المرأة تحت حكم "ظلم المصطبة".. هل تملك النساء حرية الاختيار؟

21 مايو 2025
المسلسل المصري "ظلم المصطبة"
من قاسم أمين إلى درية شفيق، ومن هدى شعراوي إلى دراما ظلم المصطبة، تستمر معركة المرأة العربية من أجل أبسط حقوقها: الاختيار

واحدة من القضايا الإشكالية التي ما زالت تؤرق المجتمعات العربية خاصة، والإسلامية بصفة عامة، هي قضية المرأة، وتحديدًا حرية اختيارها، وهي متنوّعة ما بين اختيارات شخصية (كارتداء الحجاب والزواج، والطلاق)، واختيارات مجتمعية (كحق التعبير، والحق في الانتخاب، والترشح للمناصب السيادية، وغيرها). والغريب أنها قضايا مثارة منذ أزمنة قديمة قد تمتد - في مفارقة عجيبة - إلى عهد الاحتلال الإنجليزي حيث دعاء اللورد كرومر إلى تعليم المرأة خارج البيت بعدما كانت الأسر المصرية تلتزم بتعليمها داخل البيت، ثم توالت الدعوات من قبل الرجال لمناصرة المرأة، ودعم استقلالها وحقوقها على نحو ما فعل مرقص فهمي في كتابه "المرأة في الشرق" (1894)، ثم بعد خمس سنوات جاءت دعوة قاسم أمين عبر كتابيه "تحرير المرأة" (1899)، و"المرأة الجديدة" (1900) بما أثاره فيهما من قضايا مُتعلّقة بالأوضاع الاجتماعيّة والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية، وما تعانيه من قهر اجتماعي نابع من ثقل العادات والتقاليد الموروثة، وهو ما أثبط تطوّر المجتمع بما فرضته من قيود على حركة المرأة داخل مجتمعها، وعرقل ممارسة المرأة لدورها النهضوي في بناء مجتمعها، وغيرها من كتابات ناصرت قضية المرأة، لكن ثمة قضايا خاضت فيها المرأة معركتها بمفردها، ومن أهمها حق المرأة في تحرر ذاتها من البطريركية، وممارستها الفجة التي استغلت عقد الزواج ليكون قيدا تُحاصر به المرأة، على نحو ما عبّرت صفية زغلول وهدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسي، وأخريات سرن في نفس الدرب دفاعًا عن حقوق المرأة.

وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن من الزمن على حركات التحرّر والدعوة إلى الاستقلال، إلا أن القضايا التي ناقشها الكتاب وأثارت ضجة ولغطًا كبيرين وقت صدوره، ما زالت مطروحة للنقاش، بل ومتجدّدة في الحوارات الصحفية والبرامج التلفزيونيّة، والدوائر المستديرة والمؤتمرات، ودائما تتصدر المحافل الدوليّة، وتُعتبر ورقة ضغط من المجتمعات الغربية بعدما ارتفعت أصوات تيارات الدفاع عن المرأة وحقوقها، بفضل الحركات النسوية التي صارت ترفع شعارات الحرية والمساواة والاستقلال، والسبب لأنه بكل بساطة ظل الوضع قائمًا على ما هو عليه، ولم يتغيّر شيء على النحو المأمول. 

