رغم أنّ علمَ النفس والطب النفسي أصبحا حاضرَيْن منذ زمن طويل في الميادين الأكاديمية والطبية والاجتماعية، فما تزال الوسائل العلمية في تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها تحبو إذا ما قورنت بالوسائل البدائية التي طورها الإنسان الأول، والتي يحتل الموروث الدينيّ فيها قصب السبق في كثير من المجتمعات. ولأن الموروث الديني يسبق الطبّ النفسيّ بقرون عديدة، فما يزال رجل الدين يُنظر إليه بوصفه بديلًا عن الأخصائي النفسي، ويعطيه الناس سُلطةً على تعقيدات العقل البشري تَختزل تفسيرها في عزو الأمراض إلى الشياطين المتسلطة والعاشقة والهاربة، أو في الذنوب التي تتوارى في زوايا الضمير، ما يحوّل الاضطرابات النفسية إلى عارٍ أخلاقي، وضعف إيمانيّ، أو عقوبة إلهية.
تتمثّل خطورة التفسيرات الدينية المسيطرة على المخيال الجمعي في جعل المريض ضحية بعدة أبعاد؛ فهو ضحية مرضه، وجهلِ مجتمعه، وضحية الخطاب الذي لا يعترف برجال العلم الذين قضوا سنوات في دراسة أمراض النفس وعلاجها، وما يزال يقدّم عليهم من لا علاقة لهم بهذا الاختصاص، أو يضعهم في مقارنة معهم. وإذا لم يكن من شأن هذا المقال أن يتعرض لإنكار أثر الخطاب الديني على نفوس المتدينين، فإنه سيسلط الضوء على الكيفية التي يصبح بها هذا الخطاب عائقًا أمام العلاج، بل ومسببًا لمشكلات نفسية أخرى.
التشخيص الديني مقابل التشخيص النفسي
يرى التشخيصُ الدينيُّ المشكلاتِ النفسيةَ من منظور العلاقة بين الفرد وتديُّنه؛ كالنظر إلى الاكتئاب بوصفه نتيجةً لضعف الإيمان، أو إلى الصرع على أنه مس شيطاني، أو إلى القلق على أنه بعدٌ عن الله. المشكلة الأساسية في هذا التشخيص أنّه اختزاليّ جدًّا؛ إذ يحصر تعقيدات النفس البشرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للإنسان في مسألة الإيمان بالله وحسن عبادته، على نقيض التشخيص النفسي الذي يشمل التاريخ المرضي، والتقييم السريري، والفحوصات الطبية، وهذا كله ضمن معايير علمية ومناهج تشخيص معتمدة مثل DSM-5 (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية).
وبذلك فإنّ أدوات التشخيص عند رجل الدين والأخصائي النفسي تختلف جذريًّا؛ فيتبع رجل الدين النصوصَ الدينية في تشخيصه للحالة النفسية باستخدام التوجيه العام في القرآن مثلًا على أنّه تشخيص، أو انتزاع الجملة القرآنية من سياق الآيات واستخدامها لتشخيص المرض أو علاجه، فيتلو على المكتئبين مثلًا آية "ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكًا"، أو يُفسِّر القلق بأنّه ضيق في الصدر سببه كثرة الذنوب وعلاجه الطهارة الروحية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، والواقع أن هذا تأويل رمزي للهمّ على أنّه قلق واضطراب يربطه رجال الدين بالمعصية المنتجة للقلق. وهذا لا ينفي وجود القلق الديني الذي يكون سببه تقصير المتدين في صلواته وقلقه من المواصلة بهذا التقصير، لكنّه لا يمكن بأي حال تعميمه على كل أنواع القلق واعتبار الذنوب هي المسببة لها.
حتى الأخصائيون النفسيون المتدينون قد يقعون في هذا الخطأ، فيحدث أن يدعو الأخصائي غير الماهر المراجعَ لديه إلى أن يتقرّب من الله لعلاج الاضطراب النفسي، على أنه يمكننا استثناء حالة واحدة من الحكم بهذا الخطأ، أن تكون علة المريض هي الحاجة الروحانية لله فقط، وهذا يحدده الأخصائي الذي يدرس كل احتمالات تعب المريض ويفهم من كلامه (صراحةً) أنّه يحتاج أن يكون قريبًا من الله أكثر، وأنّ هذا ما يريحه ويساعده على الإنتاج في حياته، وأنّه لجأ إلى المعالج لتعزيز صموده الإيماني.
