تُشاد الإمبراطوريات على قبور الأبرياء، وتنتشي بأصوات المعذبين واحتضاراتهم. لا يمكن لأي إمبراطورية أن تكون نبيلة، مهما ادعت ذلك. هي تدرك أنها آلة قتل فتاكة، ولكنها تصنع حول نفسها هالة من القداسة عبر شعارات براقة عن الحرية وحقوق الإنسان، وحتى حقوق الحيوان.
يدوّن جوزيف كونراد، البولوني المولد والبريطاني الجنسية، في روايته "قلب الظلام" الجشع الكولونيالي في سلب خيرات الشعوب، والهوس في استعباد الآخرين وإذلالهم وحتى الاستمتاع بقتلهم.
تدور الرواية حول بحار إنجليزي طموح، الكابتن مارلو، كُلف من قِبَل شركة تجارية بريطانية للقيام برحلات بهدف تجارة العاج بين المحطات المختلفة على طول نهر الكونغو. إحدى هذه الرحلات هي استعادة وكيل الشركة الخطير وغريب الأطوار، السيد كورتز، الذي أصبح معبودًا لدى إحدى القبائل. وتبدأ أحداث مرعبة وجنونية.
كورتز هو وكيل شركة بريطانية عابرة للقارات، وصل إلى أفريقيا كي يرسل العاج إلى بلده. ولكن في مقابل كل ناب فيل، كانت تُزهق أرواح وتعذب أخرى وتغتصب ثالثة. ورغم هذا، فقد كانت الحرية والتقدم ذريعتين لسحق هذه القارة وسرقتها واستعباد أهلها.
ظلام القلب الإنكليزي
"قلب الظلام" هي رحلة البحار مارلو، من ظلام القلب الإنكليزي، إلى قلب الظلام في القارة الأفريقية، إلى الكونغو. يتحدث مارلو عن تجربته الفريدة، من خلال قيادته لمركب بخاري من نهر التايمز إلى قلب القارة السوداء. بريطانيا هي حاملة المُثل الكبرى: الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحريات. هذا ما يروج له قادة البلد، ولكن هذه الرحلة أثبتت نفاق تلك الإمبراطورية. فهي لم تحمل إلى العالم سوى "الرعب" وهي الكلمة التي رددها العميل "كورتز" مرتين وهو يحتضر. إنها الكلمة الأخيرة التي نطقها، وأدخلت الرعب إلى قلب مارلو. وقد خرجت هذه الكلمة "الرعب" من فمه وهو في قلب الغابة اللامتناهية، بصوت خافت لا يكاد يُسمع، ولكنها هزت أركان القارة الأوروبية، حين دوّنها كونراد في كتابه.
يذكر مارلو أن أصحاب البلد الأصليين ليسوا سوى كائنات مسخّرة لخدمة الأبيض، وهم يدفعون حياتهم أحيانًا مقابل كلمة أو تبرم ما، أو لعجزهم عن القيام بالخدمة القاسية أثناء مرضهم. هذا هو الأبيض الذي لا يمكن أن تبرر أفعاله كما يرى كونراد، ولا يمكن لروديارد كيبلينغ أن يقنع أحدًا بعد الآن بأن العالم المتحضر، ينتصر في احتلاله للبلاد الأخرى (الهمجية).
اعتُبر كونراد من أوائل من تكلموا عن اللاإنسانية والعنف المطبقيْن من الكولونيالية على البلاد الأخرى المسالمة. وقد طرح المسألة بقوة وجرأة، وشرّح الواقع الكولونيالي المرعب، وحظيت "قلب الظلام" باهتمام العالم أجمع، وخصوصًا الأكاديميات الغربية، وعُدّت أفضل عمل يعرّي الواقع الاستعماري. وأصبح كونراد، بفضلها، علمًا بارزًا، فَتَح الطريق أمام هذه الكتابات، وأطلق صرخة مدوية، سمعتها آذان من لم يطيقوا، أو لم يرغبوا في سماعها: أنتم مجرمون وقتلة ولصوص.
