في مجموعته الشعرية الأحدث "أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل"، يواصل الشاعر السوري حسين الضاهر مشروعه في الحفر العميق داخل الذات المنفية، وكتابة التجربة الإنسانية بوجهها الصادق والمقهور. الضاهر، ابن مدينة منبج، كاتب وشاعر، عرفته الساحة الثقافية من خلال حضوره المختلف، حيث تميزت نصوصه بملامسة ثنائيات متعددة: الانتماء والتيه، الوطن والمنفى، الذاكرة والنسيان، بلغة شفّافة تنحت حزنها بتؤدة، من دون صخب.
تَنَقّل حسين الضاهر بين عدة بلدان، ما أضفى على نصوصه مَلمحًا كونيًّا يجمع بين التجربة المحلية والنبرة الإنسانية الشاملة. أما في هذه المجموعة الصادرة عن دار مرفأ للنشر، بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، فنجد أن الشاعر ينفتح أكثر من أي وقت مضى على الذات المجرّدة، ويقدّم نصوصًا هي أقرب إلى اليوميات الشعرية التي تخرج من مجرد اللعب الشكلي إلى غوص عميق في أزمنة الخوف والفقد والتشظي، مقدّمةً شهادةً حيّة عن الذات في مواجهة العالم.
منذ العنوان الأول، يحيل الضاهر القارئ إلى مفارقة شعرية: تعليق الشوارع، أي الواقع المتحرك، على حبل منتصف الليل، أي الزمن المتوقف والرمزي. وبإهداء مقتبَس من رياض الصالح الحسين: "غدًا من الممكن أن ننتحر/الآن علينا أن نحب"، يفتتح الشاعر رحلته بلحظة ارتطام بالوجود، معلنًا ولادة قصيدة لا تحتفل إلا بما هو مُنكَسر ومؤقت.
تفاصيل الحياة اليومية.. أدوات للنجاة
تنبض نصوص الضاهر بطاقة سردية شفافة، حيث تتحول القصيدة إلى شكل من أشكال المقاومة الداخلية، ورغم أن الشاعر يلتقط التفاصيل اليومية – من غرف التحقيق إلى الحافلات – لكنه لا يتوقف عند ظاهرها، بل يغوص في أعماقها ليعيد تشكيل المعنى، ففي قصيدة "أماني حادة"، مثلاً، يقلب المفاهيم المألوفة، ليخلق واقعًا سرياليًّا، باستخدام رموز ثقافية متداوَلة، ولكن بأسلوب يعكس التباين بين الواقع والقيم التي يطمح إليها الإنسان، فيقول:
"أن تمنحني وطنًا خرافيًّا يركض بعكس السردية
تنهمر فيه المدن على القنابل
تتطاير الفراشات شررًا من الحديد
وتعلو العصافير دخانًا من النار".
ومنذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه أمام صوت شعري خاص، لا يسعى إلى الاستعراض البلاغي أو الحِكَم الوعظية، بل يُقيم نصّه على صدق التجربة، وعلى الحياة اليومية التي تتسلل لتصبح استعارات. يقول الضاهر في أول نصّ من نصوص مجموعته:
"أنا في الثالثة والثلاثين
في عمر الأنبياء
غير أني بُعثت لأتمم التعداد السكاني فقط".
إنه تهكُّمٌ على واقع اللاجئ الذي لا يُسمح له إلا بالوجود كرقم في قوائم اللجوء، أو في تقارير الأمم المتحدة، ولكن، يوجد خلف هذا التهكُّم، شعور شجي بالغربة، والانفصال، والتحول إلى مجرد ظل، غير أن الضاهر -في كل مرة- يعود إلى نقطة البداية: أنه "شاعر"، لا يملك إلا القصيدة لتكون سلاحاً، أو وطناً، أو حبيبة.
"أُطلّ على المدينة المسالمة
بحنجرة محشوة بأسئلة صلبة
ورأس مدكوك ببارود الخوف...
بارتعاش أصوب قلم الرصاص إلى صدر الورقة،
وأُطلق.."
