برحيل المخرج السويسري ريتشارد ديندو (Richard Dindo) ستكتُب السينما السويسرية على "الكلابر بورد" مشهدًا حزينًا بتوقيت الـ 12 من شبّاط/ فبراير الماضي، وتُعلن الحداد عن فقدان أحد صنّاع الأفلام الملتزمة في تاريخها، ممن برزوا في تصوير الذاكرة المهمّشة، وتقفّي أثر المتمرّدين والثوار والشعراء، من أمثال آرثر رامبو وكافكا وتشي غيفارا.
لم يكن المخرج ديندو باحثًا عن شخصيات مشهورة، ولكنه سعى لإحياء ذاكرة المنشقّين عن النظام السائد والخارجين عن الاستبداد والتقاليد البالية والثيوقراطية، مشغلًا عدسته للبحث الدقيق في ظروف ملاحقتهم ومحاصرتهم وقتلهم، ليقترب من حقيقة ما حدث فعلًا بعيدًا عن الكليشيهات.
كان المخرج الراحل يقول: "هناك بعض الأموات الذين لا يستحقّون أن ننساهم بسرعةٍ. كانوا يَحْلُمون بالثّورة وبمُثلٍ جديدةٍ وبطُوبَاوِيَّة قِوامُها سعادة البشر. لست مخرجًا ملتزمًا، لكنني مخرجٌ يهتمّ كثيرًا بالتزام الآخرين الذين حملوا السّلاح وناضلوا ميدانيًّا وحاولوا أن يعطوا معنى لوجودهم، حتى وإن كانوا يُدركون أن الموت هو مصيرهم المحتوم".
لقد صوّب ريتشارد ديندو دائمًا عين الكاميرا على ذاكرتنا الجماعية منحازًا للقضايا العادلة ليكون بذلك سينمائيًا لذاكرة المهزومين الذين تمرّدوا وأصرّوا على إعلاء صوتهم بقولهم "لا" أو "يمكن فعل ذلك بطريقة مختلفة"، ولم يخل التزامه من أعمال فنية وجمالية بتصوير أفلام وثائقية تروي الوجه الآخر من الحقيقة المطموسة عمدًا، كي لا يرى العالم وجهها القبيح في مرآة الشخصيات التي أبيدت. فالصورة، كما يقول ديندو، في الصحراء يجب أن نذهب لنبحث عنها.
لقاء مع المخرج
قبل عام تقريبًا، شاءت الصدفة أن ألتقي بديندو، إذ كان مدعوًّا للمهرجان الدولي للشعر بسيدي بوسعيد في تونس، فقد اختار منظموه أن تحمل دورته عروضًا للسينما الشعرية من بينها فيلم ديندو حول حياة الشاعر آرثر رامبو (Arthur Rimbaud une biographie)، من خلال عيون أولئك الذين كانوا يعرفونه جيدًا.
في أحد تلك الصباحات الملهمة من مهرجان الشعر الدولي، كانت القاعة في المعهد الثقافي الفرنسي مفعمة بالحماس. في قاعة سينمائية يغمرها ضوء خافت، كانت الأنفاس محبوسة في انتظار بدء العرض. على الشاشة، تجلّت حياة آرثر رامبو، الشاعر الذي حمل بين كلماته تمردًا وعاطفة، وبين خطواته هروبًا دائمًا نحو المجهول.
لم يكن الفيلم مجرّد استعادة لسيرته، بل رحلةً عبر ثلاثة فصول: "صحارى الحب"، حيث بدأت الأحلام تتشكل وسط قسوة العالم، "موسم في الجحيم"، حيث اشتعل الصراع بين العبقرية والألم، و"الملاك في المنفى"، حيث انتهت الرحلة بالضياع والصمت.
عند انطفاء آخر مشهد، أضاءت الأنوار، ليعمّ القاعة سكون ثقيل. في تلك اللحظة، وقف رجل في الثمانين من عمره، ملامحه تنبئ عن سنوات من البحث والالتزام. كان ذلك ريتشارد ديندو، المخرج السويسري الذي صوّرت كاميراته حكايات الثوار والشعراء والمنفيين.
بصوته العميق، بدأ نقاشه لا كإجابات جاهزة، بل كسردٍ آخر، حيث امتزجت ذكرياته بسيرته السينمائية، شاهدةً على رجل لم يتوقّف عن طرح الأسئلة الحارقة، إذ يذكر المخرج السويسري أن هذا الفيلم الشعري لم يحظَ بشعبيةٍ كبيرةٍ في فرنسا ولم ينل إعجاب الفرنسيين، فهم يفهمون رامبو بشكلٍ أساسي على أنّه كناية عن الشاب المتمرّد والشاعر، وهو ما يشبه أسطورة شاعر الأطفال.
