بيسان عدوان كاتبة وصحفية ومناضلة فلسطينية عُرفت بجرأتها وكتاباتها المنبثقة من تجربة ذاتية وسياسية معقَّدة، تشكّلت بين الحصار والمنفى. أسهمت بشكل فاعل في المشهدين الثقافي والإعلامي، وتمتاز لغتها بالكثافة والتشابك بين السرد والتأمل السياسي والوجداني.
في كتابها مرويات الحرب – فوكوياما يسقط في غزة، الصادر عن دار صفصافة للنشر، تصف بيسان الهجوم المستمر على غزة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وسط عالم يهيمن عليه الصمت والتبلد الأخلاقي، فيأتي هذا الكتاب كمحاولة لحفظ الذاكرة الجمعية، إذ تفتح من خلاله نافذة أدبية على الجرح الفلسطيني المتجدد، عبر نص هجين يجمع بين الشهادة، والسرد، والشعر، والموقف السياسي. إنه عمل يتخطى التنظير الأكاديمي ليقدّم سردية نابضة بالحياة من عمق الكارثة.
لا يقدّم الكتاب قراءة فكرية لنظريات فوكوياما، بل يشكّل ردًّا مباشرًا من قلب الميدان، حيث التاريخ لا ينتهي، بل يولد من جديد كل يوم من بين الأنقاض. تتخذ الكاتبة من غزة – المدينة المحاصَرة والمقاوِمة والمثقلة بالفقد – فضاءً لسرديتها الشعرية التي توثِّق الحرب عامًا بعد عام، وعقدًا تلو الآخر، وفق التقويم الفلسطيني الذي لا يشبه تقويمنا المألوف.
فوكوياما.. رمز السقوط الأخلاقي
يحمل عنوان الكتاب فوكوياما يسقط في غزة سخرية مريرة من أطروحة فوكوياما الشهيرة "نهاية التاريخ" التي ادّعت بلوغ البشرية ذروة تطورها مع انتصار النموذج الليبرالي ونهاية الحرب الباردة، لكن غزة، بحروبها المتكررة ودمارها المتواصل، تُكذّب هذا الادعاء، وتُسقطه لا كشخص، بل كرمزٍ لفكرة عالمية عن نظام دولي زُعِم أنه يضمن السلام. في مواجهة هذا الوهم، تنهض غزة شاهدةً على خذلان العالم، وندبةً مفتوحة في وجه روايات النصر الغربي، ومشهدًا يوميًّا يُفكك سرديات "التقدّم" و"الاستقرار".
لا تنشغل الكاتبة بتحليل نظريات فوكوياما، بل تُساجله من موقع التجربة الحيّة: من مركز المعاناة، ومن جغرافيا الدم والمجازر، ومن زمنٍ يدور حول نكبة مستمرة منذ 1948، لا يعرف الخطَّ التصاعدي للتاريخ، لكنه يكرر مأساته. تقول في أحد النصوص:
"استيقظنا على عام 1948، وكأن الوقت لا يمضي، وكأن الحرب لا تنقضي".
هكذا يكشف السرد أن الحاضر الفلسطيني ليس سوى مرآة لماضٍ لم يُدفن، وأن "التقدّم الإنساني" فكرة تنهار تحت وطأة المجازر اليومية والتهجير القسري.
ورغم أن العمل مُشبع بالتجربة الفلسطينية، فإنه لا يقع في فخ الشعارات الجاهزة، بل يتجاوزها إلى طرح أكثر عمقًا، واضعًا الحرب في إطارها الإنساني المركّب، حيث تتصارع قوى لا تُختزَل في ثنائيات الخير والشر. هنا، لا تُكتب الفلسفة بالحبر، لكنها تُفنَّد على أرض الواقع، فالدبابات لا تقرأ الكتب، لكنها تكتب التاريخ بلحم البشر.
