في المجتمعات التي تفتقر إلى الحرية السياسية وحرية التعبير، غالبًا ما تظهر أنماط فنية تُعرف بـ"فن التنفيس"، تتنوّع هذه الأنماط بين المسرح والبرامج الساخرة والأعمال الدرامية والأدبية، وتتيح للناس التعبير المؤقت عن مشاعر الغضب أو الاستياء أو السخرية من الواقع، وتُعبّر عن هموم الناس بأساليب رمزية أو هزلية.
تُسهِم هذه الأنماط جميعها في تطبيع القهر، وتحويله إلى مادة للعرض والتسلية، مِن دون أن تُشكّل خطرًا فعليًّا على السلطة، فهي لا تهدف إلى إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي أو الاجتماعي، بل تُستخدَم، في كثير من الأحيان، أداةً لتخفيف الاحتقان الجماهيري ضمن مساحة ضيّقة مُحدَّدة سلفًا.
يتناول هذا المقال ظاهرة فنّ التنفيس في العالم العربي من خلال تعريفه وتحليل خصائصه الأساسية، ثم يتتبّع نشأته وتطوره بعد نكسة 1967، ويختِم بتحليل دقيق لكيفية تحوّله، مع مرور الوقت، إلى أداة من أدوات الضبط الاجتماعي والسياسي في العديد من السياقات العربية.
تعريف فنّ التنفيس وخصائصه العامة
"فنّ التنفيس" هو ذاك الشكل الفني الذي يُسمَح له بأن "يعترض"، لكن ضمن هوامش محسوبة مسبقًا، في لحظات احتقان سياسي واجتماعي، وليس الهدف منه زعزعة النظام، بل تسكين السخط الشعبي. تصفه الباحثة الأمريكية ميريام كوك في كتابها "سوريا الأخرى: صناعة الفن المعارض" بـ"النقد المكلَّف"، أي ذاك الذي تُوكل به أطراف معيّنة لإنتاج معارضة رمزية، تُطمئن الجمهور أنّ هناك صوتًا يُشبههم، دون أن يُشكّل خطرًا فعليًا على السلطة، فهو –بحسبها- نوعٌ من المعارضة المصمّمة، المشذّبة، التي تحاكي انفعالات الناس وتحرّك أشواقهم للعدالة، لكنّها في النهاية، تبقى تحت سقف مرسوم بدقة، لا يُخترق.
هذا الفنّ، كما تكشف كوك، يُصبح لعبة ذكية في يدّ السلطة، يوهم الجمهور أن الاعتراض مسموح، بينما يسهم في إنتاج "يوتوبيا سلبية"، على حد تعبير هابرماس، تُقنع الناس أن لا بديل حقيقي لما هو كائن، وأنّ الشكل الوحيد المتاح من أشكال الاعتراض هو الذي تتيحه السلطة وتُعطي هامشًا لممارسته.
يتّسم فنّ التنفيس بجملة من الخصائص التي تُميّزه عن غيره من أنماط التعبير الفني، وأول ما يلفت النظر فيه طبيعته المؤقتة والمحدودة زمانيًّا ومكانيًّا؛ فغالبًا ما يظهر في شكل عرض مسرحي، أو برنامج ساخر، أو عمل أدبي يَسمَح للجمهور بالتفريغ النفسي، ثم يختفي دون أن يترك أثرًا مستدامًا.
يُلاحَظ في هذا الفنّ –كذلك- أنّه يقوم ضمن إطار هامش مُتحكَّم به من الحرية، حيث يُسمَح له بالظهور طالما بقي داخل دائرة النقد العام، دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء المرتبطة برموز الحكم أو بنيته العميقة، وهذه "الحرية المؤطرة" تمنحه شكلًا من المشروعية المؤقتة، لكنها في ذات الوقت تحدّ من قدراته على إحداث أي تأثير فعلي.
أما من حيث المضمون، فيعتمد فنّ التنفيس على الطابع الرمزي والتلميحي، متكئًا على التورية، والسخرية، والغمز الخفي، كوسائل للالتفاف على الرقابة وتفادي القمع، ورغم ما يحمله من تعبير صادق عن مشاعر الناس، فإن دوره غالبًا ما ينحصر في تسكين الغضب وتفريغ الاحتقان بدل توجيهه نحو الفعل، فبدل أن يزعزع الواقع أو يعيد مساءلته، يُعيد إنتاجه بشكل قابل للهضم، يمنح المتلقي شعورًا عابرًا بالراحة أو الانتصار الرمزي، ثم يُعيده إلى واقعه كما هو.
نشأة فنّ التنفيس وتطوّره في العالم العربي
شكّلت نكسة حزيران/يونيه 1967 نقطة انطلاق لفنّ التنفيس في العالم العربي، إذ أدّت الهزيمة إلى حالة إحباط وغضب شعبي مكبوت لدى الجماهير العربية التي لم يُسمح لها بالتعبير الحرّ، وقامت الأنظمة الحاكمة بإحكام القبضة والرقابة الأمنية عليها.