بهذه الجرأة، يضع الضاهر نفسه أمام القارئ بلا أقنعة. لا يدّعي بطولة، بل يُظهر هشاشته بكل فخر؛ فهو "ربّ البيت" الذي تطرده زوجته حين تنظف شِباكه، وهو "العاشق البدائي" الذي يحتطب امرأة غصنًا تلو الآخر ليصنع كوخًا، وهو كذلك "المهاجر" الذي يكتب الشعر على بطاقة الباص بصمت، بينما يتمدد الماء أمامه كلسانٍ ساخر.
بساطة مراوِغة وبنية مُفتّتة تقاوم الانهيار
ما يميز لغة حسين الضاهر في هذه المجموعة هو قدرتها على احتضان الألم من دون استعراض، إذ لا يلجأ الشاعر فيها إلى الزخارف البديعة، إنما يبني نصوصه من جمل قصيرة، حادة أحيانًا، ومربكة أحيانًا أخرى، كما لو أنه يكتب من موقع التماس بين الحياة والانكسار.
وغالباً ما تأتي النصوص على هيئة مقاطع منفصلة بصريًّا، لكنها متصلة وجدانيًّا، كأنها شذرات من مونولوج طويل لا نهاية واضحة له. نلاحظ ذلك في قصيدة "عن الدقائق الأخيرة"، حيث يقول:
"لم أفكر بالموت مطلقًا
فأنا شخص مرتب للغاية
والموت طفل يحب اللهو
وكَسْرَ الحيوات المرصوفة على فيترين العالم".
هذا التلاعب بعلاقة الموت بالحياة، عبر استعارات استثنائية ("الموت طفل"، "الحياة مرصوفة على فيترين")، يكشف عن قدرة الشاعر على شحن العبارة البسيطة بطبقات رمزية من دون أن تبدو ثقيلة أو مصطنعة.
كذلك يعتمد الضاهر على كسر التوقُّع، وإعادة تشكيل المفردات، ما يجعل النص مفتوحًا على التأويل؛ ففي قصيدة "حرية بقدر مئة متر" نقرأ:
"أصلَحوا أسناني لأبادلهم ابتسامة متحضرة
فأعطيتهم خوفًا منزوع الأنياب".
إنها مفارقة قاسية وموجعة في آن: يعطونه أدوات الحياة، فيردّ إليهم ارتعاشاتها الخائفة، ما يحوّل اللغة إلى سلاح مقاومة ناعم وجارح.
أما من ناحية البناء، فالضاهر يكتب قصائد تتراوح بين شكل القصيدة النثرية الحرة، واليوميات المفككة، والبيانات الداخلية التي يكتبها شاعر مهاجر لزمنه، أكثر من كتابته لجمهور. التكرار والتقطيع والاستطراد المفاجئ كلها أدوات بنائية يستخدمها ليحاكي اضطراب الشعور، وسرعة تبدّل المشهد النفسي.
في قصيدة "جلد الحب" على سبيل المثال، لا يسير النص تصاعديًّا نحو ذروة، بل يتناسل في طبقات من الصور التي تتآكل تدريجيًّا، كما في هذا المقطع:
"قاسٍ
أن تكتب هذه الكلمات بسكين حادة
على جلدك القديم".
يعود الضاهر دائمًا إلى الجسد، كمساحة لتدوين الأثر، وكأن اللغة لا تُكتب على الورق فقط، بل تُنقش على اللحم أيضًا، وهي صورة قاسية للانفصال عن الذات، والاعتراف بالضعف المطلق.
لغة الشاعر شفافة، لكنها مشحونة بألمٍ ثقيل، يعبّر عن فقدان الأمان، وعن القلق الوجودي في عالم يُدار بالخرائط، والحدود، وتأشيرات الدخول والخروج. كل نص هنا يشبه صرخة مكتومة، أو اعترافًا لم يجرؤ صاحبه على النطق به إلا في السطر الأخير.