نعم حظيت المرأة بالكثير من حقوقها، وبالأحرى انتزعتها انتزاعًا من الرجل المتسلّط بفضل رائدات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة على نحو هدى شعراوي، ونبوية موسى من الجيل الأول الذي دافع عن حق المرأة في التعليم، وما قامتا به من جهد في هذا المجال بإنشاء جمعيات خيرية عديدة مثل مدرسة تدريب القابلات، ومراكز تدريب الممرضات، وجمعية للإغاثة أثناء الغزو، وجمعية المرأة الجديدة التي ألحق بها مشعل للفتيات، ثم تلى هذا جيل جديد استقى أفكاره الثورية من الجيل المؤسس، دعا إلى التمرد على الأعمال المنزلية، على نحو ما جاءت كتابات زينب فواز، وعائشة التيمورية، ووردة اليازجي، فطالبن بأدوار جديدة للمرأة بعيدة عن تلك الأدوار التي حشرهن فيها الرجل، ومطالبات هؤلاء النسويات بدخول المرأة الجامعة، وهو ما تحقق بالفعل لجماعة صغيرة من النساء عام 1929، بمساندة رئيس الجامعة وقتئذ، إلى التوسع بالمطالبة بالحقوق السياسية، أي حق المرأة في الاقتراع والمواطنة.

اعتراف منقوص

ومع إصرار المرأة أو ممثلاتها على المطالبة بحقوقهن، نالت اعترافًا يمكن وصفه بأنه شبه منقوص، فدخلت الجامعة، بل توسعت الجامعات في قبولهن، وبعد التخرج حظيت بمناصب رفيعة كانت حكرًا على الرجال من قبل، وتبوأت مكانة رفيعة في المجتمع بعدما كانت تابعةً للرجل، أو ظله، لكن يبقى الشيء المهم الذي لم تنتزعه المرأة وتحديدًا في المجتمعات الأبوية التي تُعلي من نسق العرف والعادات والتقاليد، والمتمثل في حق الاختيار، وهو الأمر الذي ما زال من الحقوق التي تفاوض عليها المرأة، في ظل تعقيدات العادات والتقاليد والأعراف، بل أحيانا بسبب استبدادية النخبة المثقفة، على نحو ما فعل طه حسين مع درية شفيق يوم أن تظاهرت برفقة ألف امرأة للمطالبة بمنح النساء حق الانتخاب، وأن يكون للمرأة تمثيل في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وهو ما انتهى بها مع تسعة من رفيقاتها إلى الاعتصام في نقابة الصحافيين، فإذا بطه حسين يُعبّر عن سخطه وغضبه من هذا الفعل في مقالتين بجريدة الجمهورية بعنوان "العابثات، وعبث العابثات" في آذار/مارس عام 1954. كانت مقالة لاذعة جاءت نقيضًا لموقف طه حسين من المرأة بصفة عامة، الذي دافع - من قبل - عن حقها في الدخول إلى الجامعة، وغيرها من مواقف مشهودة له تؤكد مناصرته للمرأة ولحقوقها، إلا أنه هذه المرة خرج غاضبًا وساخطًا، بل وساخرًا من إضرابهن فقال من جملة ما كتبه:

".. ثم هو صوم لا يحبه الطب، لأنه يجلب العلل إلى الأجسام الصحاح، ولا يحبه طب الجمال خاصة، لأنه يذوي زهرات من حقها أن تكون نضِرة دائمًا، ويغيض ماء الشباب الذي لا ينبغي أن يغيض مهما تتقدم السن ومهما تكثر الأحداث وتعظم الخطوب ويفسد الدهر، وهو بعد هذا كله صوم لا يحبه الذوق الذي هو طبيعة السيدات والأوانس، فليس من الذوق في شيء أن يعبثن والشعب جاد، ولا أن يلعبن والشعب ماضٍ في تدبير أمره مشغول بحاضره الخطير ومستقبله الغامض".

لا أريد أن أتوقف عند هذه الحادثة فهي معروفة للقارئ ضمن معارك طه حسين، وهناك مَن تصدّى لطه حسين بالكتابة على نحو ما فعل الكاتب الصحفي حسين فهمي، الذي استنكر موقف طه حسين، وأشاد بما قامت به درية شفيق ورفيقاتها، ولكن ذكرتها للاستدلال إلى أن النخبة لعبت دورًا سلبيًّا إلى جانب نسق العرف، فكان معًا عائقًا أمام حقّ المرأة في حرية الاختيار. 

