إثر سقوط بشار الأسد، كانت الجملة الأكثر تكرارًا على ألسنة السوريين تلك التي تقول: "كأننا في حلم". وتذكرون بالطبع أن الجملة الأكثر شيوعًا، حتى أيام قليلة قبل السقوط، كانت: "كأننا في كابوس". هذا هو حال السوريين اليوم: انتقال فجائي، في الليلة نفسها، بل وفي الإغفاءة ذاتها، من كابوس مرعب إلى حلم جميل. وإلى اليوم، وإلى أيام قادمة، ستبقى هذه سمة تظلل حياة السوريين بكل مظاهرها: كأنهم في حلم. بل إنهم أنفسهم صاروا تجسيدًا لجملة شكسبير الشهيرة: كائنات من تلك المادة ذاتها التي تُصنع منها الأحلام.
وهكذا، فإنني أشفق على هؤلاء الذين سارعوا إلى إعطائنا دروسًا في السياسة، في كيفية إدارتنا لشؤوننا وترتيب مستقبلنا وتنظيم حياتنا. يبدو هؤلاء مثل مدرب تنمية بشرية التقط سجينًا خارجًا للتو من سجن/مسلخ أمضى فيه نصف قرن من عمره وراح يعطيه دروسًا في طريقة استثماره لإمكانياته وتطويره لقدراته كي يحظى بفرصة في سوق العمل. كلام ربما يكون أكثره صحيحًا ووجيهًا لكن عيبه، فضلًا عن نبرة الأستذة الممجوجة، أنه جاء مبكرًا.. مبكرًا جدًا، فهذه أيام منذورة عندنا للفرح.. للفرح المجنون وحسب.
ونعرف أننا سنصحو غدًا أوبعد غد، بعد أسبوع أو شهر، على أسئلة وهواجس وملفات بحاجة إلى ترتيب، ويحدث لأحدنا أن يصحو صباحًا بعد ليلة نوم، ربما تكون هانئة ودافئة، وهو يعرف أن أمامه نهارًا طويلًا من العمل المتعب، غير أن أول ما يفعله، مع ذلك، هو أن يأخذ قسطًا من التأمل الهادئ ويغسل وجهه ويرتب هندامه ويتنفس ملء رئتيه ويبتسم فرحًا لأنه لا يزال حيًا.. فما بالكم وقد صحونا الآن من ليلة نوم كابوسية هذيانية امتدت 54 عامًا، وما نفعله فقط، وأولًا، أننا نتنفس ملء صدورنا ونفرح إذ ما زلنا على قيد الحياة في بلد يعد فيه هذا، بحد ذاته، إنجازًا عظيمًا؟
يقول الكثيرون إنهم كانوا يتوقعون ما حدث، كانوا على يقين من سقوط نظام آل الأسد المرعب، في هذا الوقت أو في وقت قريب منه.. أصدق معظمهم، أما عن الآخرين فلا تعنيني كذبتهم البيضاء ولا يزعجني تفاؤلهم بأثر رجعي، وأحبهم أيضًا ومن قلبي.
أما عني شخصيًا – لكن قبل أن أكمل علي الاعتذار عن حشر الأنا غير المستحب في هذا الحديث، وعذري هو اعتقادي أنني أتحدث عن سوريين كثر مثلي – كنت أقول إذًا أنني، وللأسف الشديد، انتميت إلى أولئك المتشائمين، بل الأكثر تشاؤمًا من بين السوريين، وبعد العام 2015 رحت أقول لنفسي: خلاص انتهت، لقد ولدت في عهد حافظ الأسد وسوف أموت في عهد بشار الأسد، وإذا أمهلني العمر فربما أدرك عهد حافظ الثاني الذي بدا من صوره أكثر بلاهةً من أبيه وأشد سادية من جده.
وبناء على ذلك رتبت أموري: أن أجمع مالًا يتيح لابنيَّ ركوب البحر إلى الشاطئ الآخر من المتوسط، ثم أتفرغ لإدارة موتي بطريقة معقولة. وغدوت متشائمًا عنيدًا وصلبًا، وكافرًا نموذجيًا بكل شيء، بالسياسة وشعارات حقوق الإنسان والغرب والشرق ومزاعم التحضر. بالبشر من حولي والبشرية جمعاء، كافرًا بالحياة نفسها التي اكتست في عيني سوادًا صرفًا، وبالمستقبل الذي صار مصدرًا حصريا للأحداث السيئة والأكثر سوءًا.
كرهت تاريخ بلادي إذ امتد ليوصل شخصًا مثل بشار إلى سدة الحكم، وحقدت على "الشخصية السورية" التي أتاحت الحياة لمثل هذا المسخ. وصار العيش مجرد انتظار ممل للموت، بل صار هو نفسه ضربًا من الموت المديد.. وإذا بي أُمنح حياة جديدة، عمرًا آخر فوق عمري الذي مضى، وأكتشف سذاجة عقلي المتشائم، إذ تبين أن الحياة أرحب من حقبة مهما طالت واسودت، والتاريخ أرحم من أن يتركنا أسرى حاكم مجنون، والبشرية قادرة على لفظ العلقات عن جسدها، والناس من حولي أكثر بكثير من أن يختزلهم مئات (أو حتى آلاف) من القتلة والشبيحة، وأن المستقبل مغلف بالغيب ويمكن أن ينطوي على أنباء سعيدة.
