altnmyt-albshryt.png

فن العيش في خمس خطوات.. كيف خُدعنا بالتنمية البشرية؟

20 مايو 2025

التنمية البشرية! يبدو هذا المصطلح، في ظاهره، وكأنه مشروع حكومي ضخم لتأهيل الموارد البشرية، أو ربما دورة تدريبية تشرف عليها الأمم المتحدة لتقييم الأداء ورفع الكفاءات. شيء تقنيّ، صارم، تنظيميّ. لكنّه في سوق الكتب والندوات والملصقات الملهمة، يتحوّل إلى شيء مختلف تمامًا: فن العيش بحكمة.. عبر وصفات سريعة وسهلة الهضم، لا تتطلّب سوى القليل من الإرادة وكثير من الابتسام. 

"التنمية البشرية"، كما تُسوّق في كتبها ومحاضراتها، لا تعني فقط أن تُحسّن نفسك، بل أن تُعيد تشكيلها بالكامل لتصبح "نسخة ناجحة" ومحبوبة وفعالة – وربما مثالية – في زمن قياسي. وكأنك جهاز إلكتروني بحاجة إلى تحديث برمجيّ، أو تطبيق يتطلب ترقية دورية. إنها، باختصار، حياة مختصَرة في دورة تدريبية. 

لكن، هل هكذا تُعاش الحياة حقًا؟ هل الضعف أو الحزن، الإخفاق أو التردّد، مجرّد أعراض لفشل في تطبيق "الوصفة"؟ وهل المعاناة الوجودية التي رافقت الإنسان منذ الميثولوجيا الإغريقية إلى قصائد بودلير ونوبات القلق في غرف النوم، يمكن أن تُحلّ بورشة بعنوان: "اكتشف القوّة في داخلك"؟

ثمة شيء مريب في هذا التبسيط. شيء يشبه الابتسامة القسرية في صورة إعلان. شيء يُراد له أن يبدو حكيمًا، لكنه في العمق يُحيل الحياة إلى مخطّط، والذات إلى منتج، والتجربة إلى جدول "Excel". في هذه الرحلة، لن نستهزئ بالأمل – لأن الإنسان لا يعيش دونه – لكننا سنطرح أسئلة حول كيف أصبح الأمل نفسه سلعة؟ من يربح من وصفات العظمة؟ ومن يخسر حين يُحمَّل وحده عبء النقص والفشل؟ وهل يمكن لـ"فن العيش" أن يُتقن حقًا؟ أم أنه يُرتكب، خطأً بعد خطأ، بشريًا كما نحن؟

أول كتاب في التنمية البشرية

عندما نتحدث عن تاريخ كتب التنمية البشرية، قد يكون من الصعب تحديد بداية دقيقة. فالعديد من الأفكار التي يُنظر إليها الآن على أنها أسس التنمية البشرية قد ظهرت في الأدب والفلسفة لآلاف السنين. لكن إذا أردنا أن نتتبع تطور هذا المجال بشكل أكثر تحديدًا، سنجد أن أول كتاب مؤثر في هذا السياق يعود إلى أوائل القرن العشرين، في شكل جديد ومبتكر من حيث التركيز على التفكير الإيجابي، النجاح الشخصي، وتطوير الذات. 

قبل أن نصل إلى الكتب الحديثة، كان الفلاسفة والعلماء على مر العصور يقدمون أفكارًا عن تحسين الذات والنمو الشخصي. على سبيل المثال، الفلسفة الرواقية في العصور القديمة كانت تدور حول كيفية تحسين حياة الإنسان من خلال التحكم في الأفكار والمشاعر، وتحقيق السلام الداخلي. وكذلك كانت الأفكار المتعلقة بالتنوير العقلي وتحقيق الذات حاضرة في العديد من الكتب الدينية والفلسفية في مختلف الثقافات. 

على الرغم من أن جذور التنمية البشرية قد تعود إلى فترات أقدم، إلا أن الكثير من الكتب الحديثة في هذا المجال بدأت في الظهور في أوائل القرن العشرين. واعتُبر كتاب "فكر تصبح غنيًا" للكاتب نابوليون هيل، الصادر في عام 1937، من أولى الكتب التي أسست بشكل رسمي مفاهيم التنمية البشرية كما نعرفها اليوم. 

كان نابوليون هيل أول من أدخل التفكير الإيجابي كعنصر محوري في تحقيق الثراء الشخصي. في هذا الكتاب، أشار هيل إلى أن الثروة ليست مجرد مسألة مال، بل هي نتيجة للعقلية الإيجابية، والتخطيط الجاد، والإصرار. وقد شكل الكتاب حجر الزاوية للكثير من مفاهيم التنمية البشرية الحديثة، مثل قوة العقل في التأثير على الواقع، و"قانون الجذب" الذي يعتقد أن ما تفكر فيه يتجسد في حياتك. 