الشيء الجدير بالتوقف أن هناك أعمالًا (روائية وسينمائية) عديدة أثارت قضية المرأة، وجعلتها في بؤرة الاهتمام، وهو ما يعني أنها ليست قضية تخص المرأة وحدها، وإنما هي قضية مجتمعيّة في المقام الأول، ومن هذه الأعمال المبكرة التي طرقت القضية، رواية "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي شهير من إنتاج عام 1959، لعبت بطولته لبنى عبد العزيز، وشكري سرحان وحسن يوسف، وإن كانت الحرية التي تبتغيها تتمثل في التمرد على القيم الأسرية / الأبوية التي تزرع فيها الخوف، وتجبرها على الصمت، وتنجح البطلة أمينة في الحصول على حريتها بالدخول إلى الجامعة، إلا أنها تشعر بأنها ليست هي الحرية المطلوبة، كما تجد عراقيل من قبل الأسرة عند اختيار شريك حياتها، ومن ثم يتداخل الذاتي في العام، ويتحقق المعنى الإيجابي للحرية بحرية الوطن، وهي نفس التيمة التي تكررت مع رواية "الباب المفتوح" للطيفة الزيات، والتي تحولت هي الأخرى إلى عمل سينمائي لعبت بطولته فاتن حمامة وصالح سليم ومحمود مرسي، من إنتاج عام 1963 ومن إخراج هنري بركات، تمحورت قصة الفيلم حول ليلى الفتاة التي تُشارك بوجدانها ثورة المصريين ضدّ الاحتلال البريطاني، والرغبة في التحرّر من الاحتلال، إلا أن هذا المطلب المشروع يلاقى صدودًا من قبل الأب، ففي كلا العملين صارت الحرية نسبية، وقوبل حق الاختيار باعتراض دون إبداء أسباب، وهو ما كان تكريسًا لتقييد حرية اختيار المرأة مقارنة بالرجل.

ثم يأتي فيلم "أريد حلًا" الذي أنتج عام 1975 من إخراج سعيد مرزوق، ليتقدم خطوة للإمام وهو يعرض قضية المرأة وحقها في تقرير مصيرها، والمطالبة بخلع الرجل، وهو قصة الكاتبة الصحفية حُسن شاه، وهو يحكي عن امرأة (درية – فاتن حمامة) تعمل مترجمة، ارتبطت بالدبلوماسي (مدحت - رشدي أباظة)، وقد تفاقمت المشاكل بينهما، ووصلت إلى حد استحالة العيش معه، فطلبت الطلاق منه، إلا أن طلبها قوبل بالرفض والتعنت من جانبه، ومن ثم تسلك الطرق القانونية برفع دعوى طلاق عليه، وكعاقب لها على هذا الحق بدأت الزوج مستغلاً حيل المحامين والشهود الزور، رحلة تنكيل وإذلال للزوجة في أروقة المحاكم، كتهديد مُبطن لكافة النساء المطالبات بالطلاق، لتتعقد الأمور أكثر وأكثر، وبعد رحلة عذاب في المحكمة استمرت أربع سنوات تخسر القضية في نهاية المطاف، في إشارة ضمنية إلى عدم اعتراف المحكمة بحق الزوجة لطلب الطلاق من زوجها إذا حدث الضرر، وهو ما كان بمثابة بارقة الأمل في تغيير قوانين الأحوال الشخصيّة.

هكذا ظلت المرأة تدور في دائرة مغلقة وهي تبحث عن حقها الأساسي في حرية الاختيار، وتقرير المصير، لكن على ما يبدو على الرغم من أن كثيرًا من القوانين سُنت لإنصاف المرأة، إلا أن الكثير من المطالب ما زالت منقوصة، ويجب على المرأة أن تعيش في دائرة التفاوض إلى أجل غير مسمى.

ظُلم المصطبة

لا يخرج عن هذه السردية المجحفة في حق المرأة، ووأد حقها الأساسي في الاختيار مسلسل "ظلم المصطبة" (قد بدأ عرضه مع النصف الثاني من شهر رمضان الماضي) قصة المسلسل كتبها أحمد فوزي صالح، وسيناريو وحوار وإخراج محمد رجاء علي، من بطولة فتحي عبد الوهاب وريهام عبد الغفور، وإياد نصار، وبسمة، وعبر حلقات المسلسل الخمس عشرة حلقة تعود مسألة حق الاختيار من جديد إلى دائرة الضوء بعدما جرى في النهر مياه كثيرة، إلا أن المسألة (على ما يبدو) لم تتحرك خطوة إلى الأمام، بل على العكس يقول المشهد رغم كل التغيرات التي حدثت إلا أن وضعية المرأة ظلت شائكة، ولا تقبل النقاش خاصة في المناطق التي تتمسك بالأعراف والتقاليد، فالمسألة أكبر مما يمكن تصوره، بل وهي معقدة إلى حد التشابك، ومن ثم تبرز أهمية طرح المسلسل بالإشارة إلى موضع الخلل والعودة إلى نقطة الصفر.

تدور أحداث المسلسل في إحدى القرى في أرياف مصر (وهو ما يشير إلى أن قطار التنمية لم يصل إلى مثل هذه الأماكن). فيحكي ظاهر المسلسل عن صراع بين شخصيتين رئيسيتين؛ هما حمادة كشري (فتحي عبد الوهاب)، وحسن (إياد نصار)؛ حيث يستعيد المسلسل مع عودة حسن الذي كان غائبًا في إيطاليا وفقا للرواية المتداولة في القرية، ولكن مع عودته يكتشف أنه لم يكن في إيطاليا، وإنما كان في السجن في ليبيا، وأنه دخل السجن بعدما تركه أصدقاؤه الذين كانوا يعملون معًا في التهريب، وهربوا وتركوه يواجه مصيره بمفرده. عاد حمادة كشري بالأموال المسروقة بعدما ظن أن صديقه وقع في يد جماعة مسلحة تسيطر على الحدود، وبنصيب حسن صار من الأثرياء، بل وصار له كلمة على أهل البلد.

مع تصادم الشخصيتين المحوريتين على استرداد المال تبدأ خيوط المسلسل تتكشف، ويتضح أن حسن كشري تزوج من حبيبة حسن (هند) ريهام عبد الغفور، هنا الصراع يصير صراعين؛ صراع على المال المسروق (ومحاولة استرداده)، وصراع على استعادة الحبيبة كما ظن حمادة كشري، ومن هذه النقطة تتكشف علاقة هند بحسن، وأنهما كانا على علاقة معا في الماضي، وقد ترك أختها (إلهام) يوم الفرح بسبب حبه لهند، وهي الغصة التي ما زالت عالقة في علاقة الطرفين (هند وأختها).

الخيط الدرامي الظاهر في الأحداث هو صراع حسن مع حمادة كشري، والذي تزداد حدته عندما تذهب حبيبة حسن القديمة (هند) إليه لتعاتبه بعد العودة، وتعلن رفض وجوده، فقد صارت زوجة ومعها أولاد، لكن ما في القلب في القلب. هنا تتأزم المشكلة، ويصر حمادة كشري على أن علاقة تمت بينهما في بيت حسن، وهو ما يرفضه الاثنان، لكن حمادة كشري كان له رأي آخر، إذ يستغل هذه الحادثة ويقرر بأن يطرد حسن من البلدة كلها، ويتراجع عن إعطائه المال المتفق عليه، الأمر الثاني هو اقتيادهما إلى مجلس عرفي لإثبات أن العلاقة لم تتم، عن طريق البشعة، وفي طقس بدائي يتم الحكم على الكاذب.

