لطالما ارتبط اسم الروائي اللبناني إلياس خوري بالقضية الفلسطينية، ليس من موقع التضامن العابر، بل من خلال مشروع أدبي روائي متكامل سعى عبره، على مدى عقود، إلى إعادة سرد تجربة الشعب الفلسطيني بكل أبعادها: التاريخية، والمعيشة، والرمزية. لم يكن حضوره في هذا السياق طارئًا أو شكليًا، بل نابعًا من قناعة فكرية وأخلاقية بأن الرواية يمكن أن تكون وسيلة مقاومة، ومنصة لإعادة الاعتبار للمنسي والمهمّش."
يملك خوري قدرةً استثنائية على ربط الأدب بالتاريخ، ويستعين بالرواية كأداةٍ لفهم وتحليل الواقع الفلسطيني. فهو لا يعرض التاريخ كوقائع ثابتةٍ، بل ينسج خيوطه داخل مساحاته الروائية التي يهدف من خلالها إلى إعادة بناء الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني الذي فقد أرضه. ويعمل في رواياته مثل "باب الشمس" وثلاثية "أولاد الغيتو" على إعادة خلق تجربة النكبة واللجوء، ويعرضها كجزءٍ من تاريخ مستمرّ يُعاد تجسيده من خلال الأدب.
يأتي كتاب خوري "النكبة المستمرة" امتدادًا لهذا المشروع الأدبي، الهادف إلى إعادة الاعتبار للنكبة كحدثٍ مستمرّ، ويقدّم مجموعة من القراءات للنكبة الفلسطينية، منطلقًا من فرضية أنّ النكبة لم تنتهِ عام 1948، بل هي مسارٌ متواصلٌ لم يتوقّف منذ تلك السنة، لا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا، وكما هي مستمرّة، فإن مُقاومتها مستمرّة أيضًا.
يتكوّن الكتاب من مجموعة محاضرات ودراسات كتبها إلياس خوري بين عامي 2000 و2023، نُشِر معظمها في مجلة الدراسات الفلسطينية، باستثناء مقالتين نُشِرتا في منابر ثقافية أخرى.
يتناوَل هذا المقال أبرز أطروحات خوري في الكتاب، والتي نظّر فيها للنكبة كحدثٍ مستمرّ، مؤكدًا أنّ الهزائم العربية التي أعقبتها كانت نتيجة خللٍ معرفي في مقاربتها على المستوى العربي، ومركّزًا على أنّ القراءة الصحيحة لها، فلسطينيًا وعربيًا، تُشكّل مدخلًا ضروريًا لفهم البنية المعرفية للعقلية الإسرائيلية، التي لا تستوعب وجود الفلسطيني إلا بوصفه نقيضًا يجب محوُه. فحضوره في هذه العقلية لا يُقرأ إلا من خلال غيابه، ولا يُعترَف به إلا كعنصرٍ زائدٍ ينبغي استبعاده من سردية المكان والتاريخ.
النكبة كحدث مستمرّ: تفكيك المفهوم وإعادة تأطيره
يُشير خوري إلى أنّ المؤرّخ السوري قسطنطين زريق هو أوّل من صاغ تعبير "النكبة" لوصف كارثة عام 1948، وذلك في كتيّبٍ صغير نشره في العام ذاته، قبل أن تنتهي الحرب في فلسطين، بعنوان "معنى النكبة".
مَنحَ زريق "النكبة" اسمها الرسمي، فصار عصيًّا على الترجمة، ودخل في نسيج اللغات كافة. وقد رأى في قيام دولة "إسرائيل" التحدّي الأخطر الذي واجه العالم العربي في القرن العشرين.
اعتمد زريق خطابًا ثقافيًا حثّ فيه النخب العربية على إدراك فداحة ما جرى، ودعاهم إلى سلوك الحداثة والعقلانية سبيلين وحيدين لمواجهة النكبة، من خلال تغييرات جذرية تمسّ كلّ ميادين الحياة العربية.
ينتقد خوري في كتابه أطروحات زريق حول النكبة، ويبني نقده انطلاقًا من مسألتين: الأول؛ تعاطيه مع النكبة باعتبارها نتاج التخلّف الذي ينبغي استبداله بالحداثة والعقلانية، والثانية، اعتباره النكبة حدثًا تاريخيًا وقع مرة واحدة عام 1948، ومطالبته الأمّة العربية بإيجاد ردّ ملائم على هذا الحدث.
يرى صاحب الكتاب، أنّ الخطأ الذي وقع فيه زريق في تحليله للنكبة هو أنّه افترض أنها لحظة تاريخية حدثت وانتهت، وأنّ الفلسطينيين والعرب سيبدؤون بعدها يقظتهم الفكرية للمواجهة. فزريق -بحسب خوري- لم يأخذ في الاعتبار أنّ الانتصار الصهيوني لم يكن نهاية العملية، بل بدايتها.
يُناقض خوري في كتابه تنظيرات زريق، ويرى أنّ النكبة ليست تاريخًا يجب تذكّره، بل مسارًا مستمرًا منذ عام 1948. كما يرسم مخطّطًا أوليًا لصفحات النكبة التي تتابعت بعد الطرد الكبير، وصولًا إلى الفصل العنصري والمستعمرات في الضفة الغربية، وحصار غزة، وطرد أهالي القدس، أي إلى اللحظة التي سبقت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
يتضمن المخطط الذي رسمه خوري العناصر التالية:
- مصادرة الأراضي التي استمرّت بعد نهاية حرب عام 1948، وخضوع الفلسطينيين في أراضي الداخل لحكم عسكري إسرائيلي استمرّ حتى عام 1965، وتكريس وضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية في "إسرائيل" التي تدّعي أنها دولة ديمقراطية يهودية.
- صيد "المتسللين" من الفلاحين الفلسطينيين الذين حاولوا اجتياز الحدود بعد طردهم، إمّا للعودة إلى بيوتهم، أو لحصاد محاصيلهم الزراعية.
- المخيمات الفلسطينية ببنيتها التي تمزج بين الضواحي الفقيرة وبنية الغيتو، والقمع الذي عانى منه الفلسطينيون المقيمون فيها، في مختلف الأقطار العربية، سياسيًا واجتماعيًا.
- احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وما رافقه من مصادرة أراضٍ، وبناء مستعمرات، وحصار، وإغلاق، وقمع منظّم، والذي يُعتبر استكمالًا لحرب 1948، وصولًا إلى لحظة الانسحاب من غزة، الذي تحوّل إلى وسيلة لخلق غيتو فلسطيني مغلق بالنار والحصار.
- مذابح المخيمات الفلسطينية من الأردن (1970)، مرورًا بلبنان؛ مذبحة تل الزعتر (1976) وصبرا وشاتيلا (1982)، وصولًا إلى الانتفاضة الثانية ومجزرة مخيم جنين (2002).
يمتلئ هذا المخطط الأولي بحكايات الألم الفلسطيني، التي تقول إنّ النكبة ليست مجرّد ذاكرة، بل هي حاضر مستمرّ لم يتوقّف منذ عام 1948. ولعلّ حرب الإبادة التي بدأت في غزة عام 2023، وامتدت -بطابع مختلف- إلى الضفة الغربية، تُمثّل نقطة إضافية في المخطط الذي بدأه خوري، لكنّها نقطة فارقة، لأنّها تؤكّد فرضيّته، وتُعيد النكبة إلى الوعي الفلسطيني في صورتها الأكثر وحشية، كأفعال تطهير عرقيّ هدفها المحو والإلغاء.
نكسة القراءة: كيف عمّق العرب جراح النكبة؟
يُرجِع خوري استمرار النكبة إلى فشل القراءة العربية لها، مؤكدًا أنّها لم تكن فقط نتيجة سياسات إسرائيلية براغماتية، بل أيضًا نتيجة تواطؤٍ أو فشلٍ في النظام العربي.
يربط خوري بين النكبة وهزيمة حزيران/ يونيو 1967، مشيرًا إلى أن العقل القومي العربي أخطأ حين قرأ النكبة كمحطة أخيرة في المشروع الصهيوني، فقادته تلك القراءة إلى انقلابات عسكرية لم تُنتج سوى مزيد من الهزائم.
يعترض خوري على لفظة "النكسة" التي استخدمها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في خطاب استقالته التي ألقاها في التاسع من حزيران/ يونيو 1967، كي يصف الهزيمة المروعة التي منيَ بها الجيش المصري في حرب حزيران/ يونيو، ويؤكّد خوري بأنّ محمد حسنين هيكل -الذي صاغ خطاب الاستقالة لعبد الناصر- تعمّد استخدام عبارة نكسة بمعناها الشائع ككبوة تعثّر لا تمسّ البنية السائدة، فهي هنا نكبة مخفّفة يستطيع البطل (عبد الناصر) إخراج الشعب المصري من مأزقها، إذا ما أعطي تفويضًا جديدًا من الشعب، فكأنّ ناصر تلافى في خطابه الكلام على الهزيمة، كي لا يجد نفسه في مواجهة إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي المصري.
ينتقد خوري لجوءَ العرب إلى استخدام مصطلح "النكسة" للتقليل من وقع هزيمة الجيوش العربية، والإيحاء بأنها لم تُهزَم بل انسحبت إلى "خطّ الدفاع الثاني"، كما ورد في البلاغات العسكرية آنذاك. ويمتدّ نقده ليطال تأويل عدد من المثقفين العرب لهذا المصطلح، إذ لم يتوقّفوا عند دلالاته العميقة، ولم يقرؤوا الهزيمة كما هي، باعتبارها مفصلًا تاريخيًا أتاح للنكبة المستمرّة، التي بدأت في فلسطين عام 1948، أن تأخذ مسارًا جديدًا، وتكتسح ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، بل وتتمدّد تداعياتها إلى حالة التفكك والانهيار، وتصاعد القمع الذي تشهده المجتمعات العربية في عموم المشرق.