تحول الكتاب إلى ظاهرة عالمية

ما ميز "فكر تصبح غنيًا" هو أن هيل قدم أفكاره باستخدام أسلوب بسيط وعميق في الوقت ذاته، حيث تمكن من خلق صيغة قابلة للتطبيق بالنسبة للأشخاص العاديين الذين كانوا يطمحون للتحسين الذاتي. هذا الكتاب لم يكن فقط محاولة للتوجيه المالي، بل كان بمثابة دليل نفسي يربط بين الطموحات الشخصية وكيفية تحويل الأفكار إلى واقع مادي. 

بمرور الوقت، بدأ الكتاب يتجاوز مجرد كونه دليلًا ماديًا. أصبح يمثل أيضًا حافزًا نفسيًا، يعزز من فكرة أن الشخص يمكنه أن يتحكم في مصيره إذا غيّر طريقة تفكيره. 

إرث نابوليون هيل: تحوّل الفكر إلى صناعة

منذ ذلك الحين، لم يقتصر الأمر على "فكر تصبح غنيًا" فقط. بل انتشرت كتب أخرى في هذا المجال على يد ديل كارنيجي، وستيفن كوفي، وإيكهارت تولّه، وكل هؤلاء ساهموا في توسيع مفهوم التنمية البشرية ليشمل النجاح الشخصي، الإدارة الذاتية، وتحقيق التوازن بين الحياة والعمل. 

الكتب التي ظهرت لاحقًا بنت على أسس هيل، لكنها أيضًا أدخلت عناصر جديدة مثل الذكاء العاطفي والعلاقات الإنسانية، مما جعل التنمية البشرية مجالًا واسعًا يمكن تطبيقه في جميع جوانب الحياة. 

ويمكن القول إن ظهور أول كتاب شامل في التنمية البشرية كان بمثابة انطلاق "الثورة الفكرية" التي غيّرت طريقة تفكير الأفراد حول النجاح. اليوم، أصبحت هذه الصناعة ظاهرة عالمية تغطي كل جوانب الحياة، من النجاح المهني إلى السعادة الشخصية. لكن يبقى "فكر تصبح غنيًا" نقطة البداية الحقيقية، التي فتحت الأفق لعشرات الآلاف من الكتب التي شكلت عالم التنمية البشرية كما نعرفه اليوم. 

الحياة كوصفة جاهزة

الدرس الأول الذي يتعلمه قارئ كتب التنمية البشرية هو أنه المسؤول الأول والأخير عن فشله. فالنجاح يحتاج قدرًا هائلًا من الإيمان، والسعادة هي مقادير دقيقة تخلط بابتسامة صباحية أمام المرآة وتزيّن بجملة "أنا سعيد.."، وتنتهي بكتابة أهدافك بخط عريض وواضح في دفتر جميل آخر النهار. 

هكذا يمرّ تطوير الذات عبر تقريعها وجلدها حتى تصل الى أفضل نسخة منك. وكان النسخ القديمة من ماضيك عار يجب التخلص منها. تلك الكتب لا تهتم بالسياقات التاريخية والاجتماعية والنفسية المختلفة من فرد الى آخر. فهي منشغلة بما يشبه دليل الاستخدام، حيث لا مجال لغرابة الكائن البشري ولا إلى فوضى العالم. 

الإنسان عطل طارئ يعاد تشغيله

تدّعي أدبيات التنمية البشرية أن الفشل الذي يطرأ على الانسان إنما هو عطل طارئ بانتظار إصلاحه. فالمشكلة ليست في العالم الخارجي بما ينتجه من تاريخ حافل بالاضطهادات والقمع والكبت ولا في التشققات النفسية المرعبة، المشكلة في طريقة تفكيرك. غيّر عقلك تتغير حياتك إلى الأفضل، كن إيجابيًا وستأتي الفرص حتى سرير نومك، وتفتح بكبسة زرّ كل الأبواب المغلقة. 

لكن أليس في هذا التبسيط الملغم، مصادرة لحقنا في أن نكون ذواتا إنسانية؟ في حقنا أن نخاف ونتعثر.. أن نجرّب ونتردد.. أن نحزن وننهار. ألا تختزل حياتنا النفسية في كونها عيبا في التصنيع. 