يستطرد قائلًا: "أنا أعارض الذاكرة للأسطورة. في فيلمي، يحكي رامبو حياته الحقيقية من خلال أشعاره ورسائله، ويتحدث عنه الأشخاص الذين يعرفونه، مثل والدته، وأخته، وصديقه، ومعلمه، والشاعر فيرلين الذي لعب دوره الممثلون، حتى وفاته. الفرنسيون لا يريدون أن يصبغوا رامبو ولا يريدون أن يعرفوا من هو حقًا وماذا أصبح كرجل. لذا، فقد تعرض فيلمي للوم تمامًا وتم شحنه إلى فرنسا، ويمكنني القول إنّه تم تدميره".
تواصلت لقاءاتي مع ديندو أيّام المهرجان الشعريّ في أزقّة ومقاهي سيدي بوسعيد الزرقاء، وكان لا يتوقّف عن الحديث عن صناعة الأفلام ولم أتوقف عن الأسئلة عن حياته ورؤيته السينمائية، عن أفكاره ومُنجزاته، عن ماذا أراد أن يقول من خلال فنّه وهل كان الأمر يستحق كل هذا العناء. شربنا شايًا أخضر وحدثني عن نساء عبرنَ حياته، عن الشعر والصورة، وكيف كان يريدُ أن يُصوّر الغياب في أفلامه. كان ديندو اكتشافًا مهمًا في تلك الأيام الشعرية. كان قصيدة مشعّة وطفلًا ما زال مندهشًا من هذا العالم. في أحد حواراته كان يقول: "لا أصدق أنني صنعت كل هذه الأفلام. أتخيل أحيانًا أنني أحلم وأنني أنهض في الحلم لإنجاز فيلم، ثم أعود إلى النوم".
البدايات ورحلته مع الكاميرا
كان حفيدًا لمهاجريْن إيطاليين، فقد وُلِد ريتشارد ديندو في زيورخ السويسيرية عام 1944. وفي سن الخامسة عشرة، بدأ السفر ومارس عدة وظائف لتأمين لقمة العيش، استقر في باريس عام 1966، حيث تكوّن ذاتيًا من خلال قراءاته وارتباطه الوثيق بالسينما الفرنسية. شهد أحداث أيار/مايو 1968 التي عرفت انتفاضة العمال والطلبة في فرنسا وأثرت فيه بعمق، وبقي وفيًا لمبادئها طوال حياته، ومن هذه التجربة، استلهم الجانب الأكثر التزامًا سياسيًا في أفلامه، مثل داني، ميتشي، ريناتو وماكس (1987).
احتل الفن أيضًا مكانةً مركزية في أعماله. فيلمه "آرثر رامبو، سيرة ذاتية" (1991) هو وثائقي يعتمد على "مقابلات خيالية" مع ممثلين يجسدون شخصيات عاصرت رامبو شخصيًا، ويتخلل العمل صوت الشاعر عبر نصوصه المقروءة بصوت جاك بونافيه راويًا حياة رامبو منذ طفولته إلى غاية وفاته المبكرة والمنعزلة في مرسيليا.
أما فيلم "من كان كافكا؟" (2005)، فيعتمد على أسلوبٍ مشابهٍ، حيث يمزج بين مشاهد تمثيلية مستوحاة من ذكريات معاصري الكاتب كافكا ومقاطع من يومياته، ليرسم صورة مزدوجة "داخلية وخارجية" للكاتب. وفي فيلم "أراغون، رواية ماتيس" (2003)، يجمع بين اثنين من المحاور الأساسية في أعمال ديندو هما الفن التشكيلي والأدب؛ إذ يُصوّر العمل الأماكن التي التقى فيها لويس أراغون وهنري ماتيس في نيس الفرنسية، ويربطها بكتابات أراغون حول أعمال ماتيس.
وسيتناول في عمله "غوغان في تاهيتي وجزر الماركيز" (2010)، السنوات الأخيرة للفنان غوغان بعد انتقاله إلى بولينيزيا عام 1891، من خلال كتابات الفنان نفسه. أما "شارلوت سالومون، حياة أم مسرح؟" (1992)، فيروي قصّة فنانة يهودية ألمانية شابة عاشت في المنفى بالقرب من نيس في بداية الأربعينيات، قبل أن يعتقلها الغيستابو (بوليس سري ألماني لعب دورًا في جرائم النازية وملاحقة اليهود) وتُرحّل إلى أوشفيتز (معسكر تعذيب في بولندا التي تحتلها ألمانيا) حيث لقيت حتفها هناك.