البشعة هي طريقة تقليدية كانت تُستخدم لاختبار صدق المتهمين في القضايا التي يَصْعُب إثباتها بالأدلة العادية، من خلال قيام أحد الأشخاص والذي يطلق عليه اسم "المبشع" بتسخين (الميسم)، وهو يد محماس القهوة العربية حتى تصبح حمراء من شدة النار ثم يخرجها ويقلبها، ويرجعها إلى النار مرة أخرى، أمام مجموعة من الحضور، وخلال هذه الفترة يقوم المُبشع بدور المحقق، كما ينبه المتهم بضرورة قول الحقيقة وإلا حرق لسانه.

يمتثل الاثنان لحكم المصطبة (هنا لا توجد خيارات للرجل أو المرأة خاصة في قضية الشرف)، وبالفعل يتم الطقس في جوّ إسطوري، ووسط ترقب من الطرفين تثبت براءتهما في ظل حضور أفراد من عائلة المتهمين كشهود على فعل لم يحدث أصلاً، لكن ماضي أخت هند يتحرك، وتستغل الحدث للانتقام من غدر الاثنين بها، وتقرر الانتقام فتصوّر المشهد وتنشره على وسائل التواصل الاجتماعي، كرغبة منها في التشهير والانتقام من أختها وحبيبها بعدما تركها من قبل في ليلة كتب الكتاب من أجل هند. وبسبب هذه الفضيحة استغل حمادة كشري الموقف لصالحه وتزوج من هند دون رغبة منها، فلا اختيار في حوادث الشرف، امتثلت لقرار الأسرة خشية من الفضيحة، وكتمت اختيارها، لكن ظل حسن في قلبها وعقلها.

تمّ إجبار هند على الزواج من حمادة بعدما أُشيع عن حسن بأنه تزوّج في إيطاليا وتركها، وقد وعدها بأنه سيعود إليها بعد عامين، والحقيقة أنه كان في السجن لمدة سبع سنين. واختيار الرقم ليس عشوائيًّا وإنما هو تأكيد على السنين العجاف التي مر بها حسن في السجن، وكذلك على هند التي تزوجت من رجل متزوج وله أطفال من زوجته السابقة.

يتعامل حمادة مع زوجه بعنف، فيضربها، ويحبسها داخل الميت، ويحرمها من رؤية طفلتها، وذات مرة يحتد الخلاف، فتضربه بالسكين تفاديًّا لتعنيفه لها، ومن ثم تضطر إلى أن تهرب مع حسن بعدما ظنت أنها قتلته، وهي الحادثة التي صارت فضيحة، خاصة بعدما استغل الشيخ علاء تطبيقات التواصل الاجتماعي ليشوه صورة هند وحسن، هذه الفضيحة دفعت ثمنها أختها رحاب، فتخلّى عنها حبيبها، ومن هنا تفقد هي الأخرى حرية الاختيار، خاصة بعدما جرفها تيار الشيخ علاء الذي دخل من بوابة الناصح الأمين والمرشد بدروسه الدينية، تسلل إليها، وأقنعها بالزواج، وبالفعل ترضخ له وتقبل الزواج منه على الرغم من زواجه من أخرى، فقدت رحاب حق الاختيار بسبب ما شاع عن هند بين الناس.

في الحقيقة المسلسل قدم نموذجًا لدكتاتورية الرجل وقهره للمرأة، فحمادة كشري بعد أن رأى زوجته في بيت حسن بعد عودته، بدأ في معاملتها بعنف، أولا ضربها على وجهها، ثم في مرحلة لاحقة حبسها في البيت وحرمها من ابنتها، ثم قادها في طقس بشع إلى البشعة، العنف الذي مورس على هند، يكشف النظرة الاستعلائية للمرأة، ودائمًا وضعها في خانة الضعيف والخائن، وانتهى العنف في نهاية الرواية إلى جريمة القتل أمام مشهد من الحاضرين. 