ولقد حدّثتني امرأة كانت تعاني من اكتئاب سريريّ لعدة سنوات، أنّ دعم أقربائها كان يدفعها إلى مراجعة عدة أطباء، لكنّ أحدهم بقي عالقًا في ذاكرتها بوصفه صورة سيئة للمعالج النفسي؛ لأنّه عوضًا عن أن يطرح سبل التعامل مع هذا النوع الخطِر من الاكتئاب، طالبها بأن تلتزم بالصلاة، مع أنّها كانت متدينة وملتزمة؛ فهو فضلًا عن أنه لم يقدم لها المساعدة العلمية، قد شكّك في إيمانها واتّهمَه وحاكمَه! من ثمّ، فإنّ أسوأ الأدوات التشخيصية التي نلحظها عند رجال الدين المتصدين للمعالجة النفسية هي الربط بين الاضطراب والفساد الأخلاقي، كأن يُفسر اضطراب الشخصية الحدّية على أنّه ضمير لم يهذب بالإيمان، واضطراب النرجسية على أنّه حب الذات الدنيوي، في حين أنّ علمَ النفس يتعاطى مع هذه الاضطرابات من منطلق صدمات الطفولة والعنف والإهمال، وتغيرات في البنية اللوزية في الدماغ Amygdala، تتطلب علاجًا سلوكيًّا جدليًّا DBT.
وكذلك تفسير مشكلات المراهقين بعدم طاعة الوالدين، وقلة التربية الدينية، متجاهلين أنّ هذه المرحلة العمرية مليئة بالتغيرات الهرمونية التي تؤثر على الانفعالات.
وفي سياق الحديث عن الأخطاء التشخيصية، لا بد أن نقف مع الصرع الذي فُسِّر لسنوات عند الشيوخ على أنّه مس شيطاني، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه ليست كل نوبة تشنج تُشخص على أنّها حالة صرع من المنظور العلمي، فيُشخّص الأطباء الصرع من خلال التاريخ الطبي للمريض أولًا؛ الذي يحتوي على وصف النوبات وطبيعتها ومدتها، ومحفزات حدوث النوبة، والتاريخ العائلي، وفحص إصابات الرأس والحوادث السابقة، من ثم يخضع المريض لفحوصات عصبية يجريها طبيب أعصاب متخصص يختبر فيها الوظائف الإدراكية وردود الأفعال والتناسق الحركي، ثم يُجري فحوصات تخصصية تشتمل على تخطيط كهرباء الدماغ EEG، والرنين المغناطيسي للدماغ MRI، والتصوير المقطعي المحوسب CT الذي يكشف عن الأورام والنزيف والأكياس التي قد تسبب الصرع، وقد يستخدم الطبيب التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني PET الذي يحدد مناطق الدماغ التي يكون فيها النشاط الأيضي منخفضًا ما يؤدي إلى حدوث النوبات، وغيرها من التقنيات الطبية التي يستخدمها طبيب الأعصاب للكشف عن الصرع وتحديد أسبابه، ليَخلُص مِن هذا إلى تحديد المناطق المتأثرة في الدماغ وشكل النوبات ونوعها (بؤرية، تشنجات عامة...)، والتفريق بين الصرع والاضطرابات الأخرى التي قد تشاركه في بعض الأعراض؛ كالتشنجات في الاضطراب التحوّلي. وهنا يتدخل الطبيب النفسي للتعامل مع الآثار الجانبية التي تسببها أدوية الصرع للمريض، ومساعدته باستخدام العلاج المعرفي السلوكي CBT في إدارة القلق المرتبط بالنوبة، وتدريب المريض على الإشارات التحذيرية التي تسبق النوبة، ودعم تكيّفه مع المرض.
بعد كل ما يُقدّمه العلم في تشخيص الصرع وعلاجه، يأتينا -على سبيل المثال لا الحصر- "علي أحمد الططاوي" بقصة عن ابن القيم أنّه شاهد "شيخًا يُرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول: اخرجي، فإنّ هذا لا يحلّ لكِ، فيفيق المصروع. وربما خاطبهما بنفسه، وربما كانت الروح ماردةً فيخرجها بالضرب، فيفيق المصروع ولا يحس بألم"[1].
