كتاب "سنة واحدة تكفي"... تجربة السجن بين السيرة والتخييل

17 نوفمبر 2024
سنة واحدة تكفي

قليلة هي الروايات الأردنية التي تناولت تجربة السجن من زاوية التجربة الشخصية. أتحدث عن كتّاب تعرضوا للاعتقال والسجن، فكتبوا عن هذه التجربة وسطروها في رواياتهم. لا تخطر على البال إلا روايتان تطرقتا لتجربة السجن من وحي السيرة الذاتية للكاتب، هما: "القط الذي علمني الطيران" لهاشم غرايبة، و"يا صاحبي السجن" لأيمن العتوم. وعلى الرغم من أننا عرفنا أدب السجون في التجارب الأردنية عبر كتب المذكرات والسير الذاتية، إلا أن الروايات التي عالجت هذا الموضوع قليلة.

كما أن مفهوم السجن السياسي مفهوم حديث نسبيًا عند الأردنيين، نضج في فترة الخمسينيات، وفي خضم الأحداث المتلاحقة بعد نكبة فلسطين، ونتيجة صعود الوعي اليساري والقومي، وحركة الضباط الأحرار. هل هذا الكلام يعني أن المعارضة لم تكن قوية قبل هذا التاريخ؟ لا طبعًا، فالمعارضة الوطنية الأردنية كانت نشطة منذ نشوء الدولة، لكن مفهوم السجن السياسي هو الحديث.

يَذكر عودة القسوس في مذكراته أنه إبان فشل ثورة البلقاء عام 1923، اعتقلت السلطات المثقفين الداعمين للثورة، مثل الشاعر عرار (مصطفى وهبي التل) وشمس الدين سامي والقسوس نفسه، وأُودعوا في سجن معان، فما كان من أهالي مدينة معان إلا أن اعتبروهم ضيوفًا عليهم، فقاموا بتقديم الولائم والضيافات التي كانت تتنقل من وإلى السجن. ولم يتمكن الموظفون العرب - الذين قدموا مع الأمير - من معاملتهم بوصفهم سجناء سياسيين إلا بعد نقلهم إلى الحجاز.

أما بعد الخمسينيات، فقد ظهر السجن السياسي بمفهومه الواضح، وبوصفه حقيقة لا يمكن التمرد عليها. كما ظهر سجن الجفر بوصفه شبحًا مخيفًا يطارد كل نزلائه. لكن السجن السياسي في الأردن ظل يُعامل باعتباره فندقًا إذا قيس بتجارب الدول العربية المجاورة. وفي هذا الصدد، أذكرُ أنه في إحدى مناقشات رواية أيمن العتوم "يا صاحبي السجن"، التي تدور في تسعينيات القرن الماضي، طرحت فتاة على الكاتب سؤالًا مضمونه "ستة شهور في السجن ولم تُضرب كفًا واحدًا، وتأتي لتكتب لنا رواية طويلة عن معاناتك!". 

بالطبع، ليس من حق أي أحد أن يحتجز حريتك وإن عاملك بشكل جيد، لكننا نتناول هذا المثال في إطار المقارنة. أمّا في رواية "القط الذي علّمني الطيران" التي تدور في سبعينيات القرن العشرين، فإنّ ظروف الاعتقال في مرحلة ما قبل المحاكمة أسوأ بكثير من ظروف العتوم، إذ يحضر الشَّبْح والضرب والتعليق وكل أساليب استدعاء الألم في سبيل انتزاع الاعتراف من المُعتَقل، الأمر الذي يُعطينا فكرة حول كيف كانت تجري الأمور في زمن الأحكام العرفية، وقبل الانفتاح الديمقراطي عام 1989. 

الملفت في تجربة هاشم غرايبة أنه أعاد كتابة روايته وإخراجها في شكل سيرة ذاتية تحت اسم "سنة واحدة تكفي" (هاشيت أنطوان - نوفل، 2019)، ممّا يُتيح للقارئ استشفاف الحدود الفاصلة بين ما هو سيريّ وبين الإضافات والتفاصيل التي تفرضها الشروط الفنيّة للرواية. وهو السبب الذي دفعني إلى قراءة سيرة غرايبة، على الرغم من أنني قرأتُ روايته المشابهة لها وقت صدورها.

كتاب سنة واحدة تكفي
غلاف كتاب "سنة واحدة تكفي" (نوفل/ ميغازين)

وهناك ثلاثة اعتبارات حفّزتني لذلك، وهي أولًا: التجربة الطويلة التي قضاها في السجن بسبب انتمائه السياسي إلى الحزب الشيوعي الأردني. وثانيًا: لأنه كتب عن تجربته في رواية "القط الذي علّمني الطيران"، ومن ثم أعاد كتابة هذه التجربة - وهذا هو الاعتبار الثالث - في كتابه "سنة واحدة تكفي"، وهو كتاب سيرة ذاتية عن تجربة السجن. 

ولأنّ الكتاب الثاني يتشابه إلى حد كبير مع الكتاب الأول في المواضيع والشخصيات والأحداث، فإن هذا التشابه يتيح لنا تتبع الفروقات والحدود الفاصلة بين ما كانت عليه السيرة (أو ما يريد الكاتب تقديمه لنا على أنه سيرة)، وبين ما فرضته الرواية وقيودها الفنية (أو تلك الحواجز والأقنعة التي أراد الكاتب التخفي خلفها). حتى وإن صنّف غرايبة كتابه تحت مسمى "سيرة ذاتية"، فإنه لم يخرج عن تقاليد الفن الروائي، إذ يمكن لأي قارئ عادي أن يميز أنه ظل يدور في فلك الرواية.

الفرق الحاصل بين الرواية والسيرة، أو بين ما هو خيال وبين ما هو سيرة، يكمن في أننا في الرواية نتعامل مع الأحداث والشخصيات والأماكن بوصفها قادمة من عالم الخيال، وهو خيال يستوحي الحقيقة والتجربة التي عاشها الكاتب في السجن، ونحن لا نعرف ما هو حقيقي في هذا الخيال الإبداعي باستثناء المعلومات التي يسرّبها لنا الكاتب في مقابلاته واعترافاته لخاصته.

أما في السيرة، فإننا نتعامل مع الأحداث والشخصيات والأماكن بوصفها قادمة من عالم الحقيقة والتجربة، باستثناء تلك المعلومات التي يُسرُّ بها الكاتب في مقابلاته واعترافاته بأنه عدلها أو حرّفها أو غيّرها لاعتبارات خاصة.

وهو فرق يقع، غالبًا، خارج اهتمام الدراسات النقدية، غير أن ما حصل في حالة هاشم غرايبة أنه أعاد صياغة الرواية مرة أخرى بعد أن فكك الإطار والإضافات الخيالية، التي كانت تُلاصق الرواية وأعاد إنتاجها لنا في شكل سيرة ذاتية. وهو ما أتاح للقارئ التفريق بين حدود السيرة وحدود التخييل، وسمح له بالتعامل مع العالم الذي رآه ضمن دائرة الخيال في "القط الذي علمني الطيران" على أنّه ضمن دائرة الحقيقة، وأن يعيد التعاطي مع الشخصيات والأحداث والأماكن ضمن منطق استعادة التجربة التي حدثت على أرض الواقع، وهذا ما سنفعله في هذه الورقة.

دمج غرايبة الفصول الكثيرة في الرواية في ثلاثة فصول، وهي على التوالي: "صعود الجلجلة"، و"الوشم تحت الجلد"، و"كهف الأخيار". كما غيّر أسماء بعض الشخصيات، فالبطل عماد أصبح هو هاشم غرايبة، وحسن حمل اسم سامي.. وهكذا. إضافةً إلى أنه غير في مصير بعض الشخصيات نازعًا عنها المصائر المتخيلة لصالح المصائر الحقيقية. فسعيد القط البطل، المساند الذي جاءت الرواية حاملة اسمه، والذي يموت دهسًا وهو يحاول الهروب من السجن في الرواية، لأغراض فنية؛ سيعيش في السيرة ويخرج من السجن بسبب انتهاء مدة المحكومية وليس الهرب. 

أما التغيير الأبرز، فيكمن في تغيير نمط السرد في الفصلين الأوّل والثّالث من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. فالكاتب يُسند إلى نفسه مسؤولية الكلام بعد أن كان الكلام عنه يتم في دائرة الضمير الغائب، حيث ينتقل من خط الدفاع والتخفي خلف الشخصيات إلى خط المواجهة ونسبة الأفعال إلى هذه الأنا، التي كان يحرص على إخفائها. 

لقد قضى هاشم غرايبة عشر سنوات في السجن بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي وممارسة العمل السياسي المناهض للدولة، لكن هذا الكتاب مخصص للسنة الأولى التي قضاها في سجن السرايا في إربد مع المجرمين والنصّابين والقتلة، قبل أن يُنقل إلى سجن المحطة في عمّان إلى جانب زملائه السياسيين، وهذا يفسر عنوان الكتاب "سنة واحدة تكفي". 

أما نقاط الالتقاء بين السيرة والرواية فهي كثيرة، فالسيرة ظلّت ترتكز على - إضافة إلى تشابه الأحداث - الثنائيات نفسها التي تحكم بنية الرواية، وهذه الثنائيات هي، أولًا، المكاشفة والصدق؛ من يقرأ مذكرات المعتقلين السياسيين يجد فيها كمًا كبيرًا من البطولات والمعارك التي يظهر فيها المعتقل في مظهر المقاتل الشرس، بيد أن هاشم غرايبة يقدّم لنا نفسه صادقة من غير تزيين أو بهرجة، فهو يقدم لنا هاشم الخائف والمتردّد بين الصمود والاستسلام.

لقد قضى هاشم غرايبة عشر سنوات من حياته في السجن، بينما كان بإمكانه الخروج في أي لحظة يشاء بمجرد توقيعه على ورقة من سطرين، يستنكر فيهما الحزب ويعلن ولاءه للحكومة الرشيدة. فهو، كما كان يُردد الناس في قريته حوارة، "مفتاح سجنه بيده". 

لكنه أثقل مفتاح يمكن أن يحمله الإنسان، وبدلًا من أن يستعرض علينا بطولاته وموقفه الصامد، نجده يستعرض لنا منولوجًا داخليًا طويلًا من التردد والحيرة بين الرغبة في الصمود على الموقف والمواجهة مع الخصم، وبين الرغبة في العودة إلى البيت وحضن الأم وإلى الجامعة وعيش الحياة الطبيعية.

وإبان هذا التردد، يكتب النزيل الشيوعي ورقة الاستنكار ويضعها في جيبه ويظل حائرًا مترددًا، يحول ظرف أو جملة يسمعها من سجين أو حدث دون تسليم هذه الورقة. فحينما ينوي الاستسلام - على سبيل المثال - تحت ضغط الألم الشديد أثناء جولة التعذيب الأخيرة في دائرة المخابرات يفقد وعيه، ليستيقظ ويجد نفسه مرحّلًا إلى السجن. وهكذا دواليك حتى يُقرر الصمود وعدم الاستسلام بعد عام من الصراع الداخلي. وهو حينما يقود تمردًا داخل السجن للمطالبة بتمديد فترة التشميس، يصف لنا داخله الخائف المرتجف وكيف تولّد التمرد من داخل هذا الارتباك، حتى ينجح التمرد في تحقيق مطالب المساجين.

ثانيًا، ثنائية الذات والآخر؛ وتبرز فكرة إنكار الذات لصالح الآخرين واضحةً وعميقة في الكتاب. فعلى الرغم من أن الكتاب مصنّف سيرة ذاتية، لكن الكاتب قد أفرد مساحات كافية لشخصيات أخرى في كتابه، فقدّم المساجين الذين رافقهم في السجن بوصفهم بشرًا يُخطئون لا بوصفهم مجرمين مُدانين.

القط الذي علمني الطيران
غلاف رواية "القط الذي علمني الطيران" (ميغازين)

كما أنه أفسح لهم المجال لتبرير الظروف والأسباب التي أوصلتهم إلى السجن، ويُصغي إلى اهتماماتهم وقصصهم الصغيرة ومشاجراتهم ويشارك بها، بل إنه قدّم سعيد القط (اللص) في إطار فلسفي مرح وبعيد عن التكلف ويخلو من تحميل الشخصية ما لا تحتمله. وهذا ينطبق على كل الشخصيات التي تعرفنا إليها في الكتاب: عساف ابن عمه خفيف الظل والنصاب والمخبر لدى إدارة السجن، والختيار والشكيك وكناري والمهندس...إلخ. 

ويتجلى إنكار الذات في إطارين: إطار الذات الشخصية وإطار الذات الجمعية المتمثلة في الحزب. فالذات الشخصية تغيب أمام أشخاص طحنتهم الحياة وعجنتهم الظروف ودفعتهم إلى ارتكاب الجريمة، والحزب الذي يطالب بالعدالة الاجتماعية يتضاءل أمام غياب العدالة الاجتماعية الذي ألقى بهؤلاء في هذه الطريق، كما يغيب أمام قدرة هذه العصبة من البشر الخطّائين على التضامن والصمود أكثر من النخب المثقفة والأحزاب المقموعة.

ثالثًا، ثنائية الداخل والخارج؛ فالإنسان خارج السجن يحمل اسمه الذي ولد معه ويحمل اسم عائلته وعشيرته. أما في السجن، فهو يولد باسم جديد يمثل الصفة الأبرز في السجين. فسعيد الحرامي يُسمّى "القط"، وشارب الخمر "أبو القناني"، وصاحب قضايا الشيكات بـ"الشكّيك"، والسجين السياسي بـ"الرفيق"، وهكذا دواليك. 

في الخارج، يُعلن الإنسان عن نفسه بالمناصب والأموال وباحترام الناس له، أما في الداخل فيلجأ الإنسان المهمش الذي يقبع داخل السجين إلى أساليب مختلفة لإثبات نفسه وتعزيز حضورها، فيحضر الوشم والتشطيب بالشفرات - سواء تشطيب جسده أو جسد الآخرين. ففي السجن يتباهى السجين "بهذه الشطوب والندوب كما يتباهى بالوشم.. فهي رمز السيطرة على الذات، وتنقذ الروح من الشعور بالقهر. لعلها رمز امتلاك مساحة من الحرية. رمز القوة. لقد نجحت أجيال من المساجين في انتزاع هذا الهامش، وتكريس طقوسه في عقد غير مكتوب بين الحاكم والمحكوم" (ص 120).

يرسم هاشم غرايبة هوية المكان/السجن (الداخل) بدقة وحرفية، موضّحًا التفاصيل الدقيقة ومعطيًا أهمية للأشياء الصغيرة التي قد لا تلفت الانتباه خارج السجن. أما الخارج الذي يعرفه هاشم جيدًا بوصفه ابن قرية حوّارة، وابن مدينة إربد، يعرف حاراتها وشوارعها، فإنه ينظر إليها من شباك السجن. 

من خلال هذه الثنائيات، استطاع هاشم أن يستعيد من نفسه السجينَ، فيبني عالم السجن ويستذكره ويستعيد الحياة التي كانت فيه إذ يتفاعل الإنسان مع المكان، هذا المكان/السجن (سرايا إربد) الذي سيصبح متحفًا ثقافيًا تُقام فيه الفعاليات الثقافية، والتي سيصبح الرفيق، لاحقًا، مسؤولًا عن إدارة الكثير منها.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

رواية "خيانات لم يرتكبها أحد".. تيه الواقع السوري عبر ثلاثة أجيال

عن رواية خيانات لم يرتكبها أحد لمحمد ديبو الصادرة عام 2025

2

"حادثة عيش السرايا" لحمور زيادة.. مساخر مدينة مجهولة في بلاد منسية

حمور زيادة الروائي السوداني البارز في روايته الرابعة "حادثة عيش السرايا وما يتعلق بها من وقائع مُسلية"، موقعها في مسيرته الأدبية، وحمولاتها السياسية والاجتماعية إزاء الواقع السوداني

3

"أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل".. مرآةُ ذاتٍ قلقة في مواجهة العالم

قراءة في المجموعة الشعرية أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل، للشاعر السوري حسين الضاهر

4

كتاب "مرويّات الحرب.. فوكوياما يسقط في غزة": تاريخ يولد من بين الأنقاض

تكتب بيسان عدوان روايتها عن الحرب كما تُعاش لا كما تُحلّل. ففي مرويات الحرب: فوكوياما يسقط في غزة، تقول إن التاريخ لا ينتهي، بل يولد من جديد كل يوم من بين الأنقاض

5

"ملحمة الحرافيش".. تأملات في الخلاص المؤجّل

حارة الحرافيش مصرية حدّ النخاع، بتعطل الزمن فيها، بأسماء قاطنيها وجبّاناتها وقرافاتها وتكايا متصوفة مجهولين

اقرأ/ي أيضًا

خيانات لم يرتكبها أحد لمحمد ديبو (ميغازين).

رواية "خيانات لم يرتكبها أحد".. تيه الواقع السوري عبر ثلاثة أجيال

عن رواية خيانات لم يرتكبها أحد لمحمد ديبو الصادرة عام 2025

علي جازو

حادثة عيش السرايا للروائي حمور زيادة (ميغازين).

"حادثة عيش السرايا" لحمور زيادة.. مساخر مدينة مجهولة في بلاد منسية

حمور زيادة الروائي السوداني البارز في روايته الرابعة "حادثة عيش السرايا وما يتعلق بها من وقائع مُسلية"، موقعها في مسيرته الأدبية، وحمولاتها السياسية والاجتماعية إزاء الواقع السوداني

حسام هلالي

أعلق الشوارع على حبل منتصف الليل لحسين الضاهر

"أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل".. مرآةُ ذاتٍ قلقة في مواجهة العالم

قراءة في المجموعة الشعرية أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل، للشاعر السوري حسين الضاهر

دلال إسحق