على التوازي قام أخوه الشيخ علاء الذي يقوم بدوره أحمد عزمي، باستغلال الدين لاستقطاب رحاب أخت هند الصغرى، فترغم على الزواج من رجل أكبر منها، ومتزوج، وهو ما يثير استغراب أفراد عائلتها، إلا أنهم يرضخون لرغبتهم بعدما أعلنت أمام الملأ موافقتها على الزواج، وهو في الحقيقة موافقة مرغمة لأن إرادتها سُلبت على يد الشيخ الذي أغواها عبر بوابة الدين. على مستوى الزيجات التي حدثت دون اختيار حقيقي من الزوجة، تقع سحر أخت حمادة كشري في علاقة عبر الانترنت مع شخص يدعى سامح، فهي في أحد حواراتها مع سامح تعترف أنها "لم تحب وليد" (زوجها)، اختاره لها أخوها حمادة، وزادت أنها "لم تشعر معه بأي شيء كما تشعر به مع سامح"، حكاية تبدأ بفضفضة وشكوى من ملل الحياة، إلا أنها تكشف عن واقع مؤلم تعيشه النساء، فالزواج يفرض عليها، ولا تستطيع أن ترفض، وإلا صارت ناشزًا، والنهاية بكل تأكيد معروفة، البحث عن بديل عبر الواقع الافتراضي، ومن ثم تستمر علاقة سحر بسامح في الخفاء بسبب جفاء علاقتها بزوجها الذي يعمل في مدينة أخرى، وتتطور إلى أن يتم فضحها، ورغم اعترافها بأن أحدًا لم يلمسها، إلا أنه لا يصدقها ويتم تطليقها وقتل سامح على يد علاء كشري، كامتثال للأعراف بتدنيس الشرف. وهو انتصاف لعدالة السماء لما حدث مع هند، فأخو هند (وليد) يرفض تصديق أنه لم يحدث شيء في شقة حسن.

كل النهايات المأساوية التي انتهت إليها النساء في المسلسل: هند بزواجها من حسن كشري، وسحر (لعبت دورها الفنانة بسمة) من وليد (الذي لعب دوره محمد على رزق)، ورحاب (لعبت دورها الفنانة الشابة فاتن سعيد) وعلاء كشري (لعب دوره أحمد عزمي)، هي نتيجة الاختيار الخاطئ، والذي وقع دون إرادة من المرأة، بكل تأكيد ثمة سردية أخرى يحرص عليها المسلسل مثل صراع المال والنفوذ الذي قاده حمادة كشري وأخوه علاء الذي نصبه إمامًا للجامع دون دراية بأمور الدين، وهيمنتهما على البلد بعد أن غيّرا الاسم إلى آل مهران بدلاً من الاسم القديم (آل كشري)، لكن عبر هذه السردية وغيرها، تبرز سردية الأعراف التي أجبرت النساء على ما قامت به، وكانت النتيجة أن قتلت هند على يد زوجها، وطلقت سحر من زوجها بسبب الفضيحة التي حصلت، وأرغمت رحاب بالزواج من آخر غير حبيبها. 

خلاصة المشهد، على الرغم من كافة القوانين التي سُنت لإنصاف المرأة، وقد حظيت أخيرًا بحقّ الخلع من الزوج للضرر إضافة إلى كثير من الحقوق والامتيازات، إلا أنّه ما زال حق الاختيار عائقًا كبيرًا، وحاجزًا أمام تحرّر المرأة كليًّا، فالحقوق التي حصلت عليها المرأة، أمام حقّها في حرية الاختيار تكاد تكون حقوقًا منقوصة مقارنة بغيرها من حقوق المرأة الغربية، على الرغم من أن الإسلام كفل لها هذا الحق؛ فقد بين النبى (ص) أن المرأة أحق باختيار مَن يصلح لها، بل إنه أوقف العقد على إجازتها، وفى هذا بيان أن العقد قد يبطل إذا أرغمت المرأة على رجل لا تريده، وعليه فالمرأة هي المنوطة باختيار زوجها على أوصاف بينها الشرع الشريف. وكأن جهود الرائدات النسويات والمدافعين من أنصار المرأة ذهبت سُدى.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

