في مراهقتنا، لم تغادر أغنية الفنان محمد منير "أم المريلة الكحلي"، ألبوم "يا إسكندرية" (1990)، كلمات صلاح جاهين؛ خيالنا أبدًا، خاصةً صورها التي كانت تتشكل في أذهاننا، ونستعير ملامحها من صور فتيات الثانوية.
تعلّق جيل كامل بهذه الأغنية حتى أصبحت جزءًا حميميًا من ذكريات مرحلة المراهقة التي فارقناها مع انتقالنا إلى الجامعة، حيث بدأنا نتعرف على عمرو دياب وغيره من فناني الجيل الجديد. ورغم ذلك، لم نتخلَ عن منير الذي ظل رفيقنا وحاضرًا بيننا طوال فترة الجامعة وما بعدها.
لم تكن "أم المريلة الكحلي" الأغنية المميزة الأولى لمنير، إذ سبقتها عدة أغنيات مهمة مثل "وسط الدايرة"، التي بدأ بها منير مشواره مع أحمد منيب وفرقة هاني شنودة. ولا أبالغ إذا قلتُ إننا تعلقنا بعد أن تجاوزنا مرحلة المراهقة بأغنيته في مسلسل "بكار" للأطفال، لما حملته من براءة وقيم عكسها المسلسل، الذي كان يشاهده الكبار قبل الصغار، ربما، بفضلها.
الغناء، السينما، التلفزيون، والمسرح
استطاع محمد منير أن يرسم لنفسه خطًا لم يُحد عنه، على العكس تمامًا ممن ظهروا معه من مطربين انفصلوا جميعهم عن بداياتهم. غنّى للناس والحياة والحب والفرح وحافظ على الرابط الذي عرفه به جمهوره: الأغنية النوبية. ففي كل ألبوم له تجد امتدادًا للفلكلور النوبي وتراثه، وبعضها يتجاوز مصر ليشمل السودان بأكمله على سبيل المثال.
ومع أن الكثير من أغانيه عكست خصوصية المجتمع النوبي، إلا أنه استطاع بأسلوبه الفريد، ومن خلال تغيير بعض الكلمات، أن يجعل منها أغاني موجهة للجميع لدرجة أنها كانت تُغنّى في الأفراح والحفلات.
بدأت رحلة منير للبحث عن صوته الخاص مبكّرًا، وتحديدًا بعد تخرجه من قسم الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون في كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان. بعد التخرج، بدأت علاقته تتوطد بالمثقفين وتتسع دائرة اتصاله ببيئته النوبية، وهناك تعرف على زكي مراد الذي استمع إليه وأُعجب بصوته وتعرّف من خلاله على أحمد منيب، لتنشأ بينهما علاقة من نوع خاص، إذ راح يُدرّبه على ألحان أغنياته، إلى جانب أغنيات نوبية وأخرى غير نوبية.
لكن النقلة المهمة في مسيرته تمثلت في تعاونه مع الموسيقار هاني شنودة وفرقته "المصريين"، التي انسجمت سريعًا مع فرقة منير التي كانت تتكون من الفنان أحمد منيب والشاعر عبد الرحيم منصور، الذي كان يغني كلماته كبار المطربين والمطربات في ذلك الوقت. وقد أسفر هذا التعاون عن أول ألبومات منير "علموني عنيك"، الذي صدر عام 1977، وحظي باستقبال جماهيري عبّر عن قبول الجمهور لمثل هذه الأغاني، وبدا بمثابة إعلان مع بوادر نجاح قادم حققه منير فعلًا.
تَبِعَ ألبوم "علموني عنيك" ألبوم بعنوان "بنتولد" صدر عام 1979. لكن القفزة المهمة في مسيرة منير حدثت عام 1981، عندما أصدر ألبومه "شبابيك" الذي حقق في حينها مبيعات هائلة وضعته على خريطة الغناء المصري والعربي، وجعلت منه رقمًا صعبًا في هذين المشهدين، بوصفه فنانًا يحمل سمات خاصة وبعيدة، كل البعد، عن التقليد أو التكرار. وبمعنى آخر: سمات الأصالة.