وتورد الدكتورة "بغالية هاجر" في بحث بعنوان (رمزية العلاج التقليدي في المخيال الشعبي) أنّ المعالجين التقليديين يتفقون على أنّ العلاج الناجع للصرع يتمثل بالرقية الشرعية، بقراءة القرآن الكريم على الماء أو زيت الزيتون أو العسل، ونصح المريض بالمحافظة على الصلوات وتجنب الفواحش، أمّا إذا كان مسّ هذا المصروع ناتجًا عن سحر فيجب عليه التقيؤ، فإن لم يستطع فشربة السنا المغلية تجعله يصاب بالإسهال فيخرج السحر المستقر به[2]. ثم تنوّه إلى أنّ السحر إن كان غايته الرأس فسيصيب المريض بهلاوس وأوهام، وفي هذه الحالة فإنّ العلاج يكون بالحجامة! علمًا أنّ الهلاوس والأوهام هما أوضح عرَضين لمرض الفصام، الذي يعد اضطرابًا عقليًّا معقدًا يحتاج إلى أدوية مضادة للذهان للتحكم بأعراضه.
ومما شهدته شخصيًّا، أنّي ذهبت مع صديقة لجأت إليّ بعد أن أصرت والدتها على أن تذهب بها إلى "شيخ" يستطيع معرفة سبب قلقها من العلاقات وخوفها من الزواج، فظنّت والدتها أنّ ابنتها (منفوسة) أي أنّ هناك شابًّا يتمناها ولم يُحصلها، فبقيت نفسُه المُحِبّة عائقًا بينها وبين الارتباط، ما جعلها -عبر قوى خفية- تخشى الارتباط وتقلق من فكرة الزواج.
ما فعله الشيخ الذي أدخلنا بعد طول انتظار بين جموع النساء، إلى غرفته المكدسة بالكتب وسماعات الدي جي، أن ناقش صديقتي عن وضعها فأخبرته أنّها لا تؤمن بأسلوبه وأنّ لها أسبابها النفسية للقلق، وأنّها تعد (النفس والمس) خرافات، فإذا به يناقشها بالأفعى والكلب الأسود الذي يكون جنًّا ويجب قتله، وأنّ الجن يعشق، والنفس والمس والتلبس واقعٌ عليها تقبُّلُه. ثمّ طلب منها أن تتوسط الغرفة وتقف ليقرأ بأذنها، وعندما همّت بالمغادرة أخبرتها والدتها أنّ الجن هو الذي يمنعها من الاستماع للقرآن ودليل ذلك رفضها الوقوف، فوقفت لدرء التهمة عنها، فأمسك رأسها بيده وأغمض عينيها ووضع المايكرفون وبدأ يقرأ ويكرر بعض الآيات والدي جي يصدح بصدى القراءة، حتى إذا انتهى أمسَكَ حنجرتها بيده وشدها إلى الداخل فوقعت الفتاة، وقال إنّ هذا دلالة على وجود الجن فيها.
قادني ما رأيته إلى البحث عن هذه الحركة التي شد بها حنجرة الفتاة حتى وقعت، وبدا أنّها مشهورة في أوساط طَرَدة الجن، وهي تقوم على الضغط على جانبي العنق حيث توجد الشرايين السباتية، ما يقلل من تدفق الدم المؤكسج الى الدماغ، وإذا استمر الضغط لبضع ثوانٍ فقد يفقد الشخص وعيه، وعلى اليوتيوب فيديوهات كثيرة توضح هذه الطريقة.
لم تعالج الفتاة من قلق العلاقات، الناشئ من اضطراب حياتها الأسرية، وسوء علاقة الأزواج في محيطها، والتعنيف الذي كانت تتعرض له من ذكور عائلتها، وهي الأسباب النفسية الحقيقية وراء قلقها، لكن الشيخ وأمّها الغافلة لم يفعلا إلا أن صدّرا عنها صورة بأنّها ملبوسة، ما عرّضها للتنمر والتجنب من محيطها، وأحيلت كل سلوكاتها اللاحقة للتفسير من منطلق تشخيص شيخنا هذا، ما ضاعف مشكلاتها النفسية.
