كان العالم خارج سلطتنا نحن البشر فيما مضى، غير آبهٍ بنا ولا بآرائنا وحاجاتنا ورغباتنا، أما اليوم، فقد أصبحت إدارته والتفاعل معه ممكنًا بكبسة زر. لقد سرّعت ثورة المواصلات والاتصالات وتيرة حياتنا، وانعكست هذه السُرعة على مجالات الحياة المختلفة، فأثّرت فيها وأعادت تشكيلها من جديد، وكانت القيم من بين هذه المجالات؛ إذ طال التعديل والتغيير مفاهيم الحب، والعلاقات الغرامية، ومؤسّسة الزواج، وكل ما يرتبط بها. في هذا السياق، نجد أن الحب، كما نعرفه، بدأ يتغير ويتخذ شكلًا جديدًا سريعًا، حيث يتساءل كثيرون: هل تحولت الرومانسية من علاقة بطيئة الاحتراق إلى علاقة سريعة وعابرة؟ وكيف لمن يحمل هاتفًا ذكيًا في يده أن يلتزم بالمؤسسة الزوجية؟
الحب بين الأمس واليوم؟!
في حديثي مع أمي، المولودة عام 1948، سألتها عن كيفية ارتباطها بوالدي، الذي هو ابن عمها، فأجابت: "كنّا منذ الصغر نتداول أسماء أزواجنا المستقبليين ممن هم من أقربائنا وأبناء عمومتنا، أو بالأحرى، كان أهلونا من يفعلون ذلك ويقررون مصيرنا". وأضافت: "لم يكن لنا رأيٌ في المسألة، ولم تكن هناك خيارات سوى شبان القرية، الذين كانوا إما من العائلة نفسها أو من عائلات قريبة لنا، وكان طالبو القرب يأتون بناءً على صيت العائلة". واعتبرت أن "الزواج في أيامي كان مسارًا شبه محسوم للفتاة".
تذكر أمي كيف كانت تمتطي الحصان في صغرها خلال ستينيات القرن الماضي، حين كانت القرية وسهلها يشكلان عالمها كله. لم تزر العاصمة بيروت إلا بعد خطوبتها في السابعة عشرة من عمرها، ثم تزوجت في الرابعة والعشرين، إبان سبعينيات القرن الماضي، وأنجبت عشرة أطفال. تشير إلى أن "لم نكن نعرف ما هو الحب؛ فالحب كان عبارةً عن معاملة ويأتي بعد الزواج". وتوضح أن أغلب أخواتها تزوّجن في سن صغيرة، فخالتي تزوّجت في الثالثة عشرة من عمرها وأنجبت في الرابعة عشرة. وحتى التعليم، كان حكرًا على الشبان دون الفتيات، كي لا يرسلن الرسائل للعشاق.
أما اليوم، فالأمور تبدو مختلفة تمامًا. قالت جارتي لينا، وهي والدة لفتاة تبلغ من العمر 18 عامًا: "ابنتي اليوم تملك الخيار في اختيار زوجها، أو حتى رفض من يتقدّم لطلب يدها. بل قد لا تكترث حتى بالزواج من الأساس، لأن لديها أحلامًا وطموحات تريد تحقيقها". وتابعت قائلة: "الهاتف الذكي في يدها يفتح أمامها عوالم جديدة؛ فالعالم بأسره يمكن سبر أغواره وفهمه، وبذلك تستطيع اتخاذ قراراتها بحرّية".
خيارات لا محدودة!
تغير الزمن وتغيرت القيم. اليوم، أصبح الحب أكثر تعقيدًا في عالم تزدحم فيه الخيارات والتجارب. إنه عصر السرعة، ومن ميزاته وصول المعلومات إلى الإنسان، وتدفق هذه المعلومات إلى إدراكنا. بالمقارنة مع الأمس، لم تكن المعلومات تصل إلى الإنسان بهذه السهولة، وأعتقد أن الإنسان كان كائنًا تجريبيًا بطيئًا في السابق، يتفكّر في محيطه المباشر وحياته اليومية. اليوم، بتنا نعيش في عالم تسيطر فيه التقنيات الحديثة على تفاصيل حياتنا الشخصية، وقد أثر ذلك على تفكيرنا، بما في ذلك العلاقات العاطفية والمؤسسة الزوجية.
صديقي صافي عادل، وهو شابٌ عراقي في الثلاثين من عمره، يتحدّث عن صعوباته في الالتزام بعلاقة واحدة بسبب وجود الكثير من الخيارات. ويعتبر أن "هناك إمكانية كبيرة للتعرّف على فتيات جميلات ومتعلّمات وأنيقات يهتمن بمظهرهن، سواءً من ناحية الثياب أو الشعر أو الرائحة، بالإضافة إلى عمليات التجميل مثل الفيلر والبوتوكس، والوشوم، والحُلي، وغيرها من المثيرات الحسية الجاذبة للعين والنفس". ويضرب مثالًا على كثافة هذه المثيرات المتوفّرة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ويشير إلى أن: "رؤية هذه المثيرات تتغلب على مشاعري تجاه الالتزام بعلاقة واحدة".
التكنولوجيا أعادت تشكيل العلاقات العاطفية!
لا شك أن التطبيقات المتنوعة ذات الاستخدامات المتعددة تؤدّي وظيفة الاستثارة والتحفيز، فهناك تطبيقات المواعدة التي تسمح لنا باختيار نوع العلاقة وطبيعتها ومدتها وتحديد أي شريك/ة نريد، في أي وقت وفي أي مكان في العالم، بسهولة وبسرية تامّة. وهناك المواقع الإباحية التي تثير عقل الفرد وتجعل من مفهوم العلاقات الجنسية العابرة أمرًا عاديًا ومقبولًا مهما كان نوعه! كما وهناك طفرة في شراء الجنس سواءً عبر الدردشات أو عبر الدخول إلى البارات أو حتى شراءه من مقدّمي الخدمات الجنسية الذين يعرضون عملهم الجنسي على الطرقات وعبر الهاتف.
ولا نغفل أمر الأفلام السينمائية وما تبثه من ترويج لأنماط جديدة من العلاقات الغرامية في الأفلام (رجل/رجل – امرأة/امرأة – علاقة ثلاثية) مع ما تتضمنه من تكثيف للمخيال وتعزيزه وتأكيد إمكانية تحقيقه في الواقع.
في كثير من الأحيان، تلعب التكنولوجيا دورًا في مفاقمة الإهمال العاطفي. بحساب بسيط لكل من يحمل هاتف بيده، يمكن تفحص عدد الساعات التي يقضيها أمام الشاشة، بالتفصيل لكل تطبيق، وقد تصل إلى أربع أو خمس ساعات يوميًا. هذا الوقت يؤثر على تآكل الثقة بين الشريكين ومدى الرضا الزوجي للشريكين. يُضاف إلى ذلك التأثيرات النفسية على الشريكين من حيث رؤية حياة الآخرين المثالية على السوشيال ميديا والتي قد تخلق توقعات غير واقعية تؤدي إلى الإحباط وعدم رضا الشريك الزوجي.
عالم مليء بالمغامرات
في عام 2015، تم اختراق ملايين السجلات الشخصية من موقع آشلي ماديسون، وهو موقع مواعدة مخصص للأشخاص المتزوّجين أو المرتبطين الذين يبحثون عن علاقات خارج إطار الزواج، وفقًا لصحيفة الإندبندنت البريطانية. شعار الموقع: "الحياة قصيرة، خض المغامرة"! وقد وصف الموقع، الذي أنشأ عام 2001، بكونه "غوغل الخيانة".
الهاكرز نشروا أسماء المستخدمين وعناوين بريدهم الإلكتروني وأرقام هواتفهم وعناوين منازلهم. إحدى الزوجات أفادت: "عثرت على بريد زوجي الإلكتروني في السجلات المسربة. زوجي لديه تاريخ من الخيانة عبر الإنترنت. أحتاج إلى معرفة الحقيقة". الكثير من القضايا وجدت طريقها إلى المحكمة بعد هذه الفضيحة، سيما وأن المحاكم تستند إلى أدلة إلكترونية على الخيانة كالرسائل البريدية أو سجل المكالمات والصور والفيديوهات.
وفي دراسة أجرتها مؤسسة Marriage Foundation، وهي مؤسسة خيرية مقرها المملكة المتحدة، على عينة من ألفي شخص، وجدت أن الأشخاص الذين التقوا عبر الإنترنت أكثر عرضة للطلاق بمقدار ستة أضعاف خلال السنوات الثلاث الأولى من الزواج مقارنة بأولئك الذين التقوا من خلال العائلة أو الأصدقاء. ومرد ذلك بحسب الدراسة إلى "احتمالية أنهم يتزوجون وهم ما زالوا غرباء نسبيًا عن بعضهم البعض"، مع ما يحمله هذا التعارف من معلومات غير موثوقة عن الشريك. أما التسرع في الارتباط دون التعرف الجيد على الشريك، يؤدي إلى تجاهل علامات التحذير Red Flags أو الجوانب السلبية لشخصية الشريك المحتمل ويتغافل عن صعوبة انسجام شخصين من أبناء العالم المعاصر في منزل واحد.
تجدر الإشارة إلى أن حدود الخيانة تختلف بين الثقافات، حيث يكون هامش التسامح معها في المجتمعات المحافظة أقل مقارنة بالمجتمعات المنفتحة. ويرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا باحتمالات ارتفاع معدلات الطلاق وانهيار العلاقات الغرامية أو الزوجية بحسب التشدد في معايير الخيانة. على سبيل المثال، أن يكون للزوجة صديق مسألة مقبولة في المجتمعات الغربية، بينما تعد هذه المسألة أقل قبولًا في المجتمعات المحافظة، وقد تُعتبر في بعض الأحيان انتهاكًا للتعهدات الزوجية بين الشريكين.
معاناة العزوف عن الزواج!
في هذا الصدد، تشير دينا، وهي امرأة أربعينية من لبنان، وتعمل كمعالجة نفسية، شاركت ميغازين تجربتها بالقول: "قديمًا كان الحب أصدق، وكان الرجل أو المرأة يكتفي بشريك واحد، وأما اليوم فإنه مرتبط أكثر بالمصالح والرغبات الجنسية، لذلك لا تدوم العلاقات طويلًا".
وترى دينا أن رجال اليوم أكثر شبعًا من العلاقات بفعل الكم الهائل من المغريات، وترى أن هناك دومًا المرأة الجميلة والأجمل منها، مما يصعب من مسألة الالتزام بعلاقة واحدة. وتبعًا لذلك أصبح الرجال يبحثون عن أنماط تجارب جديدة غير مألوفة وينحون جانبًا فكرة الحب والزواج والالتزام بشريك واحد".
تربط دينا بين ارتفاع نسبة الطلاق وبين استقلال المرأة الاقتصادي، وتعليمها، والانتقائية الشديدة من قبل إنسان هذا العصر، والملل من العلاقة بعد مضي سنوات، وتشير إلى أنه في السابق "لم يكن للمرأة قدرة على الرحيل والانفكاك من العلاقة بسهولة". وكل ما ذكر يؤدي إلى نتيجة محسومة: "ارتفاع معدل عمر الزواج لدى الجنسين"، وهي "مشكلة يجب طرحها لأنها تسبب معاناة لكثير من النساء بسبب عزوف الرجال عن الزواج"، مما يعني حتمًا حرمان الكثير من النساء الراغبات الاستقرار وتأسيس أسرة وإنجاب الأطفال من تحقيق مرادهن.
الحب كغيره من مجالات العصر، تعرض لإعادة التشكيل بما يