بعد 20 عامًا على حرب حزيران/يونيو 1967، تساءل محمود درويش: "أما زال حزيران حيًّا فينا؟"، كان سؤالًا على وقع الحروب الكثيرة على الفلسطينيين، المستمرة بعد 58 عامًا من تلك الحرب. في هذا الحوار، يأخذنا المؤرخ الفلسطيني بلال محمد شلش، في جولة طويلة، عبر تاريخ مدينة نابلس، قبل احتلال 1967 وبعده، بداية من المشهد السياسي في المدينة "المتمردة" تاريخيًّا كما نعرف، وصولًا إلى لحظة الاحتلال الصادم، وتفاعل أهل المدينة معه وما بعده.
وعبر قراءة التفاصيل والصورة العامة أيضًا، وعبر مذكرات رئيس بلدية نابلس لحظة الاحتلال، حمدي طاهر كنعان، المُسنَدة وثائقيًا، ومقارنة الروايات الأخرى، يمتد البحث في حزيران/يونيو 1967، من لحظته، وعودة إلى 1936، وصولًا إلى الراهن الفلسطيني. ومن مشاريع التهجير إلى سياسات الحكم العسكري وكيفية تبلورها، إلى تعامل أهالي نابلس مع المشهد الجديد عليهم.
في مقاله ذاته، ختم درويش، بالقول: "إذا كان حزيران أقسى الشهور، فإنه ليس آخر الشهور"، وفي هذا الحوار جولة بين أقسى الشهور وعشرات سبقته وتلته، مع المؤرخ الفلسطيني بلال شلش، صاحب كتاب "شيءٌ عابر.. نابلس تحت الاحتلال (حزيران/ يونيو 1967 - آذار/ مارس 1969) - مذكرات ووثائق حمدي طاهر كنعان"، والمرشح لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة بيرزيت، والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- أعتقد أن تجربة نابلس، يمكنها تقديم الكثير لفهم الضفة الغربية بعد حرب 1967، لكن قبلها، هل يمكن الحديث عن المشهد في نابلس الأردنية.. وهل كانت مدينة متمردة بالعموم؟
نابلس قد تشكل نموذجًا لعموم الضفة الغربية، في فترة ما بين الحربين، أي 1948 و1967، وفترة الحرب نفسها وكذلك ما بعد الحرب، وهي كذلك لأسباب مختلفة. السبب الأول، خصوصية حالتها، إذ كانت تقريبًا هي المدينة الوحيدة، من مدن فلسطين المركزية، التي لم تتأثر جغرافيتها في حرب 1948 بشكل مباشر، وإن تأثرت بشكل غير مباشر من خلال إغلاق مجالها؛ لأن تجارة نابلس في جزء منها كانت تتجه إلى دمشق عبر السكك الحديدية من محطة القطار التي كان لها فرع في نابلس. وسابقًا، أُغلِقَت المحطة من قبل بريطانيا، كجزء من عقاب المدينة لـ"تمردها".
ثانيًا، كان هناك كثير من أهالي نابلس، الذين يعملون في المدن الساحلية أو تلك التي سقطت عام 1948، كموظفين أو في القطاعات الإنتاجية المختلفة، وبعد الحرب، عاد غالبيتهم للمدينة، وهنا قد تكون نابلس نموذجًا ضخمًا، على صعيد المدن التي استقبلت من هُجِّر بعد 1948، ومِن اللحظة الأولى، صار هناك تجمعات للاجئين، بعضهم من أبناء المدينة أساسًا، وبالتالي عادوا إلى بيوتهم في البلدة القديمة التي كانت الناس هجرَتها بعد زلزال 1927. وعلى صعيد اللجوء بعد 1948، هناك طبعًا من ذهب إلى المدارس التي استقبلتهم المدينة فيها، مع تشكيل اللجنة القومية لرعاية ما سمي بالمنكوبين، وكانت تجربة مبكرة في عموم فلسطين.
وبالعودة إلى الوراء أكثر قليلًا، فإنّ لدينا بحثًا عمل عليه جوني منصور وإيلان بابيه "التضامن في أوقات الأزمات: دروس معاصرة من النكبة"، والذي يبحث في تجربة زلزال نابلس، ورعاية المنكوبين، وكيف أثرت هذه التجربة في إدارة المدينة المختلفة للأزمة الجديدة التي أطلق عليها النكبة.
فعليًّا، نابلس من المدن الاستثنائية، لكنها في نفس الوقت تشكل نموذجًا تاريخيًا. اعتُبرت مدينة متمردة، وظل هذا الشيء منعكسًا في وعي إسرائيل، ورأيناه في عام 1967، عندما بدأت مظاهر التمرد على الحكم العسكري الإسرائيلي الجديد، لكن المرحلة الأردنية لم تكن بعيدة عن هذا التمرد.
يمكن اعتبار نابلس حاضنة التناقضات الفلسطينية عمومًا، كما كانت حاضنة المركز المُعارض، إذا صح التعبير، للنظام الأردني. ففي عام 1957 على سبيل المثال، تظهر أبرز محطة للمعارضة السياسية من أهل فلسطين والأردنيين، وذلك بعد إقالة حكومة سليمان النابلسي، فقد كان اجتماع المعارضة الأساسي في نابلس، وعُرف باسم مؤتمر نابلس. لاحقًا ظهر ما عُرف إعلاميًّا باسم جمهورية نابلس، وهي لحظة تفاعل معها الإعلام الناصري، بعد الحديث عن اتحاد سوري وعراقي ومصري في نيسان/أبريل 1963، ووقتها انعكس ما سبق على عموم البلاد بالمظاهرات، لكن المظاهرات الأصخب كانت في نابلس.
بالعموم، بيئة نابلس كانت حاضنة للتناقضات الحزبية، وكان فيها التيارات السياسية المختلفة، من الشيوعيين والإسلاميين والبعثيين وغيرهم، وهذا انعكس على معارضتها، وكذلك على احتضانها الأهلي، الذي ربما لم يظهر في مكان آخر. كما كان لدينا جمعيات تاريخية، كجمعية الاتحاد النسائي وجمعية البر والأندية وغيرها، وقد شكلت روافعَ للعمل الحزبي، في سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، أيضًا المدارس، لدينا نموذج المدرسة العائشية، التي أغلقت في نيسان/أبريل 1967، ولدينا أيضًا قمع القوميين في عام 1966، إذ إنّ عملية القمع الأبرز كانت في نابلس.
ما سبق، يظهر لنا وجود الحاضنة الاجتماعية، التي كانت تحتضن المعارضين من أبنائها، فمثلًا عندما أغلقت المدرسة العائشية، أعاد فتحها وجهاء نابلس من النساء والرجال، وذلك بعد توجههم للملك والدفع بهذا الاتجاه، رغم قرار السلطات. وفي سياق المدارس أيضًا، لدينا في المذكرات النابلسية، كثير من الشواهد على تحول المدارس، إلى حواضن للأحزاب السياسية.
نقطة أخرى، هي الجبل والمدينة، في نابلس لم تكن المدينة هي الفاعل فقط، بل هناك جبل نابلس، الذي هو امتداد لريفهـا، وهذه منطقة كانت حاضنة للمعارضة في سنوات العهد الأردني، ومن قبلُ للثوار في 1936، ثم للمعارضة السياسية، التي فكر بعض رموزها في انتفاضة مسلحة، فكانت تلك المنطقة حاضنة لانتفاضة مسلحة خطط لخروجها في 1957-1958.
أيضًا تلك المنطقة كانت حاضرة في حوادث التهريب، لكونها مشرفة على المشاريق والغور، وبالتالي كانت نقطة أساسية للتهريب، قبل 1948 وبعدها وكذا بعد 1967، يظهر ذلك في بلدات عقربا وبيت دجن وبيت فوريك، التي كانت من الحواضن المبكرة لبدايات العمل الفدائي الجديد، بعد عام 1965، فقواعد فتح المبكرة، كانت في بيت فوريك ولاحقًا في بيتا وبيت دجن ومجدل بني فاضل، كل هذه القرى كانت الحواضن الطبيعية للمقاتلين في الثورات السابقة، بالإضافة إلى أن البلدة القديمة سمحت عمرانيًّا بأن تكون حاضنة سابقة لوجود المخيمات، التي تأسست بداية كخيام، وتحولت إلى بيوت مخططة تقريبًا، أمّا شكلها الحالي، الذي نعرفه اليوم، فهو تحولات متأخرة، مقارنة مع البلدة القديمة في نابلس، التي كانت تاريخيًا تشكل قلعة وحصنًا، خصوصًا مع خروج الكثير من أهلها على فترات متفاوتة، مما جعلها تمارس هذا الدور.
اقتصاديًّا، في نابلس نموذج مختلف، وهو ما اشتغل عليه بشارة دوماني بحثيًّا في كتابه، "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700 - 1900"، إذ قد تكون من المواضع المؤهلة للاستقلالية الذاتية، فاقتصادها قوي، وانعكس على الجانب السياسي، ورغم الحديث عن التحولات التي أحدثها دخول المنطقة في السوق الرأسمالي والتحولات العالمية التي شهدتها، ثم تحولات الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن نابلس تفاعلت مع هذا التحول إيجابيًّا، بمعنى أنها لم تفقد رأس مالها، وتجارها حولوا صناعاتهم باتجاهات تتجاوب مع التحولات، إذ ظهر لدينا مصنع للكبريت في بداية العهد الأردني، ومصنع للزيوت، وصار هناك استفادة من نمط الإنتاج الجديد، في تطوير صناعة الصابون مثلًا.
ما سبق، انعكس على المدينة، أي صار لدى نخبتها نوع من الهامش، الذي منحها استقلالية بالعموم. فعلى سبيل المثال، في ظل انقسام البلاد بين المجلسيين والمعارضة، تحت الاستعمار البريطاني، فإن معارضة نابلس، لم تكن مثل معارضة القدس، في انحيازها التام لبريطانيا، وهذا واحد من مشاهد تلك الاستقلالية. كما يظهر ذلك في لحظة الوحدة مع الأردن، فشخصية مثل سليمان طوقان، لم تكن أداة أردنية مثلًا، ولدينا شواهد كثيرة على مواقف الرجل، موقفه كان مختلفًا عما صُنِّف به لاحقًا، كما أن لدينا رسائل من أحد أنصار الحاج أمين الحسيني في نابلس، وهو فائق عنبتاوي، تُظهر هذا الموقف المختلف عن المناطق الأخرى.
وفي ظني أن الدراسات الاستعمارية التي تحدثت عن التحول المركزي باتجاه الضفة الشرقية، ينقصها الكثير في حالة نابلس، نعم حدث هذا التحوُّل، لكنّ نابلس كان لها دائمًا هامش عالٍ من المناورة، وعملت على الحفاظ عليه. وهو مكَّنها في لحظة 1967 أن تكون قائدة للبلد.
- من هذه النقطة تحديدًا، هل يمكن فهم ما وصفته بـ"المزايدات" العربية قبل حرب 1967، من خلال نابلس، فعلى صعيد المشهد كانت حاضرة في قصيدة لمعين بسيسو "انهضي عمّان"، أيضًا هل يمكن الحديث عن تنازع نابلس بين أردنيتها وفلسطينيتها؟
يمكن القول إن الفلسطينيين إجمالًا -لا في نابلس فقط- كانوا امتدادًا لانقسامات المعارضة والموالاة السابقة، حتى تلك التي نتجت عن انقسامات المجلسيين والمعارضة، لكن كلهم تقريبًا كانوا مع فكرة الوحدة، حتى الوحدة الأردنية الفلسطينية. وبالمُجمل، لا يمكن القول إن هناك تيارًا عامًا معارضًا ضد الوحدة مع الأردن، حتى من الأحزاب، فالناس اندمجت مباشرة في العمل والأحزاب، بما في ذلك الأحزاب القومية. كان في نابلس تجاوُز للانقسامات ؛ لأنها تاريخيًا كان لها علاقات قوية مع السلط مثلًا، سواء اقتصادية أو معيشية، لدينا سليمان طوقان، من مواليد السلط، كما أن لنابلس علاقات مع دمشق، وغيرها من المحيط العربي، وكانت علاقات طبيعية، في سياقات علمية ضمن شَبَكة العلماء، أو علاقات الاقتصادية ضمن شبكة التجار، وهذا انعكس على بنية المجتمع النابلسي. لذا فإنّ الانقسامات التي شهدتها المدينة هي في جزء منها مختلفة عن نمط الانقسامات التي وجدت في مناطق أخرى.
وهذا ما نلحظه في 1948، إذ تجاوزت البلد الانقسامات السياسية، التي أتت بعد ثورة 1936، وحتى تلك الانقسامات السابقة مع بداية الاستعمار البريطاني. وبالعودة للمقارنة، فإن موقف معارضة نابلس، يختلف كليًا عن معارضة القدس، في العلاقة مع بريطانيا، ففي عام 1918، تأسست في نابلس الجمعية الإسلامية المسيحية، وكان دورها يختلف تمامًا عن دور الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس، أو في يافا، من ناحية تمثيلها للميزان الحقيقي للناس أو قبول الناس لها، وأيضًا رفضها للمشاريع الاستعمارية، وظل هذا النّفَس حاضرًا في نابلس، وربما ارتبط هذا جزئيًا بكون نابلس سقطت في يد بريطانيا بعد عام من سقوط القدس، فوجد أهلُها فسحة من الوقت للتفكير بهدوء، لا تحت وطأة الحرب. عام 1948 أيضًا حدث شيء شبيه، فلم يؤثر الحدث في الناس أو في منطقتهم بشكلٍ جوهري، وظلت النخب قائمة، بل إن اقتصادها تَعزز واستفاد من اللجوء والكارثة، وعليه فقد اختلفت مواقفهم كليًا عن مواقف القيادات في مناطق أخرى.
طبعًا حدثت مزايدات، ويمكننا قراءة نموذج نابلس، باعتباره انعكاسًا لأهل البلد عمومًا في تلك اللحظة. ولنتذكر قبل حرب 1967، إذ ظهرت لدينا الدعوة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت امتدادًا، لدعوات سابقة، فكان هناك محاولة عام 1961، وكان هناك حكومة عموم فلسطين، التي ساهمت نابلس فيها. وشاركت في نقاشات ما بعد اغتيال الملك عبد الله وفترة حكم الملك طلال. كما شاركت بشكلٍ فعال، في النقاش المتعلق بالمركزية واللا مركزية في الأردن وطبيعة العلاقة مع النظام الأردني. وفي كتابات مُعارضيها يظهر بعضُ مَن يُحسبون أردنيين، ما يعني أن نقاشات "أردُني وليس أردُنيًّا" لم تكن قبعة مناسبة لكثير من أهل نابلس.
- في تلك الفترة، زار الشقيري نابلس وهاجمه حمدي كنعان، كما يظهر.
نعم زار الشقيري نابلس، ولم يهاجمه حمدي كنعان فقط، بل هاجمته شخصيات من الحركة الوطنية أيضًا، من بينهم أكرم زعيتر، الذي كان منتقدًا لفكرة سيطرة الدولة العربية على مسار منظمة التحرير، وكان لديه انتقاد لشخص الشقيري، وقد ثبت لاحقًا أن هناك مشكلة في شخص الشقيري، لكن هذه مسألة أخرى.
الانقسامات التي كانت قائمة في المنطقة انعكست على نابلس عمومًا وجعلتها في تفاعل دائم مع أفكارها، خاصةً أن مجتمع اللاجئين كان قد بدأ يصعد، ويزداد تأثيره، يظهر ذلك مثلًا في العرائض، حينها شعرت الناس أن الوقت صار مناسبًا للتحرير، وأنه المسار الذي يجب العمل من أجله وخوضه، مِن هنا كان أي شخص يدعو إلى هذه الغاية يؤثر في الناس.
الدول العربية إجمالًا كانت تقع في منطق المزايدات، وبدلًا من أن يتحول ما سبق، إلى مشروع وخطة عملية، صار مشروعًا للقول والأخذ والرد، ودخل أهل فلسطين في طرف من هذا النقاش، الذي ظهر في الجدل حول انطلاقة الثورة الفلسطينية، وظهر شعار التوريط، وهو ما يُعدُّ جزءًا من المزايدات، وبدلًا من استغلال هذا الجو لدمج الناس في المسار العملي، تكثفت المزايدات، حتى انتهى الأمر عام 1967.
- بالوصول إلى عام 1967، هل يمكن القول بانعكاس الجبهة المصرية على الضفة الغربية عسكريًّا؟
يمكن الحديث عن حضور مصري سابق للحضور العسكري، لكن الحضور العسكري حدث متأخرًا جدًّا؛ لوجود مقاطعة مصرية للأردن مرتبطة بالموقف من منظمة التحرير، وبامتداد الصراع التاريخي بين الملك حسين وعبد الناصر. الحضور العسكري بالعموم متأخر جدًا، ومفاعيله المباشرة لم تكن حاضرة في نابلس، أمّا أمر العمليات بالانسحاب في نابلس، فقد تأخر نسبيًا بالمقارنة مع أوامر الانسحاب في الجبهات الأخرى.
في نابلس احتاج الأمر تقريبًا إلى يومين أو ثلاثة، ومع ذلك بقيت قوات حافظت على وجودها في المعارك التي شهدتها المدينة فيما بعد، رغم أن الطريق إلى نابلس لم يكن مُعبدًا أمام الدبابات الإسرائيلية، ومن اللحظة الأولى حدث تفجير لحقول الألغام، ومن ثم اشتباكات في معركة وادي دوتان، كما تسمى، ثم الاشتباكات التي حدثت في طلوزة، أي تقريبًا في كل موضع خلال الطريق إلى نابلس، ولاحقًا الاشتباكات داخل نابلس نفسها، في عملية التطهير، التي قُتل فيها مجموعة من جنود الاحتلال، لكن ما كان متوقعًا من أهل المدينة ومن المحتلين، أن يكون القتال أعنف، وألّا تستسلم المدينة بهذه السهولة. وظهر ذلك، في حجم الصدمة والمفاجأة، إضافة إلى مقارنة مشهد حرب 1967 بمشهد 1956. إذ لم يقارن أهل نابلس النكسة بالنكبة، بل بعام 1956، لوقوع الاحتلال المفاجئ وانهيار النظم الرسمية وتحول المقاومة إلى سرية، والبقاء والصمود في البلد، وانتظار تأثير العامل الدولي في مجريات الأحداث، باعتباره ما سيحدث التغيير ويطرد الاحتلال.
- تبدو معارك نابلس يائسة، سواء في وادي التفاح أو اشتباكات المقبرة الشرقية.
فعليًا نعم؛ لأنه حدث انهيار عام في الجبهة، فأهل نابلس كانوا ينتظرون القوات الغازية أن تصل إليهم من منطقة حوارة، لكنها دخلت عليهم من وادي الباذان، أي من الطريق المعاكس، بدلًا من البوابة الغربية لنابلس جاءت من الشرقية، مما دفعهم إلى الظن بأنها قوات عراقية. لكن المفاجأة، كانت واضحة على الجميع، رغم وجود مؤشرات عند بعض الناس، بأن النظم العربية لن تحتمل هذه المعركة، لكنهم كانوا قلة. التيار الغالب، كان ينتظر معركة التحرير.
لكن بعض المعارك لم تكن يائسةً، هناك من رفض الاحتلال، غازي الخليلي مثلًا تحدث عن وجود من رفض تسليم المدينة بدون طلقة، ولدينا شهادات تتحدث عن معركة طلوزة، وأيضًا شهادة رندة النابلسي، التي تحدثت عن قائد دبابة، قاتل في وادي التفاح، ووصل إلى المستشفى من أجل إزالة شظايا من يده وعاد مرة أخرى للمعركة. هذه المشاهد توحي بأن هناك من أراد أن تثبت الـ"لا"، بأن هذه المدينة لم تسقط دون طلقة، وهذا نراه أيضًا في قتال قوات جيش التحرير التي جاءت مع الجيش العراقي، ودخلت إلى أريحا يوم المعركة.
- مع ذلك، حمدي كنعان وكاتب البلدية، يصفان المعارك والسلاح المستخدم بحسرة.
ليس فقط حمدي كنعان، هذه سمة المذكرات النابلسية، وهي طبعًا متأثرة بالهزيمة. قبل ذلك، كان كنعان نفسه يخطب عند قدوم الوفود العربية، ومنها عبد المنعم رياض، عن "التحرير والأرض السليبة وانتظار العرب"، كانت هذه قناعة الناس وما ينتظرونه.
مشهد الانهيار نفسه، انعكس أيضًا على حياة الناس التالية، مثلًا نعمت كمال تصف مشهدية سقوط المدينة والرايات البيضاء المرفوعة، وفدوى طوقان أيضًا، وفي نصوص متأخرة مثل كتابات عادل الأسطة الذي يصف مشهد تسليمه بندقية أهله، كلها تشعرك بأن هناك شيئًا ما حُفر في وعي الناس. أمّا ما ظهر عن رداءة السلاح والهزيمة، فقد كانت جزءًا من فهم الناس لما كان يحصل، وهو ما استثمرت فيه الفصائل الفلسطينية، فكان خطابها قبل المعركة أساسًا وبعدها، أنها معركة الأنظمة وليست معركة الناس أو معركتنا، ومن قاتل وانهزم هو الأنظمة.
أما منطق الناس فكان أن هذه المعركة لم تكن معركتنا، وكانت هناك نقمة انعكست لاحقًا على الشخصيات النابلسية التقليدية التي كانت محسوبة على الأردن، أو إذا أردت تسميتها بالنخبة الأردنية، فصارت تعتبر أن أول تقصير وقع من الأردن، هو عدم تحضير البلد لهذه المعركة، وحدثت مراجعات سببت لهم نقمة عند بعض الشخصيات في النظام الأردني، وكانت هذه المراجعات بالأخص، من تلك النخب التي بقيت في الأرض المحتلة، وهنا بدأ الجدال الطويل بين الخارج والأرض المحتلة، والذي انعكس لاحقًا على منظمة التحرير.
- في المذكرات، هناك نقطة لافتة ربما تربطنا بأحداث حرب غزة اليوم، تتعلق بتهجير قلقيلية، يبدو أن المشروع كان جادًّا، ورئيس بلدية نابلس حمدي كنعان، أسهم جزئيًّا في إحباطه.
هنا يمكن القول إننا نشاهد أثر حرب 1956 في المشهد، وكيف انعكس على التفكير، فقد صار واضحًا أن هناك تيارات إسرائيلية أمنية، سعت إلى استغلال الحرب منذ اللحظة الأولى لبدء مسارات التهجير، وظهر الأمر في قرى يالو وعمواس وبيت نوبا، وفي المناطق التي شهدت قتالًا استثنائيًّا في حرب 1948، ففي صوريف، اتُّخذ القرار بنسف القرية، والرواية الرسمية تتحدث عن ذلك، إلّا أنّه توقف في آخر لحظة تفاعلًا مع المشهد الدولي.
مشهد قلقيلية كان جزءًا من هذا الحراك، حضور نابلس، الذي كان فاعلًا فيه بشكلٍ أساسي حمدي كنعان بصفته رئيس البلدية، اتخذ موقفًا في رفض تسهيل التهجير، بالإضافة إلى التدخل الدولي، إذ دُفع الناس إلى السفارة الأميركية والسفير الأميركي؛ لأنهم شاهدوا ما حدث في 1956، أولًا صمود الناس وبقائهم وماذا يعني، وثانيًا تأثير العامل الدولي وحضوره في المشهد، هنا فعليًا كانت محاولة ناجحة، للاستفادة من حرب 1956 وتجربتها وعكسها على التجربة الجديدة في 1967.
- مؤخرًا، جرى حديث من شخصية في الإدارة المدنية عن "نموذج نابلس"، باعتبارها نموذجًا لضبط مدن الضفة الغربية، وفي عملك البحثي، تناولت ما عُرف بـ"خطة إخضاع نابلس" بعد حرب 1967، أيضًا، موشيه دايان ظهر مهتمًا بنابلس، فهل كانت نابلس مختبرًا للسياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، تحديدًا من قبل دايان؟ وهل عُممت من هناك؟
بالتأكيد، المقاومة النابلسية، هي التي صنعت سياسات الحكم العسكري لعشرة أعوام تالية للحرب بالحد الأدنى، هذه وجهة نظري وما أشتغل عليه وثائقيًّا في دراسة مستقلة. ففي البداية كان ينظر إلى نابلس باعتبارها استثناءً، نتيجة صمود المدينة وبقاء الجزء الأكبر من سكانها فيها، وخاصة الوجهاء، وانعكس هذا على موقف الاحتلال من المدينة ونظرته لها، ولاحقًا على اندماج هؤلاء الناس في المقاومة، بالمعنيين العسكري والأهلي، والذين كانا يمتزجان في كثير من الأحيان، فقد كان المقاتل، هو ذاته الذي يخرج في مظاهرة أو يحرض على الإضراب، وتجربة نابلس تقدم المزج بين العسكري والأهلي بعد 67.
انعكس ما سبق على رؤية الاحتلال للمدينة، فدائمًا كانت عينه عليها بوصفها متمردة. في تلك اللحظة، تدَخّل كنعان مباشرة في مسألة توظيف المال، لصمود المدينة، إذ دخل المال الأردني بالتعاون مع جهات رسمية أردنية، وسمحت نوافذ مختلفة لكنعان بإدخاله إلى البلاد. وهنا شعرت إسرائيل أنها أمام بوادر للتمرد. (تفاصيل أكثر يُنظر: هاتف طوارئ: حرب حزيران/ يونيو 1967 وآثارها في نابلس في مكاتبات حمدي كنعان وأكرم زعيتر)
تزامن هذا مع دخول السلاح إلى المدينة، فبعد الاشتباكات في بداية الاحتلال، وقعت عملية إطلاق نار في آب/أغسطس، في منطقة الجنيد، وكانت فردية في الغالب، كما ضُبط سلاح متجه إلى حركة القوميين العرب، كان وراء تهريبه خالد دلول ومالك قادري، وكُشف في منطقة الغور أثناء نقله إلى نابلس، كل هذا ظهر -كمؤشرات نراها في محاضر المجلس الوزاري الإسرائيلي- في خلاصة أن نابلس تتجه إلى التمرد.
اللافت في هذه المحاضر، أنها ترى أهالي نابلس شيئًا واحدًا، فيقال مثلًا إن في نابلس قوميين وفتحاويين، ولكن كلهم واحد، لهم هدف واحد يعملون من أجله. من هُنا ظهر ما عُرف بـ"خطة إخضاع نابلس"، وكانت ممهدة للسياسة التي عرفت لاحقًا بالعصا والجزرة. والمقابل لنموذج نابلس هو الخليل.
طبقت خطة إخضاع نابلس، التي تشبه خطة الحصار التي فرضت بعد عملية إطلاق النار قرب شافي شمرون التي نفذتها مجموعة عرين الأسود عام 2022، مع تشديدات أكبر عام 1967، خصوصًا تجاه المجتمع المحلي. إذ كانت الخطة، لا ترفض العصيان المسلح فقط، بل العصيان الأهلي أيضًا، والذي ارتبط بإضرابات في التعليم والمحاماة.
عند تقييم المشهد النهائي، فإن نابلس حصلت على كثير مما كانت تصبو إليه في هذه المعركة، أي الإضرابات، وخضعت إدارة الاحتلال للمطالب المطروحة. لكن، ما سبق منح الإسرائيليين مدخلًا للخطوط العامة، التي ستصير لاحقًا سياسات الحكم العسكري في المنطقة، بالطبع هناك الكثير من الكلام إسرائيليًا، عن نجاح هذه السياسات، مثل فكرة الاحتلال اللامرئي، وغيرها. لكن حالة نابلس في مشهدها النهائي تثبت أنه مجرد كلام، خاصةً في أشهر أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 1967، إذ تظهر محاضر الاجتماعات الإسرائيلية في تلك الفترة والتي تلتها، كيف انعكست الأحداث فعليًّا على المشهد وإدارة الحكم العسكري عمومًا، إلى سقوط حكم اليسار تقريبًا.
- حتى فكرة الحكم الذاتي أو الكيان الفلسطيني، يبدو أن نابلس كانت الأقل تجاوبًا معها.
ثمة ملاحظة، خطة إخضاع نابلس طبقت بعد أشهر قليلة في الخليل، وكانت ستطبق في البيرة، وفشلت لأسباب إعلامية، إذ افتضح أمرها في الإعلام قبل تطبيقها، مما دفع إلى إيقافها. وفشلت فكرة "عاقب مدينة تضمن الهدوء في المدن الأخرى"، والواضح أن المقاومة كانت تتحضر وعندما صارت الظروف مناسبة ثارت المدينة.
الآن في مسألة الكيانية أو الحكم الذاتي، هنا الحديث معقد إلى حد ما، لأننا نتحدث عن مشاريع مختلفة، لا مشروع واحد، وعن عدة رؤى مختلفة لمستقبل الضفة الغربية.
- بكلمات الحرب اليوم، لليوم التالي.
لليوم التالي. أظن أن العامل الأساسي الذي كان يشغل تفكير أهالي نابلس هو تجربة 1956، وبالتالي كان اليوم التالي بالنسبة لهم الانسحاب، إسرائيل ستنسحب، وأي مغامرة لمشاريع محلية لن تنجح. وهناك قناعة حقيقية بمسألة الوحدة. بل هناك حاجة إضافية لمسألة الوحدة؛ لأن الأردن في النهاية بلد ممثل في الأمم المتحدة، ويمكن أن يطالب بأرضه المحتلة، وهذا أمر مختلف كليًّا عن السكان المحليين. أيضًا، كان لدى الناس خشية من تكرار تجارب سابقة مع بريطانيا، حين تحولت فصائل السلام، إلى إدارات محلية تحاول الاستفادة من الوجود البريطاني. لذلك، وقفوا فعليًّا ضد هذه المشاريع بلا استثناء، رغم أن منظمة التحرير، في كثير من الأحيان لم تفهمهم جيدًا؛ لأنها خشيت أن يكون صعودهم على حساب صراع التمثيل، لكنهم في النهاية فرضوا أنفسهم في انتخابات 1976، سواء في الأردن أو المنظمة، إذ كان هناك خشية من الانتخابات، ورُفضت من الأردن والمنظمة خوفًا من تحول القيادات المحلية إلى قيادات منافسة للأنظمة القائمة، ما يسهل المشاريع المحلية للحكم. لكن نابلس، أثبتت أنها كانت ضد المشروع من بدايته، وظلوا على هذا المسار في أشكاله المختلفة، وفي تقديري فُهموا لاحقًا بعيون صهيونية، أو بعيون متوجسة، عيون منظمة التحرير والأردن، وتُرجمت مواقفهم على غير حقيقتها. لدينا اليوم الوثائق، التي تظهر تفاصيل الاجتماعات مع وزير الأمن موشيه دايان وغيره، ومن هذه المحاضر، يمكن فهم مواقفهم من هذه المشاريع، التي كانت محصلتها الرفض.
- يعيدنا هذا إلى أعمالك السابقة، التي تحديت فيها الأفكار السابقة عن ثورة 1936 باعتبارها اللحظة التي ساهمت في خسارة الفلسطينيين عام 1948، واعتبرت لحظة الثورة تدريبًا وإعدادًا، لكن يبدو أن الأمر كان مختلفًا في 1967، والنكبة تركت تأثيرها.