دحض أدلة التلبس في التشخيص الديني
يجدر أن أقف قليلًا في سياق التشخيص الديني على بعض الحجج التي يستخدمها "الشيوخ" لإثبات أنّ المرض النفسي الذي يعاني منه شخص ما هو مسّ أو تلبس جني أو غير ذلك من الأمور؛ فقد شاهدنا جميعنا عدة فيديوهات لجلسات استخراج الجن من إنسان توضّح أعراضه أنّه مريض نفسي، وتجدر الإشارة إلى أنّ تحديد التشخيص يعني تحديد طريقة العلاج، فإذا ما سلّمنا أنّ حجة "الشيخ" في التشخيص صحيحة فسنتقبل العلاج مهما كان قاتلًا للمريض، وهو ما حدث مرارًا بالمناسبة، وهذا ما لا يريده أصحاب الاختصاص العلمي.
هناك ثلاث علامات واضحة يستدل بها "الشيخ" على وجود الجن في المريض، وهي: تغير الصوت وكأنّ الجن المتلَّبس هو من يتحدث، أو استفراغ مادة سوداء، أو الحركات العشوائية التي توحي بالجنون أو التشنجات.
- في دلالة الصوت، يطرح "الشيخ" تغير الصوت عند بعض المرضى، بوصفه علامة طبيعية على وجود شخصية أخرى تتكلم من خلاله وكأنها آخرُ يسكن هذا الجسد الإنساني. لكن هناك تفسيرات علمية عصبية ونفسية لحالة تغير الصوت في الجملة، وهي:
اضطراب الهوية التفارقي DID: وهو اضطراب معقد يعاني معه الشخص من وجود هويتين أو أكثر تتناوبان السيطرة والظهور بفترات متفاوتة، وتحمل كل شخصية أنماطًا سلوكية أو كلامية أو حتى صوتية مختلفة عن الأخرى، وذاكرة مستقلة، إلا أنّ الباحثين لم يجزموا بعد بشأن دراية كل منهما بالأخرى، ولو بشكل جزئي.
كتبت الدكتورة "أوبري بيلي"، أخصائية العلاج بالتنويم المغناطيسي وأستاذة علم وظائف الأعضاء، مقالًا عن محفزات تبديل الهوية في هذا الاضطراب، وأولها (التوتر)، منبهةً إلى أنّ هناك علامات رئيسة تشير إلى أنّ المريض قد تحوّل من شخصية إلى أخرى ومنها التغير في نبرة الصوت[3]. يجمع هذا الاضطراب تغير الصوت وتبدل الشخصية الذي يمكن أن يستثيره أي توتر أو ضغط نفسي يمارس على الشخص المريض من قِبَل رجل الدين، ولأنّ المرضى في هذا الاضطراب يستجيبون للتنويم المغناطيسي، فإنّهم يتجاوبون مع الإيحاء، ما يُسهّل خروج صوت الجن، في حيلة لا واعية للهروب من الضغط.
الفُصام: هو مرض عقلي حادّ يؤثر على التفكير والسلوك والمشاعر، ويُسبب فقدان الاتصال بالواقع، وأحد أهم أعرضه الأوهام والهلاوس التي تكون سمعية أو بصرية أو حركية (الشعور باللمس أو تحرك شيء في جسد المريض) وغيرها.
وفي سياق جلسات طرد الشيطان أو الجن من المتلبَّس، فإنّ الهلاوس السمعية قد تلعب دورًا في التغير الصوتي للمريض؛ إذ إنّ الجو العام لجلسة طرد الجن التي تشتمل على رفع صوت "الشيخ"، والضغط على المريض لأجل تخليصه من الروح التي يُعتقد أنّها تتلبسه، يزيد من مستويات الكورتيزول عند المريض ما يجعله أكثر عرضة للهلاوس، وتتفق الدراسات النفسية على أنّ التوتر لدى مرضى الفصام يزيد من الأعراض الذهانية؛ فقد تعمل الهلاوس السمعية لدى المريض على دفعه لأن يتكلم بصوت مختلف، كالشيطان مثلًا، الذي نعرف نبرته من الثقافة والقصص الشعبية. والأمر الأكثر خطورة على المريض هنا، أنّه إذا كان يعزو سبب الأصوات إلى التلبس، ويتوقع أن يخرج الجن منه، فإنّه سيتماهى مع فكرة الشرير المتلبس فيه، ويحاول –بشكل مقصود أو غير مقصود- تمثيلَ أنّ شيطانًا يخرج منه ويتحدث بلسانه!
التأثير الإيحائي
إن قناعة المريض بالتلبُّس وبسيطرةِ ذاتٍ أخرى تجعل القوة الإيحائية التي تحويها الجلسة دافعًا قويًّا لتبديل الصوت بل والكلام مع الحاضرين وكأنّه جن حقيقي؛ فوجود جمهور الحاضرين أو حتى مصوري الجلسة يوقع المريض تحت تأثير توقعاتهم ليُصبح البطل المنتَظر أداؤه في هذا العرض المسرحي، مع لفت النظر إلى أنّ الأمر قد يحدث بصورة غير واعية بسبب قناعة المريض بوجود الذات المتلبسة. كذلك فإنّ الإعداد الطقسي للجلسة من وجود بخور ومسابح ومايكروفون أحيانًا، وسماعات وحضور ومصاحف أو تصوير، وشخصية المعالج الذي يكون مهيبًا لثقته بامتلاك سلطة دينية على الجن المُستحوذ على المريض المقتنع بالفكرة، كل هذا يُكثف تأثير التوقعات على المريض.
ثم يبدأ التوجيه الإيحائي الذي يلعب دوره المعالج، بأن يوجّه كلامه للجني لا للمريض، كأن يقول: اكشف عن نفسك، لماذا تلبست فلان؟ اخرج وإلّا أحرقتك يا كافر. وهذه النقطة علينا الانتباه لها؛ لأنّ اقتناع المريض بأنّه ليس مسؤولًا عن أفعاله يقلل من مقاومته للإيحاء.
وأستشهد هنا بمقابلة بثتها قناة النهار TV لجلسة استخراج الشيخ شمس الدين جنيًّا من مريضة على الهواء مباشرة. ظل المعالج يخاطب المريضة بصفة المذكّر أي الجني المتلبِس بها، حتى قالت المرأة التي تماشت مع التوقعات إنّها جني يدعى "شركس"، فيقول "شركس" من خلال المرأة إنّه يحبها ويريدها، وزوجها لا يستحقها فهي امرأة جيدة معه، ما يوحي بوجود مشكلات نفسية ذات أسباب شخصية معلومة للمريضة وواعية بها، أو مشكلة عُصابية نجهل تحديدها لعدم معرفتنا بالملف الصحي للمريضة.
لم يتغيّر صوت المريضة، لكنّها كانت تقوم بحركات عشوائية لا يمكن تصنيفها على أنّها تشنجية، ولا تشخيصها باضطراب الهويات المتعددة ولا الفصام، إلا أنّها ودون أدنى شك كانت واقعة تحت سلطة التأثير الإيحائي المجتمعي والديني.
المادة السوداء في القيء
سنوجز في تناول هذه النقطة لعدم وجود أبعاد نفسية تلتبس بها، فعلى الرغم من اعتبار المادة السوداء التي يتقيؤها المريض في جلسة التطهير سحرًا مأكولًا، أو أنها خروج البقايا الشيطانية من الجسد الإنساني، فإنّ هناك خلطات عديدة تُقدّم للمريض بإمكانها إحداث هذا اللون في الاستفراغ أو اللعاب؛ كالخلطات التي تحتوي على الفحم النباتي، أو بعض الأعشاب التي تتفاعل عناصرها مع اللعاب وتنتج هذا اللون، والتي من الممكن إعطاؤها للمريض أو أهله ليطعموه إياها بدرايته أو بدونها، تحضيرًا للجلسة، أو إسقاؤها له خلال الجلسة.
ثم إنّه بإمكاننا رؤية المريض وهو يضع أصابعه في حلقه لاستفزاز الرغبة بالتقيؤ، ما يدلّنا على أنّ ذلك حدث بطلب المعالج، أو لاقتناع المريض بأنّ علاجه الكامل لا يتحقق إلّا بإخراج هذه المادة الشيطانية من معدته.
