نحتاج في عالمنا العربي إلى الكتب الببليوغرافية التي تضيء على نحو شامل تجربة أحد المبدعين الكبار، خاصةً بالنسبة إلى القراء الجدد الذين يتلمسون الطريق نحو المعرفة بكاتب أو شاعر أو رسامٍ ما، على سبيل المثال.
وعلى الرغم من أنه لا غنى عن الدراسات المتعمقة المستفيضة التي تتناول عوالم هؤلاء المبدعين على نحو عميق، وتحللها انطلاقًا من أوجه مختلفة، إلا أن الحاجة أيضًا إلى مؤلفات تتناول نتاجهم وتصنفه وترتبه، ببساطة، يظل أمرًا ضروريًا لا بد منه.
ولذلك، كانت سعادتي كبيرة بصدور الطبعة المزيدة والمنقحة من كتاب "ببليوجرافيا أمل دنقل" (مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية، 2024)، إعداد وتقديم عبلة الرويني. وهو عمل بذلت فيه مؤلفته جهدًا مضنيًا لجمع كل ما يتعلق بالشاعر الكبير من هنا وهناك، في عملية أشبه بتركيب قطع البازل.
قاموس مصّغر لشاعر كبير
تقول الرويني في مقدمة الكتاب: "لعله جهد السنوات، وجهد الباحثين الذين حرصوا جميعًا على إمدادي بكل ما نُشر لهم من كتب، ودراسات، وأبحاث، ومقالات، حول الشاعر أمل دنقل، والذين حرصوا أيضًا جميعًا على الاتصال بي، بحثًا عن إمدادهم بالمراجع الخاصة، وقوائم الكتب والدراسات الصادرة عن أمل دنقل، الأمر الذي ساهم - لا شك - في تعميق البحث والسؤال".
وتضيف في فقرة أخرى: "بتراكم المواد البحثية، والكتب، والدراسات التي أُعدت عن أمل دنقل، كان من الضروري إعادة ترتيبها وتصنيفها؛ وفقًا لتسلسل تواريخ النشر بالصحف والمجلات المصرية أو العربية، إضافةً إلى رصد الكتب والرسائل الجامعية التي صدرت حتى الآن، ووضع تلك القوائم داخل كتاب واحد يكون أمام الباحثين للاستفادة منه، والإضافة إليه أيضًا".
قضت الرويني نحو عشرين عامًا في العمل على هذه الببليوجرافيا حتى تخرج في صورتها الحالية، فقد شرعت في العمل عليها قبل وفاة أمل دنقل نفسه، وذلك من خلال جمع كل نُشر حوله والاحتفاظ به وترتيبه. وبادرت بنشر ببليوجرافيا أولية عنه عام 1990 في كتاب "أمل دنقل: كلمة تقهر الموت" عن "الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة"، ضمن قراءة لبعض النصوص غير المنشورة (أويجيني، الزيارة - مدرسة الكلمة) أنجزها د. سيد البحراوي.
وعادت بعد سنوات من تراكم المواد المتنوعة سواء في الصحف أو الدوريات أو الكتب الجديدة لتحدّث الببليوجرافيا ضمن كتاب "سفر أمل دنقل"، الصادر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" عام 2000، وهو عمل ضخم ضم كوكبة من الدراسات والكتابات النقدية حول الشاعر على امتداد أكثر من خمسين عامًا.
أما المرة الثالثة، فكانت عبر كتاب "ببليوجرافيا أمل دنقل" الصادر عن "المجلس الأعلى للثقافة" بالقاهرة عام 2004، قبل أن يتم التحديث الرابع والذي يتمثل في الكتاب بين أيدينا، حيث قامت بتحديث القائمة عبر إضافة العديد من الكتب والدراسات والمقالات والرسائل الجامعية وكذلك المواقع الإلكترونية والأنطولوجيا العربية والأجنبية. ناهيك عن إضافة ما نشره شاعرنا من نثرٍ مع إضافة بعض التواريخ في حياة الشاعر.
وقد خلصت الرويني في عملها التوثيقي إلى مجموعة من الملاحظات الثريّة، أبرزها أن جُل الدواوين الصادرة في حياة الشاعر أمل دنقل صدرت خارج مصر، "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (دار الآداب، بيروت)، و"تعليق على ما حدث" (دار العودة، بيروت)، و"مقتل القمر" (دار العودة، بيروت)، و"العهد الآتي" (دار العودة، بيروت)، و"أحاديث في غرفة مغلقة" (طرابلس، ليبيا). بينما صدرت الطبعات التالية للدواوين عبر مكتبة مدبولي بالقاهرة.

