منذ سقوط نظام الأسد في سوريا، بدأت مختلف الوسائل الإعلامية العربية والعالمية بنقل أخبار المقابر الجماعية التي تمّ اكتشافها في أكثر من منطقة سورية، وخاصةً في محيط دمشق.
صُدِم العالم من مشاهد هذه المقابر، التي يتوالى اكتشافها في سوريا يومًا بعد يوم، مؤكّدةً حجم الإجرام الكامن في "آلة الموت" التي أدارتها الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد، وكانت تستهدف من خلالها طمس جرائمها بحقّ المعتقلين والمدنيين السوريين، حيثُ كانت تقتل الضحايا، ثمّ تدفنهم لإخفاء أثرهم.
أشارت العديد من تقارير المنظمات الحقوقية إلى أنّ هناك ما يزيد على 100 ألف شخص تعرضوا للإخفاء والتعذيب حتى الموت في هذه الآلة منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، كما وإنّ هناك العديد من الوثائقيات التي تمّ إنتاجها في سنوات ما قبل سقوط النظام، عمِلَت على تسليط الضوء على بعض جزيئات وكيفيات العمَل في هذه الآلة، وكأنّها كانت تُريد أن تُمهّد طريق الصدمة أمام العالَم، حتى لا تفجعه الحقيقة الهائلة في سوريا مرةً واحدة، عندما يكتشف أنّ نظام الأسد قد حوّل الدولة التي يحكمها إلى مقبرة جماعية كبيرة.
من أبرز هذه الوثائقيات، وثائقي "حفار القبور" من إنتاج قناة الجزيرة عام 2022، ووثائقي "البحث عن جلادي الأسد" من إنتاج الجزيرة أيضًا عام 2020، ووثائقي "حفرة الموت.. تفاصيل مجزرة حي التضامن في دمشق" من إنتاج التلفزيون العربي عام 2022.
وثائقي "حفار القبور".. بيروقراطية الوظيفة التي تُعمي صاحبها
تناول وثائقي "حفار القبور" رواية شاهدٍ رئيسي في المحاكم الألمانية حول سياسة الإبادة الجماعية التي اتّبعها نظام الأسد بحقّ المعتقلين السياسيين في السجون التابعة له، وكانت تقوم على تعذيب وقتل هؤلاء المعتقلين، ودفنْ وإخفاء جثث من يُقتل منهم تحت التعذيب في مقابر جماعية أعدّت خصيصًا لهذا الغرض.
حمَل الشاهد الرئيسي في الفيلم اسمًا حركيا هو "زد 30" وهو الاسم الحركي الذي أعطته إياه محكمة كوبلنز الألمانية، خوفًا على عائلته التي كانت مقميةً في سوريا أثناء إدلائه بشهادته التي قام بها على عدة جلسات، وروى عبرها طبيعة الوظيفة المحدّدة التي أوكلت له ضمن الإبادة الجماعية التي مارسَها النظام الأسدي بحقّ المعتقلين في سجونه، وهي تجهيز المقابر الجماعية لجثث المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب، ومرافقتها عند تحميلها في شاحنات مُبرَّدة، بعد أن تأتي من كافة الأفرع الأمنية والمستشفيات العسكرية وبعض المستشفيات المدنية، حيثُ يتولى هو مسؤولية نقلها من تلك الأفرع والمستشفيات إلى المقابر الجماعية التي يتم دفنها وإخفاؤها فيها.
تحدث حفّار القبور عن الآلية التي كان يعتمدها نظام الأسد في التخلّص من الجثث التي تقضي تحت التعذيب، وهي آلية تقوم على تقسيم المهام بين عشرات الأشخاص تتدرّج مهمتهم ما بين تغليف الجثث بأكياس نايلون سوداء، ثمّ تحميلها في الشاحنات، ومرافقتها في هذه الشاحنات، وصولًا إلى إنشاء حفر عملاقة وإلقائها فيها بطريقة عشوائية.
أدّى حفّار القبور وظيفته التي عُهِدت إليه - ضمن هذه الآلية - ما بين عامي 2011 و2018، وكان يقوم بمرافقة شاحنات محملّة بـ300 إلى 700 جثة من مستشفيات تشرين وحرستا والمزة العسكرية، إلى المقبرتين الجماعيتين في القطيفة (الواقعة شمال دمشق) ونجها (الواقعة في جنوب دمشق)، ثمّ يتولى مع عدد من الأشخاص معه، مهمة تفريغها عشوائيًا في حفرة عملاقة بعمق 6 أمتار وطول 100 متر.