- الحركات العشوائية خلال الجلسة
درس العلماء النفسيون حالةً لامرأة تدعى "إيما"، في دراسة جد مهمة عن المفاهيم اللاهوتية والطبية للاستحواذ، وكانت تعاني مشكلات في شخصيتها تتعلق بالهجر والإهمال والتربية الدينية المتشددة والتشرد والاغتصاب والتهديد، وشُخّصت "إيما" إضافة إلى المشكلات الشخصية العدائية بأن لديها اضطراب ما بعد الصدمة PTSD. كانت المرأة على قناعة زرعها فيها الكهنة والراهبات والأقارب بأنّها متلبَّسة وأنّهم طردوا منها الأرواح الشيطانية ثلاث مرات، ولكن حالتها لم تزدد إلا سوءًا، واللافت أنّها في جلسات طرد الأرواح الأخيرة كانت تبدي سلوكًا عنيفًا لدرجة تكسير الرموز الدينية في الكنيسة، وتحطيم النوافذ، ما جعل رجال الدين اليائسين من وضعها يحيلونها إلى معالج نفسي لصعوبة السيطرة على حالة الهياج العنيف التي تدخلها في جلسة العلاج الروحي[4].
دعونا نركز على أنّ العنف المبالغ فيه الذي كانت تظهره في الجلسة جعل الكهنة يعتقدون أنّها متلبسة من روح شريرة جدًّا تكره الدين، وهذا ما اقتنعتْ به هي شخصيًّا، إلى أنّ قدّم المعالجون النفسيون في تقريرهم أنّها كانت تعبر لهم صراحةً أنّها كانت تشعر بضيق عظيم في أثناء جلسات التطهير سببُه أنّها تعرضت للضرب والربط والتثبيت، ومعاملة قاسية من قبل رجال الدين، ما جعلها تنطلق بعدائية نحوهم ونحو مقدساتهم، من ثَمّ فإنّ سبب هذا السلوك كان الرفض لطريقة العلاج، ورفض السيطرة عليها بدنيًّا وعقليًّا[5].
إذًا، وكما وضحت الدراسة، فإنّ الضيق الشديد في جلسة التطهير يدفع المريض إلى أن يكون عنيفًا أحيانًا، وقد لا يكون العنف واعيًا، لكنه يُفهم على أنّه رغبة في التحرر من التوتر والضغط اللذين تصنعهما الجلسة في نفسية المريض.
ولا نستثني هنا التأثير الإيحائي للجلسات والتوقعات التلبسية، في جعل المريض يؤدي ما يعرفه من ثقافته الشعبية والمرئية من حركات عشوائية تبيّن عدم قدرته على التحكم بجسده بسبب الروح التي فيه، أو رغبةِ الروح في إيذاء جسد المريض أو مَن في الجلسة، مع ضرورة التذكير مرةً أخرى أنّها قد تكون حركات غير واعية لأسباب أهمُّها اقتناع المريض بهذا الوجود الشيطاني فيه.
في الختام، فإنّ هذا المقال لم يناقش وجود السحر والتلبس من عدمه، فهذه مسائل لها أهلها الذين يتفقون أو يختلفون في كيفية تحققها للإنسان، ولكل منّا نهجه العقلاني في التعاطي معها أو إنكارها، لكنّه حاوَلَ تقديم وجهة نظر علمية وعقلانية، ودعوة لتأمل مدى صوابية اللجوء إلى رجال الدين في الأمراض والاضطرابات النفسية، متضمنًا انتقادًا ضمنيًّا للمنظومة الاجتماعية التي تحيل مشكلات النفس البشرية على الأسباب الدينية حصرًا، وتُحاكِم إلى يومنا هذا المراجعين في المؤسسات النفسية على أنّهم فاقدو الأهلية وتصمهم بالجنون، والأخطر أنها تحاكم إيمانهم الديني!
ومن هنا فإنّ الدعوة التي تبث في هذا المقال هي أن يعرف كل ذي اختصاص اختصاصه حتى لا يتلوّث فكر الإنسان بالتلاعب، ولا تزيد علته سوءًا، لا سيما أنّ الجلسات العلاجية المذكورة تمارس على الأطفال أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الططاوي، علي أحمد عبد العال، دليل الإنسان لعلاج السحر والحسد والجان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002م، ص237
[2] بالغالية هاجر، مصطفى ميموني، رمزية العلاج التقليدي في المِخيال الشعبي، ص6
[3] Aubrey Bailey, Dissociative Identity Disorder: Identity Switch Triggers
[4] Pietkiewicz, Kłosińska, Tomalski, Trapped Between Theological and Medical Notions of Possession: A Case of Possession Trance Disorder with a 3-Year Follow-Up, National library of medicine, PMCID: PMC9199574
[5] المرجع السابق.