ومع تزايد مستويات الإحباط والغضب الشعبي، تولّد عند تلك الأنظمة الحاكمة خوف على صورتها، وبدلًا من أن تقوم بمراجعة سياساتها السلطوية، لجأت إلى استخدام الثقافة في شكل تجميلي لتلميع صورتها، ومن هنا نشأ "مسرح التنفيس" كفن يُعبّر عن السخط الشعبي ضمن حدود ضيقة، لا تَسمَح بالمساس بالسلطة ولا تؤدي إلى نشوء حركة احتجاج واعتراض حقيقية من شأنها تغيير الواقع.
يُعدّ "مسرح الشوك" في سوريا من أوائل أشكال فنّ التنفيس التي برزت بعد نكسة حزيران 1967، وقد أسّسه الفنان عمر حجو أواخر الستينيات، وقدّم عروضًا ساخرة قصيرة تنتقد البيروقراطية، والفساد، والمبالغة في الخطاب السياسي، دون أن تقترب من الخطوط الحمراء المرتبطة بالجيش أو الرئيس.
في السنوات اللاحقة، تابع الفنان دريد لحام والمخرج خلدون المالح والكاتب محمد الماغوط، وهم من مؤسسي "مسرح الشوك"، مسيرتهم المشتركة من خلال "فرقة تشرين"، التي قدّمت عددًا من أبرز أعمال المسرح السياسي في سوريا، وجاءت مسرحيات مثل "ضيعة تشرين"، و"كاسك يا وطن"، و"شقائق النعمان" نتاجًا مباشر لهذا التعاون، حيث استمرت في تقديم نقد ساخر للواقع اليومي، مركزة على قضايا مثل الفساد والبيروقراطية وتضخيم الخطاب القومي، لكن دون تجاوز الخطوط الحمراء، وقد منحت هذه العروض الجمهور شعورًا مؤقتًا بالتنفيس، إلا أنها بقيت ضمن النقد المسموح، دون أن تترك أثرًا فعليًا في بنية النظام السياسي أو تزعزع استقراره.
في المقابل، قدّمت تجارب أخرى، أبرزها تجربة سعد الله ونوس، رؤية مختلفة للمسرح، تقوم على تسييس المتلقي وتوعيته بدل تهدئته، تأثر ونوس في مسرحه بأفكار برتولت بريخت، وسعى إلى تحويل المسرح إلى أداة للمساءلة والتحريض، لا وسيلة للتفريغ والراحة، وفي هذا السياق، انتقد ونوس بشدة ما سمّاه "مسرح التنفيس"، معتبرًا أنه يفرّغ طاقة الغضب بدلًا من أن يحوّلها إلى وعي وفعل، وقد كتب في "بيانات لمسرح عربي جديد" عام 1970 أن المسرح الحقيقي يجب أن يُقلق المتفرج، لا أن يريحه، وأن يُعزز شعوره بالغضب لا أن يخفّف منه.
ومن الأساليب الأخرى التي استخدمها النظام السوري في إدارة فنّ التنفيس، نشر أعمال لمعارضين سياسيين أو سجناء سياسيين سابقين، مثل كتاب "أصابع الموز" لغسان الجباعي، الذي نشرته وزارة الثقافة، دون توزيع داخلي حقيقي، واعتمدت على تسويقه خارجيًّا لتلميع صورة ديمقراطية زائفة، وكذلك إنتاج أفلام مثل "نجوم النهار" الذي أنتجته المؤسسة الرسمية العامة للسينما، ثم مُنع عرضه في صالات السينما السورية، رغم السماح له بتمثيل سوريا في المهرجانات السينمائية، ما يكشف عن سياسة مدروسة في التحكّم بمساحة التعبير، بحيث يبقى الفنّ أداة لتلميع صورة النظام في الخارج.
في مصر، انتشر أيضًا فنّ التنفيس بعد النكسة، خاصة من خلال المسرح، وظهرت عروض مثل: "مدرسة المشاغبين" و"العيال كبرت" و"انتهى الدرس يا غبي" وغيرها، حيث جُمعت الكوميديا مع نقد اجتماعي خفيف الظل، كما أن بعض الممثلين، مثل محمد صبحي وسعيد صالح، حاولوا تقديم نقد أعمق ضمن أطر مسرحية تسمح بالضحك والتأمل في آن.
في لبنان، ظهر فنّ التنفيس بشكل واضح خلال سنوات الحرب الأهلية (1975–1990)، حيث لجأ الفنانون إلى الكوميديا الرمزية والسرديات المسرحية التي تُلامس حدود النقد السياسي والطائفي، دون مواجهة مباشرة مع مراكز السلطة والنفوذ، كما كان للأخوين عاصي ومنصور الرحباني دور بارز قبل هذه المرحلة، عبر مسرحيات مثل "موسم العز" (1960) و"ناطورة المفاتيح" (1972)، التي قدّمت نقدًا مبطّنًا للسلطة من خلال حكايات رمزية عن الظلم والعدالة والانتماء، ورغم اعتمادها على الحب والفلكلور اللبناني، فإنّ هذه الأعمال حاولت تصوير التوترات الاجتماعية والسياسية بلغة محبّبة للجمهور، مما سمح لها بالوصول إلى شرائح واسعة دون إثارة حساسية السلطة، لا سيما مع وجود دعم رسمي تمثّل في احتضان مهرجانات بعلبك لهذه العروض.