ومن الملاحظ أيضًا أن نثر الشاعر شحيح جدًا (9 مقالات منشورة خارج مصر: لندن، بيروت، السودان، الأردن). كما أن قصيدة "الجنوبي"، آخر قصائده عام 1983، تكاد أن تتطابق مع رسالته "جيل بعد جيل"، التي بعث بها إلى سهيل إدريس، والمنشورة في مجلة "الآداب" (عدد كانون الأول/ديسمبر، 1977) بمناسبة احتفالها باليوبيل الفضي، حيث يقول دنقل في نهايتها: "هل أحسب عمري بأعداد الآداب، لست وحدي في هذا، جيل كامل ظلت الآداب وجبته الشهرية الدسمة، والحبل السُري الذي يصله بالأم: العروبة. لكنني أظلمها وأظلم نفسي، لقد تكسرت أمواج هذا الجيل على صخرة الهزيمة. الحزن هو الحي الباقي. كبر ممدوح عدوان، وعلي الجندي، وحسب الشيخ جعفر، وسعدي يوسف، ومات تيسير سبول، وطأطأت الأعلام التي طالما جاهدت الآداب أن تبقى خافقة في الشمس! فأذكريهم واذكريني!".
وقد بدأ دنقل هذه الرسالة بقوله: "هل أنا ذلك الفتى الممتلئ بالحلم الواثق (اليوم أجمع شظاياه من أرضية الروح القاتمة)"، بينما يبدأ قصيدته "الجنوبي" بقوله: "هل أنا كنت طفلًا/ أم أن الذي كان طفلًا سواي/ هذه الصورة العائلية". وكذلك، فالتسجيلات الصوتية والفيلمية الوحيدة لأمل تمت داخل مصر، ويُعدّ فيلمه "حديث الغرفة رقم 8" من إخراج عطيات الأبنودي، الوثيقة السينمائية الوحيدة له.
ونعرف أيضًا أن أول كتاب صدر عن الشاعر هو "الجنوبي" من تأليف زوجته عبلة الرويني، عبر مكتبة "مدبولي" عام 1985، أي عقب رحيله بسنتين. وكذلك، فإن العدد الأكبر من الدراسات النقدية والمقالات الصحفية، التي تناولت أمل وشعره، سُطرت بأقلامٍ مصرية، وأن وجود اسمه ضمن الصحف والدوريات العربية هي الأكثر اتساعًا، وأن غالبية كُتّاب هذه المقالات والدراسات من المصريين الذين دأبوا على تصدير اسمه إلى المحيط العربي، في ظل تهميش إعلامي محلي.
ومن الملاحظات الفارقة أيضًا، بحسب الرويني، أن الشاعر قام بإجراء بعض التعديلات على قصائد الديوان التي نُشرت في دورياتٍ وصحف عربية، بالإضافة إلى تغييره لبعض عنوانين القصائد من طبعةٍ لأخرى ومن مطبوعة لأخرى. وقد أوردت العديد من الأمثلة في هذا الشأن.
محطات مضيئة لرحلة مديدة
لم تتوقف الرويني عند ما ذكرناه، بل راحت تجمع شتات رحلة أمل دنقل الحياتية والشعرية في نقاط مؤرخة، كي يستفيد منها القراء والباحثين. ونحن إذ نطالع هذه المحطات، يمكننا أن نرسم صورةً متكاملة حول سيرة الشاعر ومنجزه. فقد ولد محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل في قرية القلعة، مركز (قفط) محافظة قنا، في صعيد مصر، عام 1940.
وكان والده الشيخ فهيم أبو القاسم محارب دنقل أول رجل في القلعة يحصل على إجازة العالمية من الأزهر عام 1940. وتيمنًا بالنجاح، أطلق اسم أمل على مولوده الأول. وقد فارق والده الحياة سنة 1950، وأمل في العاشرة من عمره، لأسرة مكوّنة من أم وأخت وأخ. وذلك قبل أن يتخرج أمل في مدرسة قنا الثانوية - شعبة علوم عام 1957. وكانت أول قصيدة نُشرت له في مجلة المدرسة، باب روضة الشعر، بعنوان "بورسعيد".
وأود هنا أن أضيف تفصيلة صغيرة وردت في كتاب "أعلام الأدب العربي المعاصر: سير وسير ذاتية"، الصادر عبر المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت عام 2013، تفيد بأن هذه القصيدة قد نال عنها جائزة من دائرة التعليم في المنطقة، وهي عبارة عن رحلةٍ للمتفوقين إلى قناة السويس.
وفي العام التالي، التحق أمل بالعمل في محكمة قنا، قبل أن يسافر إلى القاهرة عام 1959. وهناك التحق بالجامعة، كلية الآداب - قسم تاريخ، لكن سرعان ما تركها في العام التالي دون أن يستكمل دراسته. وفي عام 1961، نشر أول قصيدة له بجريدة "الأهرام"، قبل أن يحصد في العام التالي جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب - فئة الشعراء الشباب، عن قصيدة "طفلتها" من الشعر العمودي.
توقف عن الكتابة سنوات عدة (1963 - 1966)، وعمل في مصلحة الجمارك بالإسكندرية قبل أن يلتحق بالعمل في مصلحة جمارك السويس، وذلك قبل أن يتقدم باستقالته ويعود إلى القاهرة من جديد. ونعرف أيضًا من كتاب "أعلام الأدب العربي المعاصر" بأنه استقال لكي يلتحق بالعمل صحافيًا في مجلة الإذاعة والتليفزيون. كما أنه بدأ في نشر قصائده الجديدة في "الأهرام"، و"الجمهورية"، و"صباح الخير"، و"روزاليوسف"، و"المجلة"، و"بناء الوطن" في مصر.
أما في العالم العربي، فقد نشرت له "الآداب". ويعد العام 1969 من الأعوام الفارقة في حياته، حيث شهد صدور ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" عن "دار الآداب، بيروت". وفي العام 1972، كتب أمل قصيدته "الكعكة الحجرية" عن مظاهرات الطلبة واعتصامهم حول النصب التذكاري بميدان التحرير. وعندها تم إغلاق مجلة "سنابل"، التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر بمحافظة كفر الشيخ، لنشرها هذه القصيدة.
والغريب أن أمل كان قد عُزل من عضوية الاتحاد الاشتراكي على الرغم من عدم تسجيله أية عضوية فيه عام 1973. وصدر له بعدها ديوان "العهد الآتي" عن "دار العودة، بيروت" عام 1975. وشهد العام التالي، كتابته لقصيدته "مقتل كُليب"، التي عُرفت باسم "لا تصالح" عقب مباحثات الكيلو 101 بين القوات المصرية والإسرائيلية.
وفي العام 1977، عمل موظفًا بمنظمة التضامن الأفروآسيوي بالقاهرة. وفي العام 1978، تزوج من الكاتبة الصحفية في جريدة الأخبار عبلة الرويني. وجاءت بداية معاناته مع المرض الخبيث في سنة 1979، ليخضع للجراحة بمستشفى العجوزة. قبل أن ينضم في العام التالي لعضوية لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، لكنه لم يواظب على حضور الاجتماعات، وخضع للجراحة للمرة الثانية.
سافر أمل بعدها إلى بيروت عام 1981، بدعوة من منظمة التحرير الفلسطينية لحضور "مهرجان الشقيف الشعري"، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يغادر فيها البلاد، قبل أن يسافر في الرحلة ذاتها إلى دمشق، ليشارك في أمسيةٍ شعرية ليوم واحد.
وفي العام 1982، تفاقم عليه المرض وشارك في "مهرجان حافظ وشوقي" الذي أقامته وزارة الثقافة لمناسبة مرور خمسين عامًا على وفاتهما. وحينها قامت المخرجة عطيات الأبنودي بتصوير فيلمها "حديث الغرفة رقم 8" عنه، ليكون بمثابة وثيقة سينمائية عنه، قبل أن يغادر الحياة سنة 1983.
توثيق الشعر والنثر
عملت الرويني على توثيق الأعمال الشعرية والنثرية لأمل دنقل في هذا الكتاب، فقد نشرت "دار الآداب"، في بيروت، مجموعته الشعرية الأولى "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969)، وصولًا إلى مجموعة "أوراق الغرفة 8" عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" (1983)، وذلك مرورًا بالمجموعات الأخرى: "تعليق على ما حدث" (1971)، و"مقتل القمر" (1974)، و"العهد الآتي" (1975)؛ و"أحاديث في غرفة مغلقة" (1978)؛ و"لا تصالح: الوصايا العشر" (1981)، و"أقوال جديدة عن حرب البسوس" (1983).
أما الأعمال الشعرية الكاملة، فقد صدرت طبعتها الأولى عبر "مكتبة مدبولي" بالقاهرة (1983)، وطبعتها الأحدث عبر "المجلس الأعلى للثقافة" (2013). وذلك إلى جانب "كتاب في جريدة"، وهي مختارات شعرية لصالح منظمة اليونسكو (1998).
ولعل أكثر الفصول ثراءً في هذا الكتاب، هو الفصل الذي رصدت به الرويني نثر الشاعر. فقد كتب أمل مقالتين حول صداقته للشاعرين صلاح عبد الصبور "شاعر للعصر وعقل لكل العصور"، وأحمد عبد المعطي حجازي "كائنات مملكة الليل". وفيهما نلمح وجهًا آخر من أوجه الشاعر المتعددة، حيث يقرأ أمل في عذوبة ودقة ورهافة تجربة كل منهما.
وذلك بالإضافة إلى مقالات أخرى تنوعت في أغراضها بين الرصد التاريخي، مثل سلسلة "قريش عبر التاريخ"، أو التعليق على ظواهر صحفية وثقافية كما في "الثقافة المصرية في المنفى"، وغيرها من الأغراض والمناسبات، كما في "جيل بعد جيل"، و"الصمت بين صوتين".
بقي أن نقول إن هذه الببليوجرافيا المطبوعة، على الرغم من صغر حجمها (185 صفحة من القطع المتوسط)، إلا أن فائدتها لا يمكن حصرها، فهي أشبه بالقاموس المصغّر للدخول إلى عالم أمل دنقل الثري بما فيه من إبداع ومعاناة وانتصارات وانكسارات. ونرجو في المستقبل ألا تكون هذه الببليوجرافيا أو السِفر الآخر (سِفر أمل دنقل)، هما آخر محطات الرصد والتوثيق لهذا الشاعر الكبير.







