التلفزيون

عن التلفزيون والناس.. والزمن

21 ديسمبر 2024

يوجد يوم عالمي لكل شيء تقريبًا، للسلام وللتعليم وللأديان وليتامى الحروب ولمكافحة السرطان ولمكافحة السمنة وللدفاع المدني وللجمارك. بل ويوجد يوم عالمي للنوم وآخر للدب القطبي، حتى يظن المرء أنه قد يعثر في هذه القائمة اللانهائية على يوم عالمي له هو شخصيًا.

ليس غريبًا ولا استثنائيًا، إذن، أن يكون للتلفزيون يوم أيضًا، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أعلنت، سنة 1996، يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر يومًا عالميًا للتلفزيون، وذلك اعترافًا بتأثيره "المتزايد في صنع القرار من خلال لفت انتباه الرأي العام إلى المنازعات والتهديدات التي يتعرض لها السلام والأمن ودوره المحتمل في زيادة التركيز على القضايا الرئيسية الأخرى، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والاجتماعية".

وأكد بيان المنظمة الدولية أن هذا ليس "احتفاءً بأداة بقدر ما هو احتفاء بالفلسفة التي تعبر عنها هذه الأداة. فقد غدا التلفزيون رمزًا للاتصالات والعولمة في العالم المعاصر".

لكن كيف مرت المناسبة هذه السنة؟ كيف هو حال التلفزيون بعد 28 عامًا من إعلان يومه العالمي؟ ألا يزال "رمزًا للاتصالات والعولمة في العالم المعاصر"؟ وهل لا يزال يملك ذلك التأثير "المتزايد في صنع القرار"؟

أول ما يلفت الانتباه أن التلفزيون تحول إلى موضوع للنوستالجيا، وهذا يعني، من بين ما يعني، تسليمًا بأنه يعيش مرحلة الأفول وسط هذا العالم الصاخب المترع بالشاشات المستجدة. وبالطبع فالأمر ينطوي على مفارقة كبيرة، فإذا كان البشر معتادين على تحول الجديد المريب والمقلق إلى موضوع للحنين، فإن هذا كان يتم عبر امتداد زمني شاسع. الصحافة الورقية، مثلًا، قوبلت، يوم كانت مخترعًا جديدًا، بكثير من الاستنكار والنفور بل والاشمئزاز.

لنتذكر، مثلًا، ما قاله عنها ديدرو: "إن هذه الأوراق زاد الجاهلين ومادة الذين يرغبون في الكلام وفي الحكم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة، وهي وباء ومصدر اشمئزاز للذين يعملون". وكذلك ما قاله جان جاك روسو: "ما هي الدوريات؟ عمل زائل لا رواء فيه ولا نفع منه، يعزف عن قراءتها أهل الأدب ويترفعون عنها، ولا تصلح إلا في تشجيع النساء والحمقى على ادعاء العلم والغرور دون ثقافة".

وقد احتاجت الصحافة 400 عام تقريبًا كي تتحول إلى محط رثاء وسبب لذرف دموع الحنين. أما في حالة التلفزيون فالانقلاب كان سريعًا، سريعًا جدًا. فإلى عشرين، أو خمسة عشر، عامًا مضت كانت لا تزال غزيرة تلك الكتب والدراسات والمقالات التي تصدر تحت عناوين فيها الكثير من الأكشن: "خطر الإدمان التلفزيويي"، "خطر النلفزيون على الأطفال"، "التلفزيون والتلاعب بالعقول".. إلخ. وإذا بنا اليوم نقف أمام عناوين وعبارات مختلفة تمامًا عن ذلك "الصندوق السحري الذي أضفى حميمية على جو الأسرة"، و"كان يصنع لمتنا الحلوة على مائدة الإفطار في رمضان"، و"كان يساعدنا على تنظيم أوقات أولادنا".