على الضفة المقابلة، جاء زياد الرحباني ليكسر هذا النموذج تمامًا، إذ قدّم مسرحًا مباشرًا وجريئًا يقوم على السخرية من السلطة والطائفية والواقع اللبناني اليومي، فأعماله مثل "بالنسبة لبكرا شو" لم تكتفِ بالرمزية، بل دخلت في تفاصيل الحياة اللبنانية بأسلوب ناقد وصريح، اتسم أحيانًا بالشتائم والمواقف السياسية الواضحة، بهذا المعنى، مثّلت مسرحيات زياد الرحباني شكلًا متقدّمًا من فنّ التنفيس، تجاوز الأطر التقليدية وسعى إلى زعزعة الصور النمطية بدل إعادة إنتاجها.
وعلى الرغم من خصوصية السياق الفلسطيني، إلا أن بعض المؤسسات مثل" مسرح الحرية" في جنين و"مسرح عشتار" في رام الله، قدّمت عروضًا تقوم على مبدأ "مسرح المقهورين"، وتتيح نوعًا من التعبير الجماعي عن القهر السياسي والاحتلال، لكن دون أن تُحول المسرح إلى أداة صدام مباشر مع السلطة القائمة.
مع تطوّر هذه التجارب، أصبح واضحًا أنّ فنّ التنفيس العربي قد ترسّخ بوصفه فنًّا له تقنياته وأهدافه، ولكنّه أيضًا يندرج ضمن بنية ثقافية تقبل النقد فقط إذا كان غير مباشر ومحدودَ التأثير.
تحوّل فنّ التنفيس إلى أداة ضبط اجتماعي
رغم بداياته التي كانت تحمل قدرًا من الجرأة أو التجريب، تحوّل فنّ التنفيس في العالم العربي إلى وسيلة شبه رسمية لضبط التوتر الاجتماعي والسياسي، وأداة من أدوات السيطرة الناعمة، وقد تجلّى هذا التحوّل في مظاهر عدّة.
تمثّلت إحدى هذه المظاهر في الرعاية الرسمية أو التساهل المقصود من قبل السلطة، فكثير من الأعمال الفنية التنفيسية تلقّت دعمًا غير مباشر من أجهزة الإعلام الرسمية أو وُضعت في أوقات الذروة، لأنها تُفرّغ مشاعر الجماهير وتُعطيهم انطباعًا كاذبًا بوجود حرية.
كما برز هذا التحول بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، حيثُ تصاعد فنّ التنفيس بأشكال جديدة، أبرزها البرامج الساخرة مثل "البرنامج" مع باسم يوسف في مصر، ومسلسل "ببساطة" في سوريا، وعلى الرغم من شعبيته، كان لبرنامج "البرنامج" تأثير سلبي على عملية التحوّل الديمقراطي في مصر، إذ أسهم في تصعيد الانقسامات السياسية وأدى بشكل غير مباشر إلى إسقاط أول حكومة مدنية، مما يوضّح حدود فنّ التنفيس وتأثيره في السياقات السياسية المضطربة.
مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، انتقل فن التنفيس في السياقات العربية إلى الإنترنت وعروض الـ"ستاند أب كوميدي"، من خلال النكات، الفيديوهات الساخرة، والميمات، وقد أصبحت عروض الـ"ستاند أب" منابر بديلة للتعبير عن التململ الاجتماعي والسياسي، وهي التي يَعرض فيها الفنانون هموم الناس اليومية بلغة ساخرة وجريئة، تقف أحيانًا على حدود الخطّ الأحمر، لكنّ هذا الانتقال لم يلغِ الرقابة، بل زادت مراقبة الأفراد، وسُجن كثيرون بسبب محتوى رقمي ساخر أو ناقد.
وبعد الانتكاسات التي تعرضت لها ثورات الربيع العربي، باستثناء سوريا التي ما تزال تسير في طريق التحوّل نحو الديمقراطية، برزت الوظيفة النفسية والسياسية لفنّ التنفيس بشكل أوضح، إذ أدركت الأنظمة السلطوية الحاكمة في العالم العربي أن السماح بالتنفيس عن الغضب الشعبي أقل ضررًا من كتمانه، فوفّرت للجمهور قنوات يمكُنِهم من خلالها التعبير عن استيائهم، لكن بشروط صارمة تمنع تحول هذا التعبير إلى تحرّك سياسي أو احتجاجي فعلي، وبذلك، عاد فنّ التنفيس جزءًا من استراتيجية السيطرة التي تستخدمها تلكَ الأنظمة؛ إذ يَسمح بتعبير محدود، لكنّه يُعرقل التغيير الحقيقي.