قارة مسالمة، وأصحابها نحيلون وسود، يُقتلون فقط من أجل "العاج". يا للهول! هل يمكن لدولة تدعي الديمقراطية أن تحمل هذا الإثم؟ هل يمكن لها أن تعدّ هذا العمل تحريرًا لهذه البلدان وتطويرًا لها وإنقاذها من الهمجية؟
تدمير الوطنيات
وبهذا العمل الكبير يستشرف كونراد المستقبل، ويرى الظلام الذي يملأ بريطانيا، متوقعًا أن ترزح هذه الإمبراطورية تحت وطأة العنف والكرْهِ والأزمات الاقتصادية في المستقبل. وفي أعماله الأخرى، تنبأ أيضًا بما سيجري في العالم من كوارث، واضطرابات سياسية وهجرة، ستقود إلى أزمات خطيرة. كان كونراد يرى الحاضر، يرى العالم المعولَم، يتخبط في دمائه، ويرى أيضًا إلى أي مدى سيصل الإرهاب، الذي كان نتيجة لسياسات الإمبراطوريات. ويرى كذلك صعود أمريكا والرأسمالية متعدية الجنسيات والعابرة للدول والمستعدة لتدمير الوطنيات وإعادة تصنيعها حسب رؤيتها الجديدة والمتحولة. أي أنها تقوم بالتدمير وإعادة الصياغة كل حين، ولا تهمها أنهار الدماء التي تجري في شوارع العالم. كما في رواية "نوسترومو" و"العميل السري". وها هو أحد أقطاب الصناعة الكبرى في سان فرانسيسكو يقول: "علينا أن نمسك بزمام الأسواق والتجارة في العالم، شاء هذا العالم أو أبى". كان هذا الكلام قبل ما يزيد عن مائة عام، وهو يحصل، وبعنف شديد، وقسوة لا مثيل لها.
لا يعني حصول كونراد على الجنسية البريطانية، أنه استسلم لما يجري، وضعف أمام الإغراءات التي يمكن أن تقدم له، وهو المهاجر البولوني؛ بل كان القلم الجريء في التعبير عن مشكلة البريطانيين في عدم قدرتهم على الاندماج مع غيرهم من الشعوب. وقد كتب كونراد قصة بعنوان "إيمي فوستر" عن هذا الجانب من العزلة والفوقية التي يعيشها البريطاني.
كونراد المتنبئ
إلى جانب ذلك كله، فإن مصير كورتز- وهو الموظف المسؤول عن جمع العاج في الكونغو وإرساله إلى بريطانيا –كان مخزيًا، وهو تنبؤ كونرادي بحالة بريطانيا في مستعمراتها الكثيرة، والتي خرجت منها بخزي وعار شديدين، كما حدث معها في الهند وفي إفريقيا. إضافة إلى أن كورتز، الذي تحول إلى أسطورة، قد أصبح عاجزًا عن الحركة، ومات وهو متخم بالرعب. وهو تنبؤ آخر من كونراد حول مصير هذا العنف البريطاني ضد سكان البلد الأصليين. ويقول مارلو واصفًا كورتز: "كان يتمتع بقوةِ وسحرِ وإخافة الأرواح البدائية برقصتها الساحرة الأشد خطورة التي تقام على شرفه".
والمشكلة الكبرى، والتي رآها كونراد، هي أن الطبقة المهيمنة في بريطانيا لن تكون قادرة على الاقتناع بأن سيطرتها قد انهارت وبأن عليها أن ترى الأمور كما هي، وأنه لا حق لها في استعباد الآخرين وفي قتلهم والهيمنة على ثرواتهم. وهذا ما حدث مع مارلو، حين عاد إلى بريطانيا والتقى بأقارب كورتز وبالمسؤولين عن الشركة، ووجدهم في حالة عقلية يرثى لها. لقد انفصلوا عن واقعهم، وعن تحولات العالم الخارجي، ورفضوا أن يكونوا بشرًا كباقي البشر الذين يتقاسمون معهم هذه الأرض، مع أنهم لا يتمتعون بصفات البشر المتوازنين أو الأخلاقيين. ويقول مارلو عنهم عندما عاد إلى بريطانيا: "وجدتُ نفسي عائدًا إلى المدينة المُقفرة، مُستاءً من رؤية الناس يُسرعون في الشوارع ليسرقوا القليل من المال من بعضهم البعض، ويلتهموا طبخهم السيئ السمعة، ويرتشفوا بيرتهم الفاسدة، ويحلموا بأحلامهم التافهة والسخيفة".
ولأن كونراد يؤمن بمصير العالم المشترك، فإنه يربط نهر التايمز بنهر الكونغو، ويصلهما ببعضهما أثناء وصفه لهما في الرواية. إنه ضميره الإنساني الحي، الذي يرى أنه لا خير في المجتمع الذي يُقصي الآخرين ويرميهم على حافة الموت من أجل قليل من العاج أو الذهب.
الضمير الغائب
الضمير الإنساني لا ينحصر بقومية أو بجنسية محددة، وقد غاب هذا الضمير في كثير من الأعمال الغربية، التي تناولها إدوارد سعيد بالنقد في كتابه "الاستشراق"، وهي تبرر وترفع من شأن العنف الغربي في مقابل السلام الشرقي، معتبرةً الوحشية الاستعمارية وإعدام الحريات في مناطق نائية، تعزيزًا للحريات والديمقراطيات في العالم.
يصف كونراد عالمه الحر عبر كلمات كورتز في تقرير أرسله إلى قيادته: "يتوجب علينا أن نُظهر لأولئك (المتوحشين) طبيعة وجودنا المتفوق والخارق للطبيعة – أن نقترب منهم بقدرة توازي قدرة الله. وبتدريب بسيط لإرادتنا يمكننا ممارسة قوة عمل الخير بشكل مطلق".
وفي مقابل كلمات كورتز يحضر الضمير الكونرادي من قلب الإمبراطورية البريطانية، ولا يتوانى عن الصراخ في وجه الظلم أيًّا كان مصدره. إنه كاتب أخلاقي، تصدى للإشكاليات الناجمة عن التقدم العلمي للدول الكبرى، وواجه مشكلة العنصرية بعقل مفتوح، لم يكن أحد في زمانه قد تطرق إليها.
يقول مارلو واصفًا سكان الكونغو: "لم يكونوا غير إنسانيين". إنه يُدين الاستعمار، ويصر على أن الأوروبيين سيئون، بادعائهم المنافق أنهم "بعيدون عن ليل العصور الأولى". في السطر الأخير من الكتاب، يبدو نهر التايمز، وليس الكونغو، يقود "إلى قلب ظلام دامس".
رواية كونراد الشهيرة هذه مبنية على رحلة حقيقية للكاتب إلى الكونغو عام 1890، خلال حكم الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا المروع، وهي رحلة خيالية رائعة للعثور على رجل يُدعى كورتز فقد عقله في الأدغال الأفريقية. إنها رحلة إلى الفضاء الداخلي؛ بحث مجازي في مياه الروح البشرية العكرة. وكذلك فهي مغامرة سياسية كابوسية مرعبة داخل عقلية الاستعمار الأوروبي المظلم. ومن الممكن استخلاص مواضيع متعددة من الرواية: الإنسان في مواجهة العالم الطبيعي، الجنون في مواجهة العقل، الخير في مواجهة الشر، قضايا العِرق، الهوية، شهوة السلطة، اللغة في مواجهة ضعف اللغة.
وضَعت رواية "قلب الظلام"، الصادرة عام 1902، جوزيف كونراد في طليعة الروائيين في النصف الأول من القرن العشرين، وعدّت علامة فارقة في قرن الكلاسيكيات الكبرى، حتى إنها تفوقت على كل إرثه الأدبي الهام. وقال الناقد هارولد بلوم إن رواية "قلب الظلام" خضعت للتحليل أكثر من أي عمل أدبي آخر "يُدرَّس في الجامعات والكليات".