لسنوات طويلة، ظل التلفزيون هو بعبع التكنولوجيا المرعب الذي يخيفون به الأطفال، وربما يتذكر الكثيرون، ممن سارت طفولتهم في ظلاله، ذلك المزيج من البهجة والشعور بالإثم الذي سيطر على أوقاتهم أمام شاشته الصغيرة. وكانوا يقولون لنا أشياء غريبة لا يمكن أن تصدر إلا عن خيال سادي ومجدب في الوقت نفسه، مثلًا: إن الفرجة على التلفزيون تتسبب بالعمى بعد ثلاث إلى خمس سنوات، وإن مشاهدته اليومية تؤدي إلى محو الذاكرة، وذبذباته المسببة للسرطان تبقى ملتصقة في هواء الغرفة حتى بعد إطفائه. ولا يُعرَف أي ذهن عبقري تفتق عن هذا الاستنتاج العلمي المؤكد: مشاهدة الأطفال للتلفزيون، ولا سيما لأفلام الكرتون، تشجع لديهم ميلًا مستقبليًا لممارسة العادة السرية!

غير أن هذا لا يعني أن كل ما قيل من نقد ينتمي إلى مثل هذه الخرافات، فقد انشغل أكاديميون ومفكرون وصحفيون جادون برصد الآثار الواقعية التي يتركها التلفزيون على الأفراد والمجتمعات، وأصدروا كتبًا ومقالات رزينة فيها الكثير من الاستخلاصات والنتائج التي أثبتت وجاهتها إن لم نقل صوابها. وفي عالمنا العربي انطلقت التساؤلات والنقاشات في وقت مبكر. ففي العام 1962، وبعد أقل من عامين على انطلاق التلفزيون العربي في القاهرة، كتب الصحفي المصري الراحل أحمد بهاء الدين مقالًا في مجلة "الهلال" تحت عنوان "خواطر عن التلفزيون"، والحقيقة أن هذا المقال يحتوي على مجمل الانتقادات والشكوك التي شاعت فيما بعد، ومنها أن التلفزيون يعمل على تنميط الناس، فيصنع لهم معايير موحدة في السلوك واللباس والموسيقى والغناء والأفكار كذلك، والمشكلة أن التلفزيون يقترن في أذهان الكثيرين بالتسلية والمتعة وقتل الوقت دون أن ينتبه هؤلاء إلى ما يفعله التلفزيون في أفكارهم ورؤاهم. وينقل بهاء الدين عن الكاتب والصحفي الأميركي ماكس ليرنر تشبيهه التلفزيون بالآلة الكاتبة العملاقة التي "تدق الناس جميعًا في ملايين النسخ المتشابهة". 

وما يسهل هذه المهمة على التلفزيون هو أنه يتوجه إلى العين والأذن معًا، مخاطبًا الجمهور ليس بالكلام فقط، بل وبالصور التي تملك خاصية التسرب إلى اللاشعور وصياغة مواقف وانحيازات في غفلة من العقل الواعي. وإذا كانت السينما تنطوي على وسيلة الخطاب نفسها، فإن هناك فارقًا كبيرًا، إذ إن مشاهد السينما يكون أكثر حصانة "فهو ذاهب إلى مكان عام في جو أقرب إلى الاحتفال يملؤه الإحساس الواضح بأنه يرى تمثيلية".

وهناك مشكلة الإعلانات والتي لا يمكن لأي مؤسسة تلفزة أن تعيش من دونها، ما يعطي المعلنين وأولوياتهم سلطة مطلقة. وإذا كان التلفزيون لا يبيع السلع التي يعلن عنها فإنه يبيع الجمهور برمته إلى المعلنين.  

ويضيف بهاء الدين نقطة أخرى، سلبية أيضًا، وهي أن التلفزيون بطبيعته دكتاتوري، "لا يدخل في حوار مع جمهوره إنما هو الذي يرسل وهم الذين يتلقون، فهو حوار من طرف واحد، وهو بالتالي يعود جمهوره الذي يدمنه على أن يكون مستقبلًا، متأثرًا فقط.. ثم يتحول إلى مجرد كائن مطيع".