هذه هي المفاجآت التي حملها لكثير من السوريين صباح الثامن من كانون الأول/ديسمبر، وهذه هي أسباب فرحهم العارم هذه الأيام.
في الأمس، شاهدت على إحدى المحطات التلفزيونية العربية محللًا سياسيًا، وربما استراتيجيًا أيضًا، يحذرنا من الإفراط في التفاؤل ويستهجن احتفالاتنا ويقول، في نبرة لا تخلو من السخرية، إن السوريين لا يعرفون أي طريق شائك محفوف بالمخاطر ينتظرهم.
كثيرون يقولون هذا، وكثيرون هم السوريون الذين يطمئنون هؤلاء، وبغض النظر عن نواياهم، بأننا نعرف، إن لم يكن اليوم في غمرة فرحنا ففي الغد القريب، فنحن لسنا سذجًا لنعتقد أننا وصلنا الفردوس الموعود وأننا صرنا بين أيدي ملائكة. غير أننا نعرف أيضًا، ومنذ الآن، بأن عبقرية الشر قد استنفدت نفسها مع نموذج حكم الأسد، وأن الزمن القادم ومهما اجتهد فلن يستطيع صناعة ليل حالك بمثل سواد الذي مزقناه للتو. هذا ما نؤمن به، وهذا هو الحد الأدنى من أمنياتنا فقط، فطموحاتنا أكبر بكثير وإن كانت ستأتي مصحوبة بمخاوف أكبر كذلك.
من جهتي أحدس بخوفي الأكبر الذي سوف يستيقظ بعد أن تخفت نشوة الفرح في كياني (هذا حكم الزمن بالنهاية). سوف أخاف من آراء كثيرة سمعتها وشاهدت أصحابها على قنوات تلفزيونية عربية عديدة، فمقابل الكثيرين من العرب الذين فرحوا معنا وصفقوا لنا، كان هناك من أقام مندبة كبيرة. أحدهم قال صراحة "أنني ألطم ألطم ألطم"!.. ولماذا يلطم؟ ببساطة لأنه "حزين لا على الشعب السوري بل على بشار الذي لم يحمه شعبه"!
وقال آخر إن "الشعب السوري هو المدان على ما فعله.. مدان مدان"، وناشدنا ثالث: "بربكم، ضعوا أنفسكم مكان بشار الأسد.. أليس طبيعيًا أن يستعين بقوى أجنبية ليحمي استقلال بلاده"! ورأى خبير عسكري أن "خطأ بشار الوحيد أنه لم يستخدم مزيدًا من البطش.. كان بإمكانه أن يفعل، ولكنه للأسف لم يفعل وهذا سبب خسارته"!
وكان مفكر وسياسي عربي مرموق قد قال، قبيل السقوط، إنه يحب بشار الأسد وإنه التقاه شخصيا فكان "لطيفًا للغاية معي". وعندما سأله المذيع: "وماذا عن مئات الألوف من ضحاياه؟"، أجاب: "هذا طبيعي وعادي.. أي حاكم كان سيفعل ما فعله"!.
وتتعدد أسباب ودوافع هذه المندبة، فبشار عند بعض هؤلاء كان علمانيًا صلبًا كونه كان يرتدي بدلة عصرية وربطة عنق، وعند آخرين هو عروبي مقاوم لا يشق له غبار، وعند فريق ثالث هو يساري مفطور على محاربة الإمبريالية وقوى الاستعمار.
يا إلهي! لقد سقط بشار فكيف يسقط هذا الخطاب المخبول وينقرض؟ أي حيلة أمام هذا العقل الذي يرى أن ضبط الشعوب مقدم على إسعادها، وأن قتل الناس أسهل من تحقيق أمانيهم، وأن تصريح الحاكم (مجرد تصريح) بأنه سوف يحارب أميركا وإسرائيل ويحرر الأرض يوما ما.. كفيل بأن يبرر له جرائمه، وأن الخبز نقيض للحرية، وأن صيانة الحدود أهم من صيانة حيوات البشر؟
والمصيبة أننا في سوريا الأسد كنا بلا حرية ولا خبز أيضًا، وفيما عم قتل البشر بلا حدود، فقد اهتزت الحدود.
لنتشبث بالفرح بعيدًا عن هؤلاء، ولنتذكر أن إسقاط طاغية أمر نادر في عالمنا العربي ولا يحدث كل يوم، وإذا كان من الطبيعي أن يتسبب بكل هذا الفرح، فطبيعي أيضًا أن يكون له أعراض جانبية، منها هذا الخبل.