".. لا شأن للسياسة بما يحدث!

شخّص فيلم رحلة 404 حال المجتمع، وبين بوضوح أنه مريض جدًا، ولكنه أغفل تحديد الأسباب التي جعلت المرض حالة اجتماعية عامة

كوميديا ممدوح حمادة.. عن جزر معزولة وسط محيط صاخب

أثبت ممدوح حمادة أن لديه ما يقوله بعيدًا عن القوالب الجاهزة والأُطر المحددة سلفًا، إذ قدّم سيناريوهات عدة لأعمال كوميدية ذات شخصيات محلية أصيلة، وسمات مشتركة تُشير إلى أسلوب مميز ورؤية خاصة للواقع