في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، دخلت قريتي (50 كيلومتر جنوب غرب دمشق) عصر الكهرباء، مع عشرات القرى الأخرى في ريف دمشق. وإثر الكهرباء جاء التلفزيون، صندوق الدنيا الذي سيجعل هؤلاء القرويين يعيدون اكتشاف العالم، ليعرفوا أنه أوسع بكثير، وأغنى بكثير، مما كانوا يظنون.
لم تكن الأخبار هي وجبتهم المفضلة، إذ سرعان ما أدركوا أنها مجرد خطابات تصدع الرأس. وكذلك لم يكن البرنامج الزراعي "أرضنا الخضراء" هو الذي يدعوهم للتحلق حول الشاشة الصغيرة. كانوا فلاحين أبًا عن جد، فسهل عليهم التأكد أن البرنامج يصنعه أناس لم يروا حقلًا أو بستانًا من قبل. كانت الدراما هي بهجتهم، وقد فتنوا بحكاوي الحياة المتنوعة، تجسدها أمامهم صور على هيئة رجال ونساء.
كانت الدراما السورية ما زالت تتلعثم بأعمال لا يعرف صناعها إلى أي جمهور يوجهونها، ولا ماذا يريدون منها بالضبط. أما الدراما اللبنانية، فشكلت صدمة الفنتازيا الأولى، إذ تمحورت حول شخوص غريبي الأطوار، يصرون على التكلم بالعربية الفصحى دون أن يفصحوا عن مكانهم أو زمانهم أو ما هي مشكلتهم بالضبط!
وهكذا ظلت الدراما المصرية هي المادة الأساسية للفرجة، والدافع الفعلي لانخراط المزيد من المستجدين في لعبة الصور والألوان المسحورة. لهجة جميلة محببة، ممثلون بارعون وممثلات جميلات، قصص شيقة بحبكات تحبس الأنفاس.
غير أن هذه الدراما المبهرة جعلت "بلدياتي" يتوهمون أن التلفزيون وُجد، أساسًا وأبدًا، ليتحدث عن أناس غيرهم، عن عالم غير عالمهم. ظنوا أن حياتهم الرتيبة البسيطة وقراهم المنعزلة لا تصلح لأن تكون مادة للفرجة، مادة للدراما، إلى أن عثروا ذات ليلة سعيدة على مسلسل مختلف يبثه التلفزيون الأردني الذي كان يتفوق بقوة بثه على تلفزيونهم الوطني.
يحكي المسلسل عن فلاحين يشبهونهم (حتى يكادوا يكونوا هم أنفسهم)، يقطنون قرية تشبه قراهم، يلبسون مثلهم ويتكلمون لهجتهم، والأهم هي القضايا التي يدور حولها المسلسل: معاناة الفلاحين اليومية في زراعة أرضهم وفي تصريف منتجاتهم، ومجابهتهم الشجاعة، واليائسة أحيانًا، مع جشع التجار وسياسات المسؤولين غير المواتية. وتكر السبحة وتتكاثر المسلسلات الشبيهة: "شمس الأغوار"، "قرية بلا سقوف"، "الطواحين"، "جروح"، "بير الطي"، "المحراث والبور".
ورغم حداثة عهد هؤلاء المتفرجين بلعبة الدراما وكواليسها، ومع أنهم ما كانوا يعبأون بأسماء المؤلفين والمخرجين والفنيين، فإنهم سرعان ما فطنوا إلى أن خيطًا ما ينظم جميع هذه الأعمال، وأن من يمسك بهذا الخيط رجل اسمه محمود الزيودي.
وسوف يظل هذا الاسم محفوظًا، مع كثير من التقدير، في أذهان الملايين في آلاف القرى الأردنية والسورية واللبنانية. فإذا كان آخرون قد سبقوا الزيودي في إدخال الدراما إلى حياة هؤلاء، فإن الزيودي كان أول وأهم من أدخل حياتهم إلى الدراما.
دراما الحياة اليومية
ولد محمود الزيودي عام 1945 في قرية غريسا، بمحافطة الزرقاء في المملكة الأردنية الهاشمية. درس المرحلة الابتدائية في مدرسة القويره في البادية الجنوبية، وعمل في مرحلة مبكرة من حياته في قوات البادية من عام 1961 إلى 1972، ثم عمل في إذاعة المملكة كمنتج برامج من عام 1972 إلى 1978، ثم رئيسًا لقسم الفنون الشعبية في وزارة الثقافة الأردنية من عام 1980 إلى 1994. وإضافةً إلى كتابته نحو أربعين مسلسلًا تلفزيونيًا، يحوي سجله عشرات البرامج المنوعة والأعمال المسرحية والإذاعية، وعددًا من الأفلام القصيرة.