في هذه المسألة، كانت ثورة 1936 حاضرة، لكن النموذج الأقرب، هو العمل الفدائي، الذي كان مستمرًا في غزّة عام 1956 وقبله. لكن تجربة 1936، كانت حاضرة بقوة في مشاهد مختلفة من 1967، أي في بدايات الدوريات، إذ لدينا قصة دخول ياسر عرفات، مع عبد الحميد القدسي وعمر أبو ليلى وعبد العزيز شاهين وغيرهم، إلى الضفة ووصولهم نابلس. لكن تزامن دخولهم مع خروج الناس للحصاد، وتحديدًا في قرى جنين، حينها، طلب أبو ليلى -الذي كان عسكريًّا تدرب مع جيش التحرير، وفي الجزائر- التخفي، بما تقتضيه حرب العصابات، أي الكمون إلى غروب الشمس، حتى يكون التحرك ممكنًا، لكن عبد الحميد القدسي، الذي كان معلمًا بالأساس، وكان الموجه السياسي وقائد المجموعة، طلب التحرك علنًا، وقال إن هذه الناس قريبة عهد بثورة 1936، كما أنها قريبة من الهزيمة وتحتاج إلى رفع روحها المعنوية، إذا شاهدتنا في الزي العسكري، ونحمل علم فلسطين، وعليه دم منهل شديد، الذي سقط أثناء تدريبات في معسكر الهامة. وأشار إلى أن الخروج والمشي بالزي العسكري والسلاح، سيجعل الناس تظن بأننا وفود من الفدائيين، وسترتفع معنويات الناس وتتحمس، وحتى لو حدث الانكشاف الأمني، فإن المصلحة تقتضي تذكير الناس بثورة 1936. في هذه القصة، كان الحكم ياسر عرفات، الذي لم يكن وقتها شخصية مركزية، أي لم يكن قائدًا للدورية، وبعدما سمع تفاصيل الخلاف والنقاش، قال "أين أقف في الصف؟"، أي أنه حسم النقاش لصالح الخروج العلني، واهتم بإحياء ذكرى 1936.
هنا يظهر نموذج ثورة 1936، ومن هنا يمكن فهم لماذا ذهبوا إلى مغارة الدريجات في منطقة بيت فوريك، صحيح أنها قريبة من الغور، وسهل جدًا الوصول لها، لكن كان لها رمزيتها لدى الناس، إذ وقعت فيها معركة، استشهد فيها أحد القادة القساميين المعروفين، وكانت الناس تتغنى بها، وبالمناسبة استشهد في تلك المعركة مجموعة من المقاتلين العرب، ومن بينهم أردنيون. وإذَن فالمنطقة لها رمزيتها، ومنها، أن هذه الجغرافيا جزء من المعارك التاريخية. ظل هذا التفكير حاضرًا وموجودًا، رغم أن الأدبيات المعاصرة، صارت تضعها في تأطيرات تحت أفكار القاعدة الآمنة وحرب التحرير الشعبية، مع ظهور الحديث عن نظرية عسكرية، لكن فعليًا على الأرض، هناك ذكرى تاريخية حاضرة في أذهان الناس، خصوصًا أن بعضهم قاتل في 1948، أي ممن كانوا في فتح لاحقًا. فعليًا هذا هو النموذج، لكن النموذج القريب كان 1956، إذ كان هناك العمل الفدائي ودخول الدوريات، بالأساس تحت رعاية المخابرات المصرية.
- نقطة أخيرة، على مستوى المصادر، نص كنعان المرتبط بحرب 1967، وغيره من النصوص المحلية، يمكن أن تسد ثغرة في السردية القائمة عن الحرب، بالأخص الإسرائيلية والغربية، رغم أنه اقتبس جزئيًا من نص شبتاي تيفت.
إذا لاحظت، فإن نص كنعان كتب عام 1969، غير بعيد عن نشر شبتاي تيفت. لكن الظروف في الأرض المحتلة كانت تمنع نشره، حمدي كنعان لم يكن قادرًا على نشر نصه، بما هو عليه في الأرض المحتلة، هذه جزئية. أمّا الجزئية الثانية، فمرتبطة بانشغالات الناس، إذ يمكن القول إن الحروب تجبُّ الحروب، وبعد 1967، وقعت أحداث أيلول/سبتمبر 1970، بالإضافة إلى صعود العمل الفدائي، الذي دفع الناس إلى تجاوز فكرة الحرب باعتبارها هزيمة، إذ اعتبرت حرب الأنظمة الرسمية. أما حربنا فهي حرب الفدائيين، لكن أحداث أيلول، أدخلت الناس في مساحات اشتغال مختلفة وتاريخ جديد.
رغم ذلك، صدرت نصوص مبكرة، مثلًا في الأردن هناك على الأقل ثلاثة نصوص مبكرة عن حرب 1967، وهي تشبه نص تيفت، إذ كانت ذات طبيعة صحفية، وعلى الجبهة المصرية هناك عدة كتابات، وكلها من شخصيات قريبة من الأنظمة.
وقتها أيضًا، بدأت تظهر كتابات عن نشاطات الثورة الفلسطينية، مثل حوارات طلال سلمان، مع قيادات فصائل الثورة الفلسطينية في 1969، وأيضًا في جريدة النهار اللبنانية، التي أعدت ملفًا تحت عنوان "الفدائيون". لكن بعد أيلول، فإن الحوارات والكتابات صارت متصلة بالحدث، ومع كل حدث يُجب ما قبله، لأسباب عملياتية، إذ تفقد الناس المصادر والأرشيف، بالإضافة إلى الانشغال بالراهن، أكثر من الماضي.
أظن أن النصوص المحلية التي تشبه كنعان، لا تسد ثغرة في الرواية فقط، ولكن يمكن أن يؤسس عبرها لبناء رواية ناقدة في كثير من المحطات للسرديات الصهيونية، أو لكثير من النصوص البحثية ونصوص المذكرات. مثلًا، عند قراءة مذكرات موشيه دايان، فإن صورة حمدي كنعان، مغايرة كليًّا للذي نجده في نص كنعان، وعند إسناد هذه القراءة بالوثائق، فإن نص كنعان يظهر أقرب للوقائع المعيشة؛ لأن نص موشيه دايان، كان متأخرًا نسبيًّا، وفيه خلاصات متأخرة. وكذلك نصوص موشيه غازيت، المؤسِّسة لكل معرفتنا بالحكم العسكري الإسرائيلي تقريبًا، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومِن هنا فإن النصوص المحلية وأوراق البلديات والمذكرات واليوميات التي نشرت في هذه المرحلة، توفر إمكانية لنقد الكثير مما قدمته نصوص غازيت.
- بعد هزيمة 1967، عربيًا، ظهرت نقاشات تنقد الثقافة والعقلية العربية، ووصفت كلها بأنها نقاشات ثقافوية، لكن على الأرض، وعبر نص كنعان، تظهر مستويات أخرى من اهتمامات الناس.
تلقّي الهزيمة كان على مستويات مختلفة، على مستوى المثقفين، إذا صح التعبير، وفي مستوى الناس العمليين، منهم كنعان ومنهم الطلاب والأساتذة والمحامون والعمال، فنرى أشكالًا مختلفة لتلقي الحرب. لكن على الأرض، عندما تسأل الشخصيات التي شاركت في العمل المسلح أو المدني، عن حضور نقاشات اليسار في حركة القوميين العرب وعموم النقاشات الداخلية، ينفون سماعهم بها ، وأكثر قضية دار النقاش حولها، هي مسألة منظمة التحرير، هل ندعم هذا المشروع بوصفه مشروعًا عربيًا؟ أم لأنه كذلك فيتوجب أن نتخذ منه موقفًا؟ بالتالي، فإن موقعية الناس تفرض عليها خيارات وأحيانًا تفكيرًا، يمكن تسميته بالحركي، وليس تفكيرًا في النظرية، بمعنى العمل والسعي المباشر اليومي، وما يطرأ من قضايا تدفع الناس إلى أفكار معينة، ومن ثم تقع مجموعة من الأحداث، تدفع إلى استحداث الأفكار الجديدة أو تطوير الأفكار القديمة.
يمكن رؤية ذلك في مسألة التعليم والإضراب، ولا يمكن فهم إضراب الطلاب، إلّا بوصفه محاولة من أجل إعادة تجربة 1956، أي محاولة الاستفادة من العمل الأهلي المدني، وفكرة العصيان، للحصول على الضغط الدولي من أجل الانسحاب الإسرائيلي، وفي دوائر كثيرة، كان الحديث يدور فيها عن إمكانية الانسحاب، وكانت الفكرة مطروحة، خصوصًا من نابلس.
الإضراب مثلًا بدأ بالتزامن مع جلسة للأمم المتحدة، لكن هذه كانت البداية، وتلاه مباشرة إضراب عن التعليم، ثم إضراب للمحامين، ومثّل بداية تحول إلى عصيان مدني. لكن مستجدات كطول مدة الاحتلال فرضَت واقعها ، إذ نظر الناس إلى الطلبة في الشوارع، وهناك ناس اضطرت للهجرة إلى الضفة الشرقية من أجل التعليم، وظهرت نقاشات طبقية حول هذه القضية. كل هذا دفع الناس، إلى إعادة التفكير، في الأمر نفسه، وإدراك المشهد الجديد، والسعي إلى التفكير في أسلوب جديد، وتحول الإضراب من كونه يرتبط بعصيان مدني إلى إضراب مطلبي، وفعليًّا حُققت الشروط التي ربطت بمناهج التعليم، التي كانت قضية الساعة، وحضرت في نقاشات جامعة الدول العربية.
بالمجمل، صار هناك مستجدات على الأرض، يواجهها القائد السياسي أو المعلم أو العامل أو الحزبي، تدفعهم اتخاذ قرارات مختلفة، وهذا الشيء ظهر في مسألة أنماط المقاومة أيضًا، بمعنى أن هناك أنماطًا تشعر أنها بنت اللحظة، صحيح أن هناك أمورًا مقرة من القيادة، مثل الدوريات أو القواعد الآمنة، ولكن في المقابل ظهر نموذج داخل الأرض المحتلة، كان هو من يحدد ماذا يريد أن يعمل، مثلًا لدينا نموذج شخص مثل نهاد الأغبر، الذي كان ومجموعته يريدون تقليد عبد الرحيم جابر، الذي نفذ سلسلة عمليات، أطلق عليها "ليلة القنابل في تل أبيب"، وأرادوا عمل "ظهيرة القنابل في نابلس"، لكن عند التنفيذ، قرر إيقاف الهجوم في لحظته، وذلك خشية من ارتكاب مجزرة بحق الناس أمام مقر الحكم العسكري، وهذا مؤشر على أن العمل كان يولد النقاشات والأسئلة المختلفة كليًّا، عن نقاشات الفئات الأخرى.