بنية فنية تصور التشظي ولغة تحوّل الكلمات إلى حواس
ينتمي الكتاب إلى منطقة سردية هجينة تقع بين الشعر والنثر الروائي، متحرّراً من القوالب الأدبية التقليدية. كل مقطع فيه أشبه بفسيفساء تتكوّن من مشاهد قصيرة ومكثَّفة، تتناول الحرب، والحب، وخسارة المدينة، والطفولة، والأمهات اللواتي يعلّقن قلوبهن على عتبات الانتظار، والذات المنفية التي تحاول أن تبرر بقاءها في حضرة الموت.
يعتمد النص تقسيمًا زمنيًّا دالًّا: من "السنة الأولى" للحرب، إلى "الخامسة والسبعين"، ثم إلى فصول تحمل عنوان "فصول من هدنة قصيرة لحرب لا تنتهي"، في محاولة لتوثيق الزمن الفلسطيني المنهَك بين أوهامِ توقّف القتال واستمرارية النزيف. كأن الكاتبة تكتب سِفرًا لا ينتهي، حيث تتكرر البدايات، وتتشابه النهايات، في دوامة كابوسية لا فكاك منها.
أما قوة الكتاب فتتجلى في أسلوبه الفني الذي يدمج بين اللغة الشعرية والسرد الحر، ويكشف عن براعة الكاتبة في تشكيل مشاهد مشبَعة بالحواس والصور البصرية. ورغم أن السرد قد يأخذ طابع التراتيل الحزينة في بعض المقاطع، مع استدعاء دائم لعناصر الطبيعة كالمطر، والبحر، والقهوة التي تُشبه طعم البلاد، مما يجعل القراءة ثقيلة على من يفضّلون الوضوح والتسلسل، إلا أن هذا الأسلوب مقصود، ليحاكي شعور الاختناق والدوار الذي يرافق حياة المنفى، في حين يعكس البناء الزمني غير الخطي، التيهَ الذي يعيشه الفلسطيني، سواء في أرضه أم خارجها.
مرويات الحرب: سرد الحزن اليومي
يفتتح الكتاب فصوله بتقسيم زمني يحمل عنوان "سنوات الحرب"، حيث لا تُروى الحرب بوصفها حدثًا سياسيًا جافًّا محصورًا في الأرقام والإحصاءات، بل زمنًا يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، ينقش أثره على الجسد والروح معًا. من "السنة الأولى للحرب" إلى "العقد السابع"، وصولًا إلى "خمسة وسبعين عامًا من الحرب"، تتوالى النصوص كدفاتر يومية تنبض بالحياة: قهوة الصباح، وترقّب الحبيب، والخوف من الطائرات المحمَّلة بالموت اليومي، وانكسارات الحب، وأمل العودة، وصوت الأذان المخنوق تحت القصف، وأمنيات الطفلة التي علّقتها على شجرة الميلاد قبل أن ينهار بيتها فوقها.
اختارت بيسان عدوان سردًا شخصيًّا عالي الشاعرية، يذوب فيه الخاص مع العام، فتغدو قصة الحب مرآة لوطن جريح، ويصير كل فقدٍ ذاتي امتدادًا لفقد جماعي. في هذا المزج العميق، تبدو التجربة الفلسطينية متجسدة في نبض الفرد كما في مصير الجماعة.
تقول الكاتبة: "في الحرب، نرى ونسمع ونشم ونتذوق بسرعة فائقة، كأننا نهرول خارج الزمن".
هنا، لا تبدو الحرب معركةً خارجية فقط، بل غزوًا داخليًّا يكتسح الحواس والذاكرة والأحلام. إنها زمن خاص، يتّسع ويضيق حسب وطأة الألم، لا بداية له ولا نهاية.
الحب كفعل مقاومة والمنفى كامتداد للحرب
رغم الحرب، يظل الحب متجذرًا في هذا الكتاب، لا بوصفه شعورًا رومانسيًّا ساذجًا، بل قوة مقاومة عنيدة تصمد أمام الدمار، حيث يتحوّل البحر إلى حضن مفتوح للأحلام، وتغدو الأزقة المدمّرة مسارح للقُبَل المسروقة. هذا التداخل العميق بين الحب والمقاومة يعيد إلى ذهن القارئ إنسانية الفلسطيني، خارج ثنائية الضحية والمقاتل؛ فالحب هنا ليس ترفًا شعريًّا، بل فعل صمود ومواجهة.
تكتب بيسان: "لا ينبت الحب إلا مع الخوف والحرب"، وتضيف: "يصبح الحب مرادفًا للحياة".
وفي هذا الربط بين الحب والحياة، يبرز وجه الفلسطيني الآخر؛ ذاك الذي يقاوم بانتمائه للمشاعر، للحياة، وللذاكرة. أما المنفى، فلا يأتي كفسحة راحة، بل كوجه آخر للحرب: بردٌ قارس، ولغة غريبة، وطقوس مهددة بالتلاشي.
تقول الكاتبة عن المنفى: "في المنفى، يصبح الوقت شديد العتمة". وتقول في موضع آخر: "ولا المتوسط هنا، يشبه البحر على الضفّة الأخرى".
فالمنفى -سواء في مدن الشمال الباردة أو بين شوارع الشتات- يُقدَّم كامتداد للمعاناة: وحدة خانقة، وذاكرة مثقوبة، وحنين لا يهدأ. حتى تفاصيل الحياة اليومية، كتحضير القهوة أو اقتناء الأثاث المستعمل، تتحوّل إلى طقوس مكافحة ضد النسيان، وإصرار على التمسّك بما تبقّى من الوطن.
الأسطورة والرمز: سردية تحيي الذاكرة الفلسطينية
تحمل الإحالات المستخدَمة في الديوان طبقاتٍ متعددة من المعاني الرمزية الغنية التي تستمد عناصرها من التاريخ، والأسطورة، والجغرافيا، لتخلق بذلك سردية شعرية تُعيد تعريف الحرب والمنفى، إذ إن الرموز هنا ليست مجرد أدوات بلاغية، بل هي وسيلة لإعادة بناء العلاقة بين الزمن، والذات، والوطن.
فمن اللحظات الأولى في الديوان، تستعين الشاعرة بإيزيس، فتقول في نصها السنة الخامسة للحرب:
"يقال إنّ إيزيس التي تحارب الوحش تايجون،
تحمل في يدها سنابل قمح،
كانت قد جمعتها كي تقدّمها للإله قربانًا من أجل حبيبها،
وحين تساقطت السنابل صعدت إلى السماء،
ظلّت هناك معلَّقة تنتظر أن يبذر حبيبها الأرض قمحًا؛
كي تعود".
يمثّل هذا الفعل رمزًا للمقاومة القائمة على الأمل والانتظار، ويتحول بدوره، في السياق الفلسطيني، إلى صورة لاستمرار النضال، والتمسك بالأرض.
أما المفتاح، فهو وثيقة تُثبت حق العودة، وعهدٌ بين الفلسطيني ووطنه، يخبئه في "السجن"، وحتى لو لم يعد البيت موجودًا، يبقى المفتاح حاملًا للذكريات وللإرث العائلي، مما يعكس استمرارية القضية الفلسطينية عبر الأجيال. تقول بيسان: "لم يبقَ غير مفتاح غزّة، حملته معي إلى البلاد النهر وخبّأته في السجن وغاب..".
في حين تتحول آلة التشيلو إلى صوت يعكس العزلة والمقاومة العاطفية وسط الخراب، وتشكل موسيقاه تحديًا رمزيًّا يواجه ضجيج آلات القتل، في محاولة من العازِف أن يحافظ على هويته، ويخلق مساحة تأملية يستطيع التعبير فيها عن ذاته رغم الظروف القاسية، علّه يتمكّن من الاتصال بزمنٍ سبق كل هذا الدمار. تقول الشاعرة:
"تغمض عينيك لتعبر كلّ هذا الخراب،
وتراك هناك في الشمال الملتهب
تجلس وسط الدمار
تعزف التشيلو في خضّم الصراخ الذي لا تسمعه".
ومثل القهوة في الديوان، يرتبط الخبز بالذكريات العائلية، إذ يحمل دلالات على الدفء المنزلي الذي سلبه الاحتلال من الفلسطينيين، والمقاومة ضد التجويع الذي يُستخدم كسلاح لإضعاف الشعوب أثناء الحرب، فيمثل غياب الخبز في مرويات الحرب فقدان القدرة على العيش بكرامة. ونجد إشارة لذلك في الوصية الرابعة:
"لن تصحو على لعب الصغار في المخيّم
ولا على رائحة الخبز الطازج على الحطب بعد الطوفان
ولا على كاسات القهوة البلاستيكيّة في شوارع المدينة المكسَّرة".
في هذا الديوان، يمتزج الأسطوري بالواقعي ليخلق سردية لا تقتصر على الشعر، بل تمتد إلى إعادة تعريف التاريخ نفسه، مما يجعل القصائد وثائق شعرية، تشكّل دعوة لإعادة قراءة المشهد الفلسطيني من منظور يتجاوز السياسة نحو العمق الثقافي والوجداني.
الوصايا الأخيرة: مانيفستو النجاة الفلسطيني
تختتم بيسان عدوان كتابها بفصل عنوانه "فيما يشبه الهدنة بين الحرب المستمرة"، لكنها ليست هدنة بالمعنى التقليدي، إنما استراحة قصيرة على هيئة وصايا، مكتوبة بمداد التجربة المُرّة، كأنها رسائل ناجٍ أخير، يرسم لمن بقيَ في البلاد خرائط للنجاة وسط الركام. في تلك الوصايا، تُناشدنا الكاتبة ألّا نألف القتل، وألّا نطمئن إلى هدنة واهنة، وألّا نحزن كي لا نخون الذاكرة، وأن نُبقي الغضب مشتعلًا، وأن نكتب.. فالكتابة وحدها تحفظ الأسماء من التلاشي.
في هذه الوصايا، تتجلّى فلسفة النص كلها: النجاة شكل من أشكال المقاومة، والذاكرة أداة لتحرير الوعي، والغضب موقف نبيل يصون الكرامة.
في الختام
مرويات الحرب – فوكوياما يسقط في غزة هو وثيقة أدبية تسجّل فصول المجازر المستمرة في فلسطين، كما أنه صوت يعلو فوق القصف، ليقول: "نحن هنا.. ولن ننتهي".
إذ ينهض هذا الكتاب في مواجهة الدبابات والطائرات ونظريات النهايات السعيدة، كقصيدة مفتوحة عن الإنسان، وعن الحب في زمن الحرب، وعن الحياة في حضرة الموت، وعن فلسطين التي تواصل إثبات وجودها رغم محاولات الإبادة، ولا يكتفي بتقديم شهادة عن الألم وحسب، بل يرفض الحياد الأخلاقي، ويُعلن بوضوح أن التاريخ لا يُكتب في أبراج منهاتن أو مراكز البحوث، إنما على أجساد من حُرموا حتى من رواية موتهم.
ومن خلال أسلوبها الصادق الذي لا يعرف المهادنة، تدعونا بيسان عدوان إلى إعادة النظر في مفاهيم مثل النجاة، والذاكرة، والكرامة، لا من موقع الضحية وحدها، بل من موقع الكاتب، والعاشق، والمنفي، الذي يتمسك بالحياة كفعل مقاومة.
يُعدّ الكتاب أيضًا لحظة تأمل نادرة في زمن باتت فيه صور الحرب مُبتذَلة حتى كادت تفقد معناها، فنجحت نصوصه في الإضاءة على معنى أن تكون فلسطينيًّا "إذا لزم الأمر"، وفي مساءلتنا كقرّاء:
"كيف يحتمل قلب واحد قذيفتين وموتين وكل ذلك الغضب؟"