لكن ماذا يفعل أولئك الذين لا يمكن إصلاحهم بسرعة؟ من يعيشون آلامهم ببطء.. من لا يريدون مغادرة مساحة الراحة، هل يعتبرون مشاريع تنمية فاشلة؟

أنبياء بربطة عنق أو التنمية البشرية كديانة جديدة

يظهر لنا كل يوم، خلف الشاشات، قادة جدد. يمكن أيضا تسميتهم بما تشاء من الألقاب: كوتش.. مدرب.. نبي القرن الواحد والعشرين.. يتحدثون بثقة عمياء، يبتسمون، يتحركون بخفة، ويصرخون بحماس كمن يحمل وصايا قد تتهشم في أي لحظة. هم لا يقدمون معرفة حقيقية، بل شحنًا نفسيًا مدعيين أنه بإمكانهم تغير حياتك بدورة تدريبية عن النجاح من خلال استدراج الطاقة الإيجابية الكامنة داخلك. لكنهم مجرد باعة لأمل معلّب. يقدمون لك السعادة في وصفاة جاهزة. استيقظ مبكرًا.. اشرب ماء دافئًا مع الليمون.. اكتب نعم ثلاث مرات.. تنفس.. ابتسم.. تظاهر أنك بخير حتى تصدق ذلك.

إن لم تنجح الوصفة، فتأكد أنك تحمل وزر اخفاقها وحدك. إنهم يتناسون أن الحياة هي مجموعة من التجارب وليست كتابا في الطبخ. 

لماذا نريد أن نُقادَ؟

ثمة شيء غامض وغريب في النفس البشرية، يدفعها الى التماس الخلاص عبر التعليمات مهما كان نوعها -كانت سماوية أو دستورية قانونية أو نابعة من قادة جدد يهموننا أنهم يسيطرون على حياتهم. لا أحد في الحقيقة بإمكانه أن يقود حياته كما تقاد القطعان. 

هذه الرغبة الواضحة في الانقياد والخضوع، يمكن أن تفسر، بعدة طرق من بينها غياب المعنى وتراجع المعرفة الحقيقية التي تنبني الانسان من الداخل عبر تحصين عقله من الأوهام والدجالين. 

ربّما لأن العالم فوضوي، والحياة بلا ضمانات. لأن الحزن والقلق الوجودي لا يمكن شرحهما ببساطة، يحتاج الإنسان إلى نضام يطمئنه وغلى ملهم يقوده إلى نفسه وهي تركن عاجزة في العتمة. 

لكنّ الظلمة الحقيقية هي أن ينسى الانسان أن السعادة ليست وجهة بل إحساس عابر، وأن العظمة ليست دائما في الإنجاز، بل في تقبل الفشل كجزء لا يتجزأ من التجربة في الحياة. 

في النهاية، لا مشكلة في البحث عن أدوات لتجاوز المحن، أو كتب تُعيننا على فهم أنفسنا. نحن لسنا ضدّ تحسين الذات، ومواجهة المخاوف، ولا ضدّ الأمل، لأننا نحيا به ومعه. لكنّ المشكلة تبدأ حين نحوّل العيش الى وصفات جاهزة، والسعادة الى كعكة في فرن الإرادة والتحكم في المصير. أن نحوّل الذات الى برمجيات قابل للتحديث والتطوير. لقد خدعتنا لزمن طويل أدبيات التنمية البشرية بأن طوّعت حقل الفلسفة الوجودية إلى تقنيات مقنعة لاستغلال جهل الانسان وخوفه من نفسه ومن المجهول.

ما لا تقوله كتب التنمية البشرية هو أن الإنسان ليس برنامجًا مفتوح الكود، ولا مشروعًا قيد التحديث، بل كائن غامض، متناقض، هشّ ومذهل في آن. قوّته لا تنبع من إتقان وصفة، بل من قدرته على التعثّر والوقوف، على الحزن دون خجل، وعلى الفشل دون أن يفقد كرامته.

في عالمٍ يُقاس فيه النجاح بعدد المتابعين، والسعادة بعدد الابتسامات، صار التوق إلى الكمال مرضًا جماعيًا. لكن الحقيقة أن الحياة ليست سلسلة إنجازات، بل فسيفساء من الخسارات والبدء من جديد. أن تكون إنسانًا لا يعني أن تحقق كل أهدافك، بل أن تبقى قادرًا على الحب وسط العطب، والضحك وسط القلق، والإيمان رغم العتمة.

ربما بدل أن نطارد "أفضل نسخة من أنفسنا"، علينا أن نتعلّم الاعتراف بالنسخ التي سقطت، وتلك التي قاومت، وتلك التي لا تزال تبحث عن معنى. فالخلاص لا يأتي من وصفة، بل من رحلة. وما نحتاجه حقًا، في زمن الشعارات الفارغة، هو أن نُمنح شيئًا بسيطًا وعميقًا: الحق في أن نكون بشرًا، كما نحن، لا كما يُفترض بنا أن نكون.

الكلمات المفتاحية