لام شمسية

لام شمسية.. البيدوفيليا التي نراها ولا ننطقها

يطرقُ المسلسل موضوعًا مسكوتًا عنه في الثقافة المصرية، يتوارى خلف نسق العادات والتقاليد والخوف من مواجهة المجتمع

ممدوح النابي

تشارلي
تشارلي

شارلي تشابلن وباستر كيتون.. أساتذة الصمت

كان شارلي تشابلن وباستر كيتون عبقريين في تحويل الصمت إلى أداة تعبيرية قويّة، وبينما جعلنا تشابلين نضحك ونبكي بفضل شخصياته العاطفية أبهرنا كيتون بحركاته الجسدية المدهشة

غطفان غنوم

مسلسلات رمضان

الدراما الرمضانية العربية.. هيمنة وثورات ونوستالجيا

يُنادي كثيرون بضرورة الالتفات إلى حقيقة التدهور الذي ما زال يشهده موسم الدراما الرمضانية في كلّ عام

إسراء عرفات

nwlan.jpg

أفلام كريستوفر نولان.. جاذبية نيوتن ونسبية أينشتاين

لا يصنع نولان أفلامًا وثائقية، ولا يدعو مناصرة قضايا معينة، فالسينما بالنسبة لنولان لا تعمل بشكل جيد عندما تكون تعليمية أو توجيهية، وعندما تخبر الناس بما يجب أن يفكروا فيه

فراس حمية

فيلم مدنية

فيلم "مدنية".. نظرة حيّة على الثورة السودانية

في فيلمه الوثائقي "مدنية"، يأخذنا المخرج محمد صُباحي في رحلة بصرية فريدة داخل شوارع السودان، خلال سنوات الثورة. الفيلم يعتمد على مشاهد حقيقية وشهادات من قلب الاحتجاجات

إسلام العزازي

المزيد من الكاتب

ممدوح النابي

كاتب وناقد

الموت مكافأة الحياة الكبرى

يدفع الموت الإنسان إلى مراجعة حياته وتغيير مسارها، أو حتى تعزيز الهوية الشخصية. إنه يلعب دور عامل يوقظ الوعي

الشاعرة التي روّضت الجنرال

لم تجد منيرة توفيق سلاحًا أقوى من الشعر لاستعادة زوجها الذي قرر هجرها، فنشرت قصيدتها في مجلة "الرسالة"، وأصبحت كلماتها حديث الأوساط الأدبية في مصر حينها

محمد منير.. الكينج متعدِّدُ الوجوه والأمزجة

غنّى محمد منير للحياة والناس، وعبّر في أغانيه عن أحلامهم وهمومهم، وكان رمزًا لجيل كامل تشكّل على وقع أغانيه

1939: عام جمود طه حسين فكريًا؟

لم ينفصل نعي لويس عوض لطه حسين فكريًا، واعتبار 1939 هو عام جموده الفكري، عن موقفه المتحامل من الثقافتين المصرية والعربية

العمارة والسلطة.. كيف تصوغ الحجارة وجوه القهر والهيمنة؟

استُخدمت العمارة، على مر التاريخ، لتجسيد الهيمنة السياسية واستعراض النفوذ وممارسة القهر حتى باتت بعض المباني رمزًا من رموز السلطة بغض النظر عن طبيعتها

أدب الاعتراف: تابوهات البوح المحرّمة

لم يحظَ أدب الاعتراف بمساحة كافية في الإنتاج الأدبي العربي بسبب القيود والتابوهات التي تحد من حرية الكتّاب في البوح بتفاصيل حياتهم الخاصة