قصائد تخلع المجاز وترتدي العبث
في هذه المجموعة، يرتقي مشروع حسين الضاهر الشعري نحو نبرة أكثر نضجًا، وأكثر تشظيًا، فالعالم لم يعُد فقط مكانًا يخذل الشاعر، بل صار مستنقعًا يبتلعه تمامًا، حيث نجد أنه يُقارن ذاكرته الشخصية بيوم سقوط القنبلة على هيروشيما في طين عند مفترق العطش، ولا يملك تعريفاً واضحًا للوطن، لأنه بات "حجارة نرد" تقذفها الحروب كيفما شاءت، في حين تتراوح النصوص بين تأملات الحب وجروح الذاكرة، وتقدّم مقاربات وجودية للحياة والموت بلغة تلامس القصيدة النثرية من دون أن تنزلق إلى العدمية، فالشاعر، مثلًا، يوجّه في قصيدة لا تدّعِ الموت باكرًا، نداءً لذوات متعَبة، بلغة بصرية هامسة، كمن يُنقذ قارئه من الانتحار العاطفي.
وقد يمنح القصيدة أدوارًا غير معتادة، فهي مرة "جارته الجميلة"، ومرة "جارته النزقة"، أو "العجوز التي تتحدث كثيرًا ولا أحد يفهمها". وكأن القصيدة ليست فقط شكلاً جماليًّا، بل كائن يومي يعيش معه، ويشرب قهوته، ويحلم، ويكتئب في الوقت ذاته.
أما في "امرأة آيلة للحب"، فتبرز فلسفة الضاهر الشعرية بوضوحٍ، حيث تنكشف سوداوية الحياة بلا تجميل:
"أنا طفلكِ أيتها الحياة
والكهل الذي تُلوّحين له براية الموت".
هنا، الكآبة ليست عَرَضًا عابرًا، بل قدَر يواجهه الشاعر بلا أسلحة سوى القصيدة. ويظهر أيضًا تمكُّنه من تحويل الحب إلى غابة بدائية، والفقد إلى عملة تالفة، في صور حسية غير مألوفة، تكسر النبرة المعتادة في أدب المنفى.
قصائد مثل حبر استمرار النوع تُعرّي الشاعر من صورة المثالي، وتكشف عن علاقة مأزومة بين الحب والشعر، حيث تصبح القصيدة عشيقة تتفوق على الحبيبة. اللغة هنا أكثر سوداوية وجرأة، وذات طابع بصري وسينمائي، تقارب النثر الحاد لا لتجمّله، بل لتكشفه.
كما يسخر الضاهر في تنمية ذاتية، من الخطاب التحفيزي ليواجه الخراب الداخلي: "سأنهي آخر ركلة من تنمية ذاتي / ولن أكون "أنا" بعد ذلك". بينما تُعَدّ فاتورة موت فاحش واحدة من أجمل القصائد السياسية المعاصرة، حيث الجثث مطالَبة بدفع ضريبة موتها، في مشهد تراجيدي لاذع عن حروبنا الحديثة.
إن الشاعر لا يكتفي في قصائده بتشخيص الجرح، بل يخيطه بالمجاز، ويجعل من الشعر مرايا متكسرة لذاته وللقارئ معًا، حيث يقول في ختام أحد النصوص:
"أنا حسين الضاهر
أخاف الخروج ليلًا
لا، بل حتى نهارًا".
هذه العبارة التي تبدو بسيطة تلخّص رعبًا وجوديًّا لا يحلّه الشعر، لكنه على الأقل، يسميه.
وفي واحدة من أكثر القصائد اختزالًا لمأساة الإنسان السوري، يقول:
"لن تحتاج قنبلة
لتصنع ميتة فريدة
اجلب سوريًّا فقط
وأعطه مهلة زمنية".
"أعلّق الشوارع على حبل منتصف الليل" ليس مجرد تجربة في أدب المنفى، إنه ديوان للذين يعبرون الحياة بخطى مترددة، وللذين يبحثون عن أنفسهم في شظايا اللغة، فقد كُتب من منطقة رمادية بين الحنين والانكسار، بين الرغبة في الحب والخوف من نزعته التدميرية، بين الاحتجاج على المنفى وتبنّيه كقَدَر شعري. حسين الضاهر لا يُطَمئن القارئ، بل يجعله يتلمّس المعنى كما يتلمّس الطريق في ليلٍ خالٍ من الأرصفة، فالشعر آخر ما تبقى لنعلّق عليه الشوارع، أو نرسم به خريطة للنجاة، ولو كانت مؤقتة.