يكشف الوثائقي عن تعمّد النظام الأسدي اعتماد آلية التقسيم الوظيفي ضمن سياسة الإبادة الجماعية التي طالما اتبّعها، وهي آلية سهّلت على الموظفين والقائمين بأعمال الإبادة مهمة القيام بوظيفتهم، لأنّها عملَت على خلق مسافة ضرورية بين الضحايا وأولئك الذين شاركوا في إبادتهم، فكأنّها دفعت بشعور القائمين بأعمال الإبادة من منطقة المسؤولية الأخلاقية إلى منطقة المسؤولية الإجرائية التكنيكية، ومن ثمّ حوّلتهم إلى مجرّد مسامير في آلة الموت، يؤدي كلّ مسمار منهم وظيفته المحدّدة، ويُحاسِب نفسه إن قصّر يومًا في أداء وظيفته على الوجه الأمثل، دون أن يلتفت إلى حقيقة كونه موجودًا في آلة قتل وإبادة.
وثائقي "البحث عن جلادي الأسد".. حكاية الأطباء الجلادون
يستعرض وثائقي "البحث عن جلادي الأسد" بعض قصص الأطباء من "شبيحة" نظام الأسد، الذين كانوا مسؤولين عن قتل وتعذيب المعتقلين السوريين في المستشفيات، ثمّ لاذوا بالفرار، وانتقلوا إلى العيش في أوروبا.
اعتمد معدّو الوثائقي في تحقيقهم على مجموعة من الأساليب الاستقصائية التي شملت تقنيات تحديد المواقع الجغرافية، والشهود والبيانات الحصرية، واستعانوا بفريق من الخبراء المختصّين في تحليل المواد الفيلمية والصور والمواقع الجغرافية، من أجل الربط بين صورٍ وفيديوهات التقطت في ساحات المستشفيات العسكرية وبرّادات الموتى وزنازين التعذيب، وبين صورِ أطبّاء وشخصيات أمنية تعيش في أوروبا، وتنفي ارتباطها بجرائم نظام الأسد.
كما واستعرضوا مشاهد تُعرض للمرة الأولى التقطها شهود عيان بواسطة كاميرات سرية، لساحات عدد من المستشفيات العسكرية التي كانت تُستخدم للتعذيب وتجميع الجثث، مثل مستشفى "المزة العسكري" ومستشفى "حمص العسكري"، وهؤلاء الشهود هم أطباء كانوا على علمٍ بنشاطات زملائهم الذين شاركوا في تصفية المعتقلين، أو نشطاء تمكنوا من زيارة المستشفيات العسكرية ووثّقوا ما شاهدوه، ثمّ قاموا بمشاركة الصور التي التقطوها مع مجموعة من المتطوعين في مشروع مطاردة القتلة وإثبات تورّطهم في الجرائم.
تناوَل الوثائقي العديد من قصص العنف والوحشية للأطباء التابعين لآلة الموت الأسدية، والتي جاءت بما يؤكّد مستويات الدموية والعنف الماثلة في تلك الآلة، وأبرز هذه القصص هي قصة الطبيب علاء موسى، الذي فرّ إلى ألمانيا، وكان يُكمل اختصاصه في الجراحة العظمية بمستشفى "حمص العسكري"، فهذا الطبيب تعامَل مع أجساد المعتقلين المرضى بشكل من أشكال السايكوباتية التي يصعب تصديقها، حيثُ مارَس تدريبه الطبي عبر أجسادهم، وأجرى لهم عمليات جراحية من دون تخدير، كما وتفاخَر بعدم حاجته إلى التخدير نهائيًا خلال هذه العمليات الحساسة، التي تتزايد احتمالات موت الضحايا أثناء القيام بها نتيجة إصابتهم بما يسمى "صدمات الألم".
عمِل أعضاء فريق التحقيق على تتبّع تحرّكات علاء موسى في ألمانيا، وقاموا بتوثيق عمله في أحد المستشفيات الألمانية، كما وإنّهم عملوا على تتبّع تحركات عدد من الشخصيات المؤيدة لنظام الأسد، والتي كانت تنشط مع حركات يمينية معادية للّاجئين في أوروبا، وترتبط مع شخصيات تابعة لميليشيا الأسد، الضالعة في عمليات استخباراتية لها علاقة بتسليم المطلوبين، والمتّهمة بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن تصفيات لمدنيين سوريين.
جاء الوثائقي لينبّه دول اللجوء الأوروبية إلى انّ هناك مجموعةً من المجرمين الموثّق ضلوعهم في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، يتواجدون على الأراضي الأوروبية ويتمتعون بحقوق مدنية كاملة، وكان من نتائجه أن تنبّهت بعض تلكَ الدول - فِعلًا - إلى حقيقة وجود هؤلاء المجرمين على أراضيها، مثل ألمانيا، التي قام المدعي العام فيها - على إثر نشر الوثائقي - بتوجيه تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية للطبيب علاء موسى، تضمنت تهمًا بارتكاب القتل والتعذيب بحقّ 18 مدنيٍ سوري، وذلك في المستشفيات العسكرية التابعة للنظام ما بين عامي 2011 و2012، حيثُ تمّ اعتقاله وبدأت محاكمته في مدينة فرانكفورت الألمانية في كانون الثاني/يناير 2022.
وثائقي "حفرة الموت".. القتْل لإثبات الولاء
تعرّض وثائقي "حفرة الموت.. تفاصيل مجزرة حي التضامن في دمشق" إلى المجزرة الوحشية التي وقعت في منطقة التضامن، عند المدخل الجنوبي لدمشق القديمة، في تاريخ 16 نيسان/ أبريل 2013، وهي مجزرة قامَ فيها رجلان تابعان لنظام الأسد بإعدام ما لا يقلّ عن 41 مدنيًا سوريا وفلسطينيا.
عرَض الوثائقي لقطات من الفيديو المسرّب للمجزرة، والتي يظهر فيها الضحايا وهم يسيرون معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي في شارع ضيق، قبلَ أن يتم إعدامهم بالرصاص، وإلقاؤهم في حفرة جُهّزت خصيصًا لهذه المناسبة، كما وتَظهر لقطات لآخرين يُطلب منهم الركض نحو الحفرة قبل أن يتمّ إطلاق النار عليهم.
كان هدف فريق التحقيق عندما شرعوا في إعداد الوثائقي الوصول إلى القتلة في مسرح الجريمة، ومن أجل ذلك سعوا للوصول إلى حسابات القتلة على مواقع التواصل الاجتماعي ومصادقتهم، بغرض الحصول على شهادات منهم لها علاقة بالمجزرة ودورهم فيها.
توصّل الفريق إلى أنّ المسؤول الأول عن المجزرة هو الضابط أمجد يوسف أحد العناصر في الفرع 227 (فرع المنطقة)، وهو الفرع الأمني الذي يُصنّفه السوريين ضمن أفرع الموت الثلاثة الأكثر شراسةً ووحشية في دمشق وسوريا، والمسؤولة عن قتل أكبر عدد من السوريين وتتضمن بالإضافة إلى فرع المنطقة، فرع 235 (فرع فلسطين)، وفرع 215 (سرية المداهمة).
عُهِد إلى يوسف تأمين حي التضامن ما بين عامي 2011 إلى 2018، ولم يكن وحده هو المسؤول عن مجازر حي التضامن فقد كان معه زميلاه نجيب الحلبي وصالح الراس، وقد كشف الوثائقي عن اعترافات يوسف حول أفعاله إبان الثورة وكواليس عمله الأمني والعسكري فيها، وهي اعترافات ظهر وهو يدلي بها مرتاحًا بوجه بشوش ضاحك، وكأنّه يُفاخر بعمله ويقدّم دليلًا على ولائه وإخلاصه لقادته.
ظهَر الحلبي في فيديو المجزرة وهو يصوّر ويوثّق عملية قتله للمدنيين السوريين والفلسطينيين، وكان يقدّم التحية لقائده ويُهديه الدماء المراقة للضحايا ويُنبئه بأنّها من أجله "أحلى تحية للمعلم كرامة للعيون الحلوة والبدلة الزيتية اللي مَ يلبسها"، وكشفَ الوثائقي بأنّ هذا المعلّم هو العقيد جمال الخطيب، الذي ظَهَر في اعترافاته يقول بأنّ سوريا كلّها ساحة حرب، وأنّه ما من داعٍ لاعتقال المحتجين والمتظاهرين، وتحميل الدولة كلفة إطعامهم وسقياهم أثناء وجودهم في السجن، بل يجب أن يتمّ قتلهم بالساحات، لأنّ ذلك أوفر في الكلفة، فثمن الواحد فيهم في هذه الحالة يساوي طلقة واحدة.
وضّح الوثائقي بأنّ عملية القتل والتوثيق بالصور التي كان يقوم بها عناصر النظام هي عملية ممنهجة، يَظهر فيها القتلة وهو يخاطبون قادتهم، ليوثقّوا أمامهم قيامهم بمهمة القتل على أكمل وجه ممكن، وكأنّ الضحايا هم القرابين الذين تقدّم دمائهم للزعيم الإله من أجل إثبات الولاء.
"حفرة الموت" هو الاسم الذي اختاره معدو الوثائقي ليصفوا حفرة التضامن التي قَذَف القتلة الضحايا فيها، تمهيدًا لدفنهم في مقبرة جماعية، ثمّ سكَبوا عليهم الوقود وأشعلوا النار فيهم وبعضهم –ربّما- لا زال حيًّا، وهو الاسم الذي يصلح كوصف لازم لجميع الحفر والمقابر الجماعية الأخرى الموجودة في مختلف مناطق سوريا، وهي التي يثير كلّ كشفٍ جديدٍ عن واحدة منها، تساؤلات عن حجم الإجرام المخفي في آلة الموت الأسدية، فكم حفرةٍ للموت في سوريا لم تلتقطها الصور؟