نصرته للقضية الفلسطينية
اشتهر ديندو في الأوساط العربية والدولية بنصرته للقضية الفلسطينية. ففي بداية سنة 2000، أنجز فيلمًا وثائقيًا بعنوان جان جينيه في شاتيلا (Jean Genet à Chatila)، إذ يُعتبر من أهم ما أُنجز عن القضية الفلسطينية وعن شهدائها، إذ يقتفي هذا الفيلم الطويل أثر الروائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه، مؤلف "أربع ساعات بشاتيلا" (Quatre heures à Chatila) و"الأسير العاشق" (Un Captif amoureux) متحدثًا عن ذكرياته مع الفلسطينيين في الأردن ولبنان، أثناء المحن الكبرى، في مخيمات صبرا وشاتيلا التي دخلها الكاتب الفرنسي الشهير غداة المجازر المتركبة من الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر أيلول/سبتمبر 1982.
ويحتفي هذا "الفيلم – القصيدة" بكلّ المثقّفين والمبدعين الغربيين الذين وقفوا جنبًا إلى جنب مع الشعب الفلسطيني وعاشوا معه سواءً الانتصارات أو الهزائم. لم تكن أعماله مجرّد أفلام، بل كانت أيضًا محاولات لفهم التاريخ وحياة الأشخاص الذين غيروا مجرى الأحداث.
مخرج يكشف الحقائق المزعجة
منذ فيلمه الطويل الأول "سويسريون في الحرب الإسبانية" (Des Suisses dans la guerre d'Espagne-1973)، أعلن ريتشارد ديندو عن التزامه السياسي ونهجه النقدي في إعادة قراءة التاريخ. لم يكن مجرّد صانع أفلام، بل مؤرّخًا بصريًا يكشف المسكوت عنه.
في عام 1976، تعاون مع الكاتب والصحفي نيكلاوس ماينبرغ لإخراج "إعدام خائن الوطن إرنست س" (L'exécution du traître à la patrie Ernst S)، الذي أعاد سرد قصة إعدام شاب من سانت غالن عام 1942. وتهمته لم تكن سوى سرقة بضع قذائف وقنبلة مضادة للدبابات وبيعها لعميل ألماني مقابل 800 فرنك سويسري، في وقت كانت فيه الطبقة الصناعية السويسرية تُتاجر مع النازيين في وضح النهار وتحت أنظار الحكومة.
عند عرضه، أثار الفيلم زوبعة من الجدل، إذ هزّ السرد الرسمي للتاريخ السويسري، فواجه انتقاداتٍ لاذعة في البرلمان ووسائل الإعلام. ورغم نجاحه عالميًا، لم يحظَ بدعم الحكومة الفيدرالية، فيما مُنع ماينبرغ من الكتابة في صحيفة Tages-Anzeiger التي كان يعمل بها.
منذ ذلك الحين، بات واضحًا أن ديندو لن يكون مجرد مخرج آخر، بل ذلك "العائق" الذي يكشف الحقائق المزعجة، ويضع إصبعه على الجراح المفتوحة، ويعيد إحياء الذاكرة المنسية بسخرية تجمع بين التراجيديا والتمرّد. يتجلى ذلك في (Dani, Michi, Renato und Max-1987 )، حيث صوّر ببراعة قمع الشرطة وخيبات الأمل التي أعقبت انتفاضةالشباب (Züri Brännt) في زيورخ عام 1968.
ظلّت أفلامه تحمل بعدًا سياسيًا عميقًا، إذ طرح الأسئلة عن الماضي الغارق حتى أذنه في الزيف والبهتان. ففي (Genêt à Chatila-1999)رافق الكاتب جان جينيه إلى فلسطين، مستحضرًا أشباح مجزرة صبرا وشاتيلا. أما في(Charlotte, Vie ou théâtre-1992)، فقد أعاد إحياء مآسي الهولوكوست عبر لوحات الفنانة شارلوت سالومون. وفي (1997- Le cas Grüninge) استرجع سيرة قائد الشرطة بول غرينينغر، الذي خاطر بمسيرته لإنقاذ مئات اليهود النمساويين الفارين من النازيين، ليُعاقب لاحقًا بالإقالة والطرد الأبدي من الشرطة.
كان ريتشارد ديندو صانع أفلام لا يُهادن، رجلًا يصرّ على سرد الحقيقة حتى وإن كانت مزعجة، وحتى لو بقي صوته نشازًا في جوقة التاريخ الرسمي.
شاعر الذاكرة والمنسيين
كان ريتشارد ديندو بارعًا في كشف المخفي وإحياء الغائب. من خلال المزج بين شظايا الواقع والخيال الأدبي، أعاد بعث أرواح الشخصيات التي شكلت التاريخ الثقافي. في "آرثر رامبو، سيرة ذاتية" (1991)، منح صوتًا لمن عرفوا الشاعر المتمرد. في (Journal I-III)، استحضر روح الكاتب ماكس فريش، بينما جعلنا في "إرنستو تشي جيفارا، مذكرات بوليفيا (1994)، نقترب من "تشي" وكفاحه الأخير.
لم يتوقف المخرج السويسري عند ذلك، بل أعاد النظر في سيرة أراغون، ماتيس وكافكا، معتمدًا على أعمالهم لإحياء الذاكرة وإعادة بناء ماضي المنسيين.
كان ديندو مدفوعًا بهاجس الذاكرة، فقد أدرك أن تاريخ البشرية مليء بالثغرات والنسيان، فسعى إلى سدها بطريقته الخاصة، بأسلوب مزعج أحيانًا، يثير الجدل ويحرج البعض. ربما لهذا السبب، واجه في سنواته الأخيرة صعوبة في إقناع المؤسسات السويسرية بتمويل مشاريعه، رغم أنه ظل أحد كبار رواد السينما الوثائقية.
في فيلمه الفريد "رحلة باشو" (2017-2018)، وهو عمل يجمع بين الوثائقي والخيال، سافر إلى عالم الشاعر الياباني باشو (1644-1694)، الذي يُعتبر الأب الروحي لقصيدة الهايكو، حيث نجح في تحويل المرئي إلى غياب، وجعل الصمت يتحدث عبر الكلمات القليلة.
عن الأسلوب وصناعة الأفلام
في حوار له بتونس أجراه معه الشاعر العراقي الحبيب السامر، عبّر عن أن الطريقة التي يعتمدها ديندو في صناعة أفلامه هي طريقته الخاصّة، ويتجه بشكل كبير نحو السينما الوثائقية، وهي نوع من أنواع الببلوغرافيا إذ يقول: "أميل إلى التعرّف على الآخر، ومن هو الآخر، في أغلب الأحيان أصنع أفلامي عن الكتاب والشعراء، أعتبرهم المعلم الأول لنا، كونهم يمتلكون ملَكة الكلام وطريقة توصيل أفكارهم، لأنهم أكثر الأشخاص الذين لهم القدرة على تمرير الحقيقة".
كما صرّح أن أفلامه يتم تمويلها من قبل هيئة المعونة العامة السويسرية للأفلام، والتلفزيون السويسري العام، لذلك يتم عرضها أولًا في دور السينما السويسرية ولاحقًا على شاشة التلفزيون، مردفًا:"أحيانًا أرسله إلى هذا المهرجان الدولي أو ذاك، لا أفكر بحجم الجمهور الذي سيرى أفلامي كونه له جوانب كثيرة وطرق متابعة مختلفة. بسيطة، وهذه الفكرة أعطتني طريقة لإنجاز الفيلم عن تاريخ تصوير الناس. على الرغم من قناعتي بالاشتغال على الشعر والسينما الشعرية، وهذه الأفلام تتطلب الدقة الكبيرة في العمل والإخراج ولا تقبل التوافقات... صناعة الأفلام ليست هوايتي، بل مهنتي. لقد بدأت في عام 1970 وصنعت حوالي 40 فيلمًا في حياتي".
"عمري الآن 80 عامًا، وما زال لدي نحو 10 إلى 15 مشروعًا سينمائيًا. أعتقد أنه لا ينبغي للمرء أبدًا أن يتوقف عن تحقيق أحلامه والسعي وراءها. من دون حلم ومن دون مشاريع، نموت. المشروع يمنحك القوة والأمل والتفاؤل. هذه هي الحياة.
رحل ريتشارد ديندو، لكن مشاريعه وأحلامه بقيت صورًا في الصحراء، نذهب للبحث عنها مع كل عمل من أعماله الخالدة التي انحازت للعدالة الإنسانية، للثوار، والشعراء، والمنسيين.