تستطيع أن تصف محمد منير بأنه الفنان الحقيقي الذي عبّر عن أحلام الكثيرين، وتناول مواضيع مختلفة تهمهم، بدءًا من الحب العذري في أغنيتي "وسط الدايرة" و"أم المريلة الكحلي"، ثم الأغنية الوطنية "لمّا النسيم" التي غناها في مسلسل "جمهورية زفتى" ليسري الجندي، وتحولت إلى أغنية عاطفية من الطراز الأول، أو هكذا رأها عشاقه، فصارت من أجمل الأغاني الرومانسية - بالإضافة إلى تلك التي غنّاها في "حدوتة مصرية" - مرورًا بتلك التي تخاطب الناس على اختلاف فئاتهم "في قلبي منازل شعبية"، وليس انتهاءً بالثورة التي غنّى لها "إزاي".
إضافةً إلى الغناء، دخل منير عالم التمثيل وقدّم عدة أدوار ما تزال الذاكرة الجمعية تحفظ بعضها، مثل دوره في فيلم "حدوتة مصرية" (1982)، مع المخرج يوسف شاهين، بطولة نور الشريف ويسرا. تكرر الأمر مرة أخرى عام 1986، حيث اختاره شاهين للمشاركة في فيلم "اليوم السادس"، مع الفنانة داليدا ومحسن محي الدين وسناء يونس وشويكار.
وفي عام 1997، اختاره شاهين مرة أخرى للمشاركة في فيلم "المصير"، الذي قدّم فيه دورًا مميزًا إلى جانب نور الشريف وليلى علوي ومحمود حميدة. وعدا عن يوسف شاهين، تعاون منير مع مخرجين كُثر، من بينهم خيري بشارة في فيلم "الطوق والإسورة" (1986)، وإنعام محمد علي في "حكايات الغريب" (1992)، وجوسلين صعب في "دنيا" (2006).
وشارك منير في بطولة مسلسل "علي عليوة" (1992) لنور الدمرداش، و"جمهورية زفتى" (1998) لإسماعيل عبد الحافظ، وصولًا إلى "المغني" (2016) لشريف صبري، الذي تناول حياة منير نفسه، وأثار غضب النوبيين لأنه، وفق تعبيرهم، يسيء لهم ولا يعبّر عن قضيتهم.
أما في المسرح، فقد غنّى في مسرحيات "الملك هو الملك"، و"الشحاتين" ، و"مساء الخير يا مصر". والخلاصة مما سبق أنه كان صاحب حضور في مختلف المجالات وقادرًا على تقمص الشخصيات وتجسيدها بكل سهولة مهما كانت تركيبتها، أو تكوينها الداخلي.
الشخصية الـ"قُلُب"
ظل محمد منير مستقلًا ومتفردًا حتى في إعادة تقديمه للأغاني القديمة، ومنها "أنا بعشق البحر"، و"شيء من بعيد نداني"، و"حكايتي مع الزمان"، و"الدنيا ريشة في هوا"، و"حارة السقايين".. إلخ. ما فعله أنه كان يُضفي صوته الخاص الممزوج بماء النيل على هذه الأغاني، فصرنا نسمعها بشكل جديد وأداء مميز وكأنها المرة الأولى التي نسمعها فيها.
غنّى العديد من الأغنيات، بعضها صار علامات مثل "يا بيوت السويس"، التي غنّاها في فيلم "الغريب"، وكذلك أغنيات فيلم "حدوتة مصرية"، و"المصير" الذي صارت أغنية "علّي صوتك بالغنى، ولسّه الأغاني ممكنة"، التي غنّاها فيه، من أيقونات الرفض والتمرد على كافة أشكال الوصايا الأبوية (السياسية والدينية)، وصولًا إلى أغاني مسرحية "الملك هو الملك".
تنقّل منير من نجاح إلى آخر، ومن المحلية إلى العالمية ليصبح، بلونه الأسمر وشعره المفلّفل وعَقد العنق، علامة مميزة، فقلّده الشباب في ملابسه وإكسسوراته أيضًا. كان يسير دون أن يدرك بأن هناك جيلًا كاملًا يتكشّل خلفه، وصار من المهوسين به.
وذات مرة، في حفلة أقيمت عند سفح الأهرامات لدعم ملف مصر لاستضافة بطولة كأس العالم 2010، سقط منير على المسرح بعد الاعتداء عليه من شاب أراد أن يسلّم عليه. وتُمثل هذه الحادثة نقطة فارقة في حياة منير، الذي بدأ يتخيّر مناطق حفلاته التي راحت تستقطب فئات معينة، فكانت إما في الساحل الشمالي أو في الأوبرا، أو في المنتجعات الفخمة في الغردقة والبحر الأحمر وغيرها.
هكذا بدأ منير يتجه إلى جمهور معيّن وبعيد عن ذلك الذي ولد معه منذ بداية رحلته الفنية في مقاهي وسط البلد بين المثقفين. وعلى الرغم من أنه يتباهى بأن كل أغنياته إلى مصر، فهي "الحبيبة في كل ما غنيت" كما قال في حوار مع مجلة "المصور" عام 1995؛ لكنه توجه إلى فئة أخرى يعجبها من منير طرزه وطريقة أدائه دون الانبهار بغنائه.
يمكن وصف شخصيته بأنها "قُلُب"، ذلك أنه لا يبقى على مزاج واحد. مثلًا، قرر مرة أن يهاجر إلى ألمانيا. وبالفعل، ذهب ثم عاد مرة ثانية، وأعاد السبب وقتها إلى شعوره بأن الجمهور قد خذله وأعطى نفسه لغناء أقل قيمة. وعندما شعر بأنه يكاد يفقد دفء الناس، رحل!
الشخصية "القُلُب" متعدّدة في مسيرة الـ"كينج". فعندما قرر أن يكسر لقب أشهر عازب في الوسط الفني، وتزوّج بشكل مفاجئ ودون مقدمات من داليا محمد يوسف ذات الأصول النوبية، والتي قابلها في أحد المطاعم في لندن؛ لم يمضِ على زواجهما سوى 50 يومًا، إذ طلّقها دون إبداء أسباب. وبعد الإلحاح من قبل الصحفيين، أوجز أحد المقربين منه سبب الطلاق في كلمة "الحريّة". فمحمد منير "يحب الحرية ولا يحب القيود حتى ولو كانت الزوجة". هكذا، بكل سهولة، أُغلق الملف وذهب إلى حفل تنصيب الرئيس الجديد منفردًا.
الكينج بين ثورتين
في أيام الثورة، قرّر منير أن يكون ثوريًا خالصًا. لمَ لا وهو المشبّع بالتمرد والخروج على السلطة أيًا كانت؟ كما أنه القائل إن: "الفنان بلا تمرد أو تحريض أقرب إلى التسلية، وأنا لن أكون مسلواتي مهما حييت".
لم يكن منير مسلواتيًا بل ثوريًا قديمًا؛ ألم يغنِ من قبل: "الدم على الأرض خريطة مشتاقة ليوم الحرية/ أشلائك بتلم جراحي/ يرتعش الغدر وترتاحي/ ويعود الحلم المسلوب"؟ لذا، ليس غريبًا أن يغنّي للثورة الجديدة وثوارها أغنيته الشهيرة "إزاي" التي اعتُبرت بمثابة النشيد الوطني للثورة، وإن كان سبقها بأغنية "أمجاد يا عرب أمجاد". يقول منير فيها: "أنا أقدم شارع فيكي/ وآمالك من اللي ماليكي/ أنا طفل اتعلق بيكي/ في نص السكه وتوهتيه/ أنا لو عاشقك متخيّر/ كان قلبى زمانه اتغيّر/ وحياتك لفضل أغّير فيكي لحد ما ترضي عليه".
الأغنية، التي كتب كلماتها نصر الدين ناجي، تثير الحماس وتحث أيضًا على التضحية من أجل الوطن، وقد استطاع محمد منير من خلالها ملامسة مشاعر الثوّار وإشعال حماستهم من بعيد دون النزول إلى الميدان. كما أن الثوار غفروا له أنه غنّى أيام مبارك أغنيته الشهيرة "أنا قلبي مساكن شعبية"، من ألبوم حمل الاسم ذاته وأنتجه 2001، التي بدأها بـ"الشعب حبيبي وشرياني".
وعندما غنّاها، أخبره من يعرف بواطن الأمور بأن الأغنية للشاعر السوداني محجوب شريف، وهي في الأصل إهداء من هذا الشاعر الشيوعي الثوري إلى حزبه، وكان منير قد غيّر كلماتها لتتماشى مع المرحلة الجديدة - كان رده على الأمر عجيبًا، حيث قال "هنا في مصر ما عندناش مشاكل بين الحاكم والمحكوم".
أما كلمات الأغنية الأصلية، فتقول: "الاسم الكامل إنسان/ الشعب الطيب والدي/ الشعب حبيبى وشريانى/ أداني بطاقة شخصية/ من غيرو الدنيا وقبالو/ قدامى جزائر وهمية/ لا لون/ لا طعم/ ولا ريحة/ وأنوار مطفية مصابيحها زي نجمه بعيده ومنسيّة).
قبل أن يدخل عامه الستين (مواليد 10 تشرين الأول/أكتوبر 1954)، طرح أغنيته الجديدة بمناسبة الاحتفالات بنصر أكتوبر بعنوان "مُتحيّز"، وهي أول تعاون بينه وبين أيمن بهجت قمر والملحن عمرو مصطفى. حينها، اعتبر البعض أن منير نَسيَ الثورة التي غنّى لها. لكن الحقيقة أنه لا شيء تغير في منير، فهو لم ينسَ الثورة لأنها لم تكن تعنيه في شيء! هي ذاكرتنا فقط التي وهنت ونحتاج ربما، من حين إلى آخر، إلى قراءة تاريخ الأفراد لندرك بأن محمد منير "قلبي مساكن شعبية"، هو نفسه محمد منير "متحيّز"، لا فرقَ بينهما إلا الرجل الساكن في القصر فقط. مَن قال إن محمد منير كان بعيدًا عن السلطة ذات يوم؟ على العكس، هو متواجد دائمًا في الوقت والمكان المناسبين.
غنّى منير للانتفاضة الفلسطينية أغنية "القدس"، من ألبومه "بريء" (1986). كما غنّى للبنان، ولبطلة جنوبه سناء محيدلي، في "أتحدى لياليك"، من ألبوم "وسط الدايرة" (1987)، يوم كانت لبنان رمزًا للمقاومة ضد الكيان الغاصب، وكانت وانتصاراتها انتصارات للعروبة بأكملها.
ومع ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، غنّى "إزاي". وعندما قامت ثورة 30 حزيران/يونيو 2013، غنّى أغنيته الشهيرة "متحيّز". ألم أقل أنه يختار لحظة ومكان تواجده؟ وهذا لا يعيبه، فهو حدد هدفه، وسار نحوه.
مع وصوله إلى سن السبعين في أكتوبر الماضي، بدأت علامات المرض تظهر عليه لكنه، مع ذلك، حضر احتفال تجمّع العائلات المصرية، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، احتفالًا بنصر أكتوبر. كان يبدو عليه المرض وهو يمشي ببطء مستندًا إلى أحد مساعديه أو أصدقائه. لكن ما إن صدح بالغناء حتى عاد منير الشاب صاحب الصوت القوي، وكأن صوته لا يعترف بالعمر أو المرض، وكلاهما يشير إلى أنه يجب عليه التوقف عن الغناء، وهو ما يرفضه منير لأن ذلك بالنسبة إليه يعني "التوقف عن الحياة".
لا تفارق الملك الإشاعات. تطارده كما تطارد الفراشات ألسنة اللهب. فثمة هذه الأيام إشاعة تقول إنه مريض ونقل إلى المستشفى، حيث يعاني مشاكل في القلب. ومع كل إشاعة، يخرج المقربون منه بتصريحات تنفي مثل هذه الإشاعات.