التغييب بعد النكبة: محو الفلسطيني من الأرض والرواية
يفنّد خوري السردية التي تبنّتها الصهيونية منذ النكبة بشأن فلسطين، وهي سردية اتخذت من تغييب الفلسطيني وسيلة لنفيه وإلغائه وتبرير المجازر والانتهاكات التي تُرتكب بحقّه؛ فالفلسطيني يغيب عن السردية الصهيونية باعتباره صاحب الأرض الأصلي، ولا يحضر إلا في صورة سلبية: الشرقي، الدوني، المنحط، المتوحش.
يتبنّى خوري مقولة إدوارد سعيد التي وصف فيها الصراع بين الفلسطينيين والصهيونية بأنّه "صراع بين حضور وتأويل"، ويؤكّد أن التأويل الصهيوني للحضور الفلسطيني لم يخرج يومًا عن إطار التغييب. فالفلسطيني – في هذه السردية – إمّا لاجئ يطفو على سطح التاريخ كذكرى غامضة، أو "عائق ديموغرافي" لا بدّ من تجاوزه.
يورد صاحب "النكبة المستمرّة" أن ممارسات الصهيونية في تغييب الحضور الفلسطيني تتجلّى في أعمال "التبييض الأخضر" التي قامت بها "إسرائيل" بعد النكبة، والتي هدفت إلى محو أثر القرى الفلسطينية التي هُدمت عام 1948، من خلال زراعة الغابات الكثيفة التي طمست، بخضارها، علامات المكان وأدلّتِه.
ويؤكد أن هذا التغييب تجلّى أيضًا في المعجمية الصهيونية التي سعت إلى استبدال كل ما هو فلسطيني بآخر إسرائيلي، فـ"فلسطين" استُبدلت بـ"أرض إسرائيل"، كما بُذل جهد كبير – بعد تأسيس الدولة – في تغيير أسماء الأماكن الفلسطينية إلى أسماء عبرية وتوراتية. وبعد هزيمة حزيران، أُطلق اسم "يهودا والسامرة" على الضفة الغربية المحتلّة.
يرى خوري أن النكبة وأعمال التطهير العرقي ضد الفلسطينيين التي رافقتها لم تكن نهاية حلقة تغييب الحضور الفلسطيني، بل كانت بدايتها. فقد امتدّ هذا التغييب بعد النكبة، وتجلّى في المجازر الإسرائيلية المتتالية بحق الفلسطينيين، أو في التهديدات العلنية بإبادتهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، التصريحات الصادمة للمؤرخ الإسرائيلي الجديد، بني موريس، الذي برّر في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" (9 كانون الثاني/ يناير 2004) أعمال الطرد التي جرت عام 1948، قائلًا:
"لا أعتقد أنّ الطرد الذي جرى في سنة 1948 كان جريمة حرب، فأنتَ لا تستطيع إعداد العجة دون تكسير البيض، عليكَ أن توسّخ يديك.. إن مجتمعًا يسعى لتدميرك يُجبرك على تدميره. وعندما يكون الخيار بين أن تُدمَّر أو تدمِّر، فإنّ الأفضل أن تكون أنتَ من يُدمِّر".
وليس خطاب بني موريس استثناءً، بل هو امتداد لنهج سردي تتبناه الأوساط الإسرائيلية في تبرير تغييب الفلسطينيين بالمحو والإبادة. ويكفي استحضار تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، في بداية حرب الإبادة على غزة عام 2023، حين وصف الفلسطينيين في غزة بأنّهم "حيوانات بشرية"، لفَهْم كيفية استخدام السرديات العنصرية كمبرّر للقتل الجماعي.
سؤال النكبة في مواجهة صمم العالم
يكتب خوري في كتابه "النكبة المستمرة" عن الألم الفلسطيني الذي بدأ عام 1948 ولم يتوقّف. يرصد هذا الألم في تتابعه وتكراره، وكأنه جرح لا يندمل، يتجدّد مع كل لحظة، ويحفر في ذاكرة الشعب الفلسطيني حكايات لا تنتهي.
وفي قلب هذا الألم، يطرح إلياس خوري سؤالًا يتكرّر: "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟" لكنّه لا يوجّهه إلى الفلسطينيين، بل إلى العالم الذي يكتفي بمشاهدة مأساتهم بصمت. يتساءل: ماذا لو دقّ الفلسطينيون جدران الخزّان، وكان العالم من حولهم أصمًّا؟ أفيكون الخلل في صمت الضحية، أم في صمم المحيط؟