وفي المقابل، لم يعدم التلفزيون من يتصدى للدفاع عنه والتغني بميزاته وفوائده، واعتباره وسيلة فائقة القوة من أجل التغيير المجتمعي، وأداة فعالة للثقافة الجماهيرية، حيث بالإمكان استثماره لإيصال منجزات الفن والأدب والفكر إلى كل بيت في مختلف الشرائح والطبقات. لكن هؤلاء "المنافحين" ظلوا قلائل في الأوساط الثقافية التي لم يعرف عنها يوما أنها تنظر بكثير من الود والتفاؤل إلى مبتكرات التكنولوجيا ومستجداتها.

وبالعودة إلى بيان الأمم المتحدة عن التلفزيون، فربما لا نكون بحاجة إلى عناء كثير للقول إن متغيرات كثيرة أنزلت التلفزيون من مكانته وجعلته يقف اليوم أمام تحديات كبيرة تطول هويته ودوره ووظائفه. وبات واضحًا أن شبكة الإنترنت هي التي صارت "رمزًا للاتصالات والعولمة في العالم المعاصر"، بما أفرزته من مبتكرات وتطبيقات ومنصات اكتسحت المشهد الإعلامي وتكاد تحتكره.

ربما لا يصل الأمر إلى حد موت التلفزيون، انقراضه، وربما ينجح في التكيف عبر تغيير ما في وسائله وشكله وطريقة عمله، لكن الراجح أن ذلك الجهاز السحري الذي كان محوريًا في حياتنا ومحتكرًا لمخاوفنا أو لآمالنا.. قد صار، أو على وشك أن يصير، جزءًا من الماضي.

وهذا الأفول، هذا الشكل من الأفول، هو ما أطلق موجة الحنين الراهنة وما يرافقها من إعادة الاعتبار للتلفزيون والانتباه إلى ما انطوى عليه من إيجابيات.  ألا يمكن الاستفادة من هذه التجربة وقد اكتملت؟

يقول المغرمون بالحتمية "إن الإنسان لم يخترع شيئًا ثم تراجع عنه. وإذا ما انصرف عن مخترع ما فلينتقل إلى آخر من النوع نفسه أكثر تطورا وفعالية". ويبدو هذا صحيحًا، في حالة التلفزيون على الأقل، فكل الإدانات وحملات التهويل والتخويف لم تجعل البشر يتخلون عن التلفزيون، وبالطبع لم يعد الزمن إلى الوراء، بل سار في اتجاه معاكس ليفرز ما نراه اليوم من وسائل إعلام أكثر قوة وانتشارًا وتأثيرًا، بإمكانيات أكبر ومخاطر أكثر في الوقت نفسه.

ويرى البعض أن التلفزيون لم يكن "عيبًا" بحد ذاته، بل كان كاشفًا للعيوب، ففي مجتمع يعيش مظاهر التخلف الشامل، بروابط مهترئة ومدارس بلهاء ومؤسسات ثقافية هزيلة ودوائر قرار لا تملك أي استراتيجية.. من الطبيعي أن يأتي التلفزيون ليعمق كل هذا الخلل ويلعب أدوارًا سلبية. ولو كان الحال مختلفًا فإن في التلفزيون إمكانيات هائلة تؤهله ليكون كما حلم به الكثيرون: أداة رائعة لنشر المعرفة وللتحريض على التغيير. ألا يمكن قول الشيء نفسه عن الإعلام الجديد، الإنترنت ومفرزاته؟

وبعيدًا عن لغة الوعظ السمجة والتعقل الزائف واستخلاص الدروس والعبر المبتذلة، ألا يجوز طلب الالتفات إلى نظرة (يعتبرها الكثيرون بدهية) تلخصها العبارة الأدبية التي تقول: "للقمر وجهان.. أحدهما، فقط، هو المظلم"، أم أنها مهمة متروكة للأجيال القادمة التي سوف تشهد انحسار ما نعده اليوم آخر صيحة في عالم الإعلام، فتشرع هي أيضًا بالحنين إلى ذلك الوجه المضيء الذي كان للقمر الموشك على الأفول؟!