وإذا كان كُتّاب كُثر يفاخرون بأنهم يواظبون على الذهاب إلى البيئات التي يكتبون عنها، لينهلوا منها قصصًا ونماذج ومفردات، وليحققوا قدرًا من المعايشة، فإن الزيودي سلك طريقًا معاكسًا، جاء من الحياة الحقيقية التي عاشها بالفعل (ولم يعايشها). وعندما جلس إلى طاولة الكتابة، كانت المادة الخام الغنية جاهزة بين يديه وتحتاج فقط إلى أن تُصَب في قوالب فنية معينة. لقد كان هو نفسه واحدًا من شخوصه الدرامية، وما ساعات كتابته الطويلة إلا مجرد فواصل تتخلل حياته الواقعية الثرية بالتجارب والحكايا.
كان الزيودي، وظل، قرويًا بدويًا يعرف عادات أهله وتقاليدهم، ويحفظ أشعارهم وسوالفهم، ويشاطرهم مفاهيمهم ورؤاهم، أحلامهم وهواجسهم. ومن هنا كانت هذه الأصالة المميزة لنصوصه التلفزيونية، وهذه المحاكاة المتقنة المتسمة بالكمال لعالم القرية الأردنية العربية.
وأولى علامات ذلك هي "اللغة" التي أنطق بها شخصياته. ولم يكن ممثلو مسلسلاته بحاجة إلى الاكتفاء بلوي ألسنتهم ليثبتوا أنهم قرويون، بل تكفلت حواراته بما هو أعمق من ذلك، إذ جاءت مترعة بالمفردات المشحونة بالدلالات والإحالات الدقيقة إلى واقع القرية ومكوناتها وهمومها الخاصة وطريقة عيشها. ونجح الزيودي في تحقيق معادلة صعبة: حوارات تنتمي بالفعل للشخصيات وبيئتها وعالمها، وتكون في الوقت نفسه مفهومة للعموم، لكل من يفهم العربية تقريبًا.
وشخصيات دراما الزيودي هي شخصيات واقعية بامتياز، موجودة في سياقها وأمينة لمنطقها، لا تُكره على قول ما يصعب عليها قوله، ولا تُقسر لتحمل دلالات وقضايا أكبر منها. وفي الوقت الذي تكون فيه الشخصية كاملة بحد ذاتها ومتسقة مع منبتها ووضعها، فهي أيضًا تصلح لأن تكون نموذجًا قابلًا للتعميم، ومؤهلًا لحمل رسالة والمساعدة في توضيح الدلالة العامة لكل عمل.
وتتعدد الشخصيات ـ النماذج وتتنوع: شيخ القرية ـ القبيلة (العود)، الذي يمثل استمرارًا للعادات الموروثة والحريص على بقاء نمط العيش القديم نفسه؛ الشاب الطامح للشيخة باستخدم أدوات جديدة من خارج الأعراف المألوفة؛ القروي المواظب على العمل ذاته بالأدوات القديمة نفسها؛ القروي الذي يحلم ببيع كل شيء من أجل نمط حياة آخر متوهم؛ المتعلم المنسلخ عن مجتمعه، والمتعلم المثقف الذي يعود حالمًا بمساعدة مجتمعه على التطور والتجدد؛ المرأة الساذجة، المرأة الطموحة المستنيرة.
ولا تنقسم الشخصيات هذه بين لونين: أبيض وأسود، ليس هناك أخيار وأشرار. فالشخصيات التي تلعب دورًا سلبيًا، ومخربًا أحيانا، فإنما تفعل ذلك لا لكونها شريرة بالفطرة بل لأنها تمتلك مفاهيم خاطئة، طموحات جامحة غير محسوبة، أحلامًا هي أوهام في الحقيقة، وكذلك فهي تبدي استجابات غير مناسبة لتحديات العصر ومتطلبات التغيير.
التقاط لحظة فارقة
يدور مسلسل "شمس الأغوار"، (1980)، حول هموم مزارعي الأغوار الأردنية في حماية محاصيلهم (الخضروات) وتأمين سوق عادلة لها. وحول هذا الموضوع أيضًا، يدور مسلسل "بير الطي"، (1984). ويحكي مسلسل "قرية بلا سقوف"، (1981)، عن قرية "غريسا" في مواجهتها للظروف المستجدة الصعبة التي أجبرت أهلها على الرحيل. ويحكي مسلسل "جروح" عن بيع الأرض وإهمال تربية الماشية، وهما عماد الحياة الاقتصادية للقرية آنذاك، لصالح مشاريع شبه وهمية تُضيّع ملامح الريف وتدمر طريقة حياته وتضع القرويين تحت رحمة السماسرة وتجار الصفقات السريعة.
مادة بالكاد تصلح لأن تكون موضوعًا لأفلام تسجيلية وبرامج توعية تنموية، غير أن الزيودي جعل منها، مع ذلك، مسلسلات درامية ذات جودة فنية عالية، وأحد أسرار الصنعة تجسد في كونه حكّاءً من طراز رائع. لقد برع في سرد حكايات كثيرة ممتعة، كما برع في صناعة حبكات متينة بذرى درامية وإيقاع سريع لا يعرف الرتابة. واستطاع أن يجدل قضايا القرويين مع مفردات تراثهم وقصص حبهم وتحولات حياتهم وأحلامهم ومخاوفهم في ضفيرة واحدة محكمة، فلم تأت القضايا نافرة، ولم تثقل العمل بمواعظ ودروس وشعارات.
شهدت الثمانينيات من القرن الماضي توهج دراما الزيودي القروية. وفي هذا ما يشهد على ما تمتع به الرجل من ذكاء في التقاط اللحظة المفصلية الفارقة في تاريخ القرية، في الأردن وكثير من البلدان العربية. لقد كانت مرحلة انتقالية صعبة، حيث القديم كان يحتضر والجديد يلوح في الأفق دون أن تكتمل ملامحه، ولا حتى تبدو على قدر من الوضوح. كانت القرية بصورتها المعهودة التقليدية على وشك الأفول، فيما البديل مقلق ولا يبعث على الاطمئنان. ومقابل بيع الأرض الزراعية والتخلي عن قطعان الماشية، كان المطروح مصانع منظفات وعلكة وسلع أخرى لا يحتاجها أحد، وضواح محدثة لا هي بالقرية ولا هي بالمدينة، أمكنة بلا ملامح ولا روح ولا وظيفة حقيقية.
هذه هي القضية الأساسية التي التقطها الزيودي ليصوغها في عدد من المسلسلات الجميلة، مصورا البشر الحائرين بين الحنين إلى ماض يمضي وقادم لا يبعث على الطمأنينة.
في مسلسل "جروح" يقف سالم الحامد، شيخ الديرة ـ القرية وحامي إرثها وتقاليدها، في مواجهة جروح الذي يبيع أرضه، ويشجع الآخرين على ذلك، ليشارك رجل أعمال مدينيًا في مصنع للمنظفات يقام في أراضي القرية. وإذا كان خيار جروح يمنى بالفشل الذريع، فإن إشارات كثيرة توحي بأن خيار سالم لم يعد متاحًا أو ممكنًا أيضًا. ويقترح الزيودي طريقًا ثالثًا يتمثل في الدكتور ماجد، أستاذ الاقتصاد العائد من دراسته في أوروبا، والذي يرى إمكانية التجديد ومواكبة العصر من داخل حياة القرية وإمكانياتها ومتطلباتها، فيشرع في إقامة مصنع للألبان يستثمر الثروة الحيوانية الموجودة ويعمل على دعم بقائها وديمومتها.
ولقد توفر لمحمود الزيودي شركاء ساهموا في إخراج نصوصه إلى النور بهذه الصورة المشرقة. مخرجون مثل: سعود الفياض خليفات، وعزمي مصطفى، وبسام سعد. وممثلون وممثلات كثر، منهم: جميل عواد، جولييت عواد، لينا التل، زهير النوباني، إبراهيم أبو الخير، عبد الكريم القواسمي، ريم سعادة، محمد عواد، محمد العبادي، حابس العبادي، داود جلاجل.
مع نهاية الثمانينيات، أو بعد ذلك بقليل، بدأت الدراما القروية التي أرساها الزيودي بالأفول، ربما لأن الزمن تغير، والقرية التي ألهمت كل هذه الأعمال لم تعد موجودة. غير أن هذا يبرر انحسار مشروع محدد فقط، فالقرية لا تزال موجودة، وأيًا كانت صورتها الراهنة ونمط حياتها فهي لا تزال ولادة لدراما شيقة وضرورية. إذن، بانتظار كاتب من طراز محمود الزيودي، وإن برؤية جديدة وأدوات أخرى مختلفة.











