"لا تستحِ أن تعترف بخطاياك، ولا تغالب مجرى النهر"
(سفريوشع بن سيراخ: 4:31)
"في نهاية الأمر، تتأسسُ المعرفةُ على الاعتراف"
(فتنغشتاين:عن اليقين)
في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه "بين المعداوي وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي"، يذكر رجاء النقاش واقعتيْن حدثتا في الوسط الثقافي المصري، يشير من خلالهما إلى غياب أدب الاعتراف في السياق الثقافي العربي، فمن وجهة نظره أن "هذا الأدب معدوم أو شبه معدوم" (ص 24). والسبب عنده أن "أدبنا ما زال يعيش في هذا الضباب الكثيف الذي يخفي المشاكل الحقيقية للإنسان خوفًا من أن يعرف الناس ما قد يؤدّي إلى عدم احترام الكاتب أو الفنان إذا ما ظهرت في حياته بعض الأخطاء والعيوب، أو إذا ظهرت في شخصه بعض جوانب المرض أو الضعف حتى لو كان غير مسؤول عن هذه الجوانب" (ص 24 - 25).
وإمعانًا في التأكيد على هذا الغياب لهذا النوع في ثقافتنا (المحافظة والمكبّلة بقيود دينيّة وأنساق اجتماعيّة ومحاذير سياسيّة)، يستشهد بملاحظة أحد الباحثين في إحدى الجامعات الأميركية، الذي أعد دراسة عن أدب نجيب محفوظ. تشير هذه الملاحظة إلى حالة افتقار الأوساط الثقافيّة المصريّة لكتابات (أو اعترافات) عن الحياة الخاصّة للمبدعين، ومن بينهم نجيب محفوظ، وأن حياتَنا الأدبيّة تعيش في جوٍّ من المحافظة والكتمان واستنكار المصارحة. يقول: "إذا أردنا أن نبحث عن المعلومات التي تتصل بالحياة الخاصّة لنجيب محفوظ فإننا لن نجد أمامنا شيئًا ذا بال في هذا الميدان".
ويُعيد غياب مثل هذا الاهتمام بتلك الناحية المهمّة للباحث والناقد على حدٍّ سواء إلى: "عدم الاهتمام بالحياة الخاصّة ظاهرةٌ مميزة للحضارة الإسلاميّة، فقد استمرت هذه الحضارة عدة قرون متصلة تنظر إلى الشخصيات العامة، وخاصّةً تلك التي تحظى بالحب والإعجاب، نظرة تنزيهٍ وتقديس، وتميل هذه النظرة في المجتمع الإسلامي إلى تجريد الشخصيات العامة المحبوبة في المجتمع وتحويلهم إلى نماذجَ ومُثلٍ عليا وكأنهم في نظر مجتمعهم أدلةٌ وبراهين تثبت نعمة الله على المجتمع والإنسان، وهذه النظرة المثالية "شبه الدينيّة" تفرض الابتعاد عن الخوض في الحياة الخاصّة للشخصيات العامة، ومن هناك كان من الصعب أن تظهر دراسات تفصيليّة عن التطوّر النفسي والثقافي لنجيب محفوظ، استنادًا إلى المعلومات الدقيقة عن حياته الخاصة، ومن هنا أيضًا أصبح من الصعب أن نتعرّف بوضوح على التأثير الذي تركته تجربة الكاتب الخاصّة في الحياة على المواقف والشخصيات المختلفة في رواياته. كل ما يستطيع الباحث أن يحصل عليه في هذا الميدان هو المعلومات المجردة العامة عن حياة الكاتب، وهي نفسها المعلومات المحدودة التي تكرّر ذكرها وسردها في مناسبات لا حصر لها" (ص 26).
يُعد ما ذكره النقاش، وما استدلّ به من استنتاج الباحث، أحد العوامل التي تحول دون ظهور أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية، وبصفة عامة في بيئتنا العربيّة، وإن كانت ثمة عوامل أخرى تُضاف إلى هذا العامل لا تقل عنه أهميةً، ويأتي في مقدمتها عاملُ القيود الدينيّة التي تُشكّل النّسق الذي يصعُب اختراقه. فالثقافة الدينيّة ترفض كشف ما "ستره الله"، إضافةً إلى القيود الاجتماعيّة وتركيباتها العقائدية التي تحول دون الاعتراف بما يُمثّل انتهاكًا للخصوصيّة الفرديّة أو الجماعيّة، وهتكًا لمنظومة القيم والأنساق الاجتماعيّة التي ترفض تَقبُّل مثل هذه الاعترافات، خاصةً لو كانت الشخصيات ذات قيمة. فمثلًا، ثمة استنكارٌ لاعترافات الشيخ الرئيس ابن سينا، أكبر فلاسفة الإسلام، بأنه كان يتخذ الخمر وسيلةً تعينه على تحصيل العلم. وهناك أيضًا غياب الحريات التي تدفع الكاتب لقول كل شيء عن ذاته وما مرّ به من أخطاء دون خوفِ تخطّي حدود الحريات المتعارف عليها، فحرّاس الفضيلة والأخلاق له بالمرصاد.
وكان الخوف من ردة فعل المجتمع السببَ وراء تردّد نوّارة نجم من كتابة سيرتها "وأنت السبب يا با: الفاجومي وأنا"، التي تقاطعت مع سيرة والدها "أحمد فؤاد نجم". ومع هذا استطاعت أن تتغلب على مخاوفها، وقدمتْ سيرةً حاكمت من خلالها الأب، بما فيها اعترافات مثيرة ربما لا يتحملها أحد، كشفت فيها عن توترات علاقتها بأبيها، وكانت أكثر صراحة في حديثها عن رأي الناس فيها، وفي أبيها الذي كان يتقبّل الانتقادات بروح رياضيّة مرنة على عكس كثيرين. وبالمثل، كانت جرأةُ ما كتبته أناييس نن في يومياتها عائقًا أمام ترجمة اليوميات كاملة إلى العربية. لذلك، اختارت المترجمة لطفية الدليمي "مقاطع تخص نظرتها للإبداع، وعلاقاتها بالمبدعين ووجهة نظرها إلى الحروب والحركات النسوية". أما سلوكيات الساردة وأصدقائها وأقاربها وعشاقها وجميع صانعي الحدث، فهي تقع "في غاية التغاير والاختلاف مع عاداتنا وسلوكنا ومحرماتنا" (أناييس نن، اليوميات: مختارات، ص 26).
وإذا نظرنا إلى مدونة السّرد الغربية لوجدنا أن الاعترافات هي المهيمنة على كتاباتهم في أشكال عدة، بدءًا من شكل الاعتراف نفسه (أوغسطين، وروسو)، وكذلك في شكل السير الذاتيّة (سارتر، وبوفوار، وجينيه) والمذكّرات واليوميات الخاصّة (تولستوي، وأناييس نن)، وغيرها من أشكال تجد فيها النفسُ مساحتها للبوح والإعلان عما يعتري ذاتها من حزن وفرح وحوادث وخطوب. وقد يأتي الاعتراف لأغراض مُتعدّدة، منها لتعظيم الخالق وتذليل النفس على نحو ما وضّحه القديس أوغسطينوس (13 تشرين الثاني/نوفمبر 354 - 28 آب/أغسطس 430) في رسالته إلى الكُنت داريوس أحد أصدقائه، إذْ يقول فيها موضحًا غرضه من كتابة اعترافاته: "تقبّل أيها السيد كُنت اعترافاتي التي طلبتها مني، حتى إذا اطلعت عليها، لا تقدرني أكثر من قدري، فمنها ستحكم عليّ من إقراري أنا على نفسي، لا من إقرار غيري في حقي، وثق بما أقوله فيها، تأمّل فيما كنت عليه وما أصبحت، حتى إذا راقك منها شيء، لا تمدحني أنا عليه، بل تسبّح معي مَن قصدت تسبيحه في توبتي، لأنه هو الذي أوجدنا لا نحن.. ونحن كنا قد تلاشينا، فجدّدنا هو برحمته. وبعد أن تكون عرفتَ ما أنا من كتبي هذه، فصلّ من أجلي لأخطو إلى الأمام طالبًا الكمال، حذرًا من الرجوع إلى الوراء" (القديس أغسطينوس، اعترافات القديس أغسطينوس، ص 4). وقد تأخذ النصيحة في الرسالة بعدًا آخر في الاعترافات، إذ ثمة إقرار كامل واعتراف بالشكر للرب حيث يقر بأن "الوجود المطلق لك وحدك، والمعرفة الصحيحة المطلقة هي أيضًا لك وحدك، ثابتٌ أنت لا تتغير في كيانك ومشيئتك" (ص 57).
وقد تأتي الاعترافات بوصفها نوعًا من التطهر على نحو ما هو سائد في الأدبيات الكنسيّة، فسِرّ الاعتراف في الكنيسة يسمى "سرّ التوبة"، وهو يقوم على الجلوس على كرسي الاعتراف أمام القس أو الكاهن. ويعتبر الاعتراف أو إعطاء المشورة: "من صميم البناء الذاتي للإنسان من خلال العلاقة الثنائية بين الكاهن والمعترف" (نيقولاس ف. جامقاس، سيكولوجية الاعتراف، ص 8). وكشفت الرغبة في التطهر عن نصوص غاية في الأهمية على نحو ما رأينا في اعترافات القديس أوغسطين، ثم اعترافات جان جاك روسو (1712 - 1778) التي سجّل فيها الكاتب أدق أحداث حياته، دون أن يجفل من الحقيقة، وهو الأمر الذي أقرّ به في بداية الكراسة الأولى من الاعتراف كنوع من الميثاق الاعترافي (على غرار الميثاق السيري والروائي) لقول الصدق، إذ يقول: "إنني مُقْدِمٌ على مشروع لم يسبقهُ مثيل، ولن يكون له نظير؛ إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانًا في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا!.. أنا وحدي... ! فإني أعرف مشاعر قلبي، وكذلك أعرف البشر! ولست أراني قد خلقت على شاكلة غيري ممن رأيت، بل إنني لأجرؤ على أن أعتقد بأنني لم أُخلَق على غرار أحد ممن في الوجود! .. وإذا لم أكن أَفضلَ منهم فإنني (على الأقل) أختلف عنهم! ولن يتسنى البت فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت إذ أتلفت القالب الذي صاغتني فيه إلا بعد قراءة هذه الاعترافات" (اعترافات جان جاك روسو، ص 9)
في هذه الرسالة الموجزة عدة حقائق مرتبطة بالاعترافات وماهيتها وخصائصها ومثياقها التعهدي أمام القرّاء. أوّل هذه الأشياء أنّ الاعترافات ليست بالأمر اليسير والسهل، الذي يقدِرُ عليه جميع البشر من ناحية، ومن ناحية ثانية ليس بالأمر اليسير لأن تتقبّل العقلية - بما في ذلك الغربية - ما تحتويه من بوح وكشف وصراحة. فبحسب قوله إن ما سيُقدم عليه ليس له مثيل، ومن ثمّ تنبُع خطورته في كونه فريدًا لم يسبق للعقلية أنْ اطلعت عليه، لذا فالإقرار بمثابة الحذر والخوف من ردة الفعل لخرق الأنساق والأعراف والقيم. وثاني هذه الأشياء أن الاعتراف يمنح الذات الشجاعةَ والقوة، والقدرة على تملّك الذات وتوجيهها حيثما يريد لا حيثما تريد أهواؤها "في أصدق صور طبيعته". وثالث هذه الأشياء أنه يبتغي من وراء المصارحة، وضع ذاته في موضع المواجهة مع أناته الداخلية، وليس مع ذاتٍ أخرى، وهو ما يحيل بمعنًى من المعاني إلى التطهر.
هذا الغرض من وراء الاعترافات يتكرّر في اعترافات جان جاك روسو، حيث يقول معلنًا عن غرضه من وراء اعترافاته هكذا: "فإذا انطلقتْ آخر صيحات بوق البعث، عندما يقدر له أن يدوّي، فسوف أمثل أمام الحاكم العادل، وهذا الكتاب بين يدي، ولسوف أقول في رباطة جأش: هذا ما فعلت وما فكّرت، وما كنت.. لقد رويت في كتابي الطيب والخبيث على سواء، بصراحة، فلم أمحِ أي رديء، ولا انتحلت زورًا أي طيّب". (اعترافات جان جاك روسو، ص 9).
يمكن القول إن هذه الاعترافات (أي اعترافات القديس أوغسطين وروسو) وما احتوت عليه من صراحة عارية، كانت بدايةً لحقبة جديدة لتشكّل نوعٍ أدبي جديد يُعبّر عن هذا الغرض، فظهرت كتابات الذات بكافة أشكالها: السيرة الذاتية، والمذكرات واليوميات ورواية السيرة الذاتية إلخ؛ واطّردت الاعترافات الصريحة والمخجلة لكُتّابها دون أدنى مواربة أو حتى الشعور بالخجل، وإن كانت الأهمية الحقيقيّة لمثل هذه الكتابات الاعترافيّة لم تقف عند الصراحة والبوح وكسر التابوهات وفقط، بل كان الهدف الحقيقي هو تمثّل الهوية الفردية والجماعيّة على حد سواء. وبحسب أكسل هونيث، فإن "عملية تكوين الذات أمرٌ يتوقف على ما يسمى بالتفاعل الاجتماعي، فمن خلال التفاعل التّذاوتي الذي يتمّ بين الفرد والآخرين، وما يتضمنه هذا التفاعل من أشكال التعامل الاجتماعي، يكتسب الفرد وعيه بذاته وبكيفية تحقيقيها على المستوى الاجتماعي، وبمعنى آخر، لا يمكن تحقيق ذواتنا إلا عبر عملية الاعتراف، وعن طريق علاقتنا بغيرنا من الناس الذين نتفاعل معهم في حياتنا الاجتماعية" (أكسل هونيث: التشيؤ: دراسة في نظرية الاعتراف، ص 10). وهذا النتيجة يؤكدها عبد الله إبراهيم في مقدمة كتابه "السرد والاعتراف والهوية" (2011)، حيث يقول: "يقترن أدب الاعتراف بالهوية، سواء أكانت هوية فرديّة أم جماعيّة، فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها؛ ذلك أن أدبه يقوم بمهمة تمثيلها، وبيان موقعه فيها، فلا يطرح موضوع الهوية في السرد، والاعتراف بها إلا على خلفية مركبة من الأسئلة الشخصية والجماعية، وتبادل المواقع فيما بينهما؛ فالكاتب منبثق من سياق ثقافي، وتجد الإشكاليات المثارة كافة في مجتمعه درجة من الحضور في مدونته السردية" (ص 5).
الكاتب الكيني "نغوغي واثيونغو" صاحب رواية (النهر الفاصل"، يصف لنا في مذكراته: "أحلام في زمن الحرب: مذكرات طفل" طفولَتَه ومعاناته الشديدة بسبب الفقر، فيقول في اعترافات قاسية: "لم أكن قد تناولت الغذاء بعد ذلك اليوم، ونسيتْ أحشائي أن تتناول حصتها المقررة من عصيدة الشعير ذلك الصباح قبل أن أمضي في مسيرة الركض اليومية لمسافة ستة أميال نحو مدرسة كينيو غوري المتوسطة. كانت والدتي ماهرةً في تحضير وجبتنا اليومية الرئيسية، ولكن متى ما كان أحدنا يشعر بالجوع فإن أفضل المتاح أمامه هو أن يجد شيئًا، أن يشغُل باله، ويبعده عن التفكير بأمر الطعام، وذلك بالضبط ما كنت أفعله في العادة وقت الغداء في المدرسة عندما كان الأطفال الآخرون يتناولون طعامهم الذي جاؤوا به من بيوتهم" ويكمل: "كنت أتظاهر أمام الأطفال بذهابي إلى مكانٍ ما، ولكني في حقيقة الأمر كنتُ ألتمس الجلوس تحت ظل شجرة، أو غصن وارف الظل بعيدًا عن الأطفال الآخرين وبحثًا عن خلوة تعينني على قراءة كتاب، أي كتاب، رغم ندرة الكتب آنذاك.. قرأت في خلوتي نهار ذلك اليوم النيسانيّ مقاطع من النسخة المختصرة لرواية ديكنز "أوليفر تويست"، وكان ثمة مقطع يرسم صورة لأوليفر وهو يحمل وعاءً في إحدى يديه وينظر إلى الأعلى نحو شخصيّة تبدو مترفعة وذات سطوة، وراح أوليفر يخاطبها: (أرجوك، سيدي، هل يمكنيي تناول المزيد؟). وبالنسبة لي، فإن سؤالًا مثل سؤال أوليفر لم أكن لأطرحه على كائن من كان عدا والدتي: المتفضلة وصاحبة الكرم التي أبدت أريحية روح فائقة نحوي، ولم تكن لتبخل عليّ بشيء متى ما وجدت سبيلًا لتحقيق ذلك" (فيرجينيا وولف وآخرون، اكتمال العالم: الأدب - المعرفة - السعادة، ص 203).
الشيء المؤكّد أن أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية قديمٌ قِدم الحضارة نفسها، فإذا سعى البعض لإثبات أسبقية الغرب في التعبير عنه وتمثّله في كتاباتهم، فإن هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أسبقية ثقافة الشرق في تمثّل هذا الفن، على نحو ما أثبتت النقوش والكتابات القديمة على الجداريات معرفة العرب بالسيرة الذاتية قبل ظهورها في الغرب. فعباس محمود العقاد يشير إلى أن البابليين سبقوا بمعرفة سر الاعترافات قبل الكنيسة، حيث كان الاعتراف "ضربًا من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث" (عباس محمود العقاد، أنا، ص 167)، وقد تحضر الأسبقية في كتب التراث، فكتاب ابن حزم "طوق الحمامة في الألفة والألاف" أسبق من اعترافات جان جاك روسو، إذْ عُدّ الكتاب "كتاب اعتراف بامتياز، يقدّم صورًا متفردة، جسورة، تتخطى حواجز الصمت والكتمان التي تلتف حول حياة العلماء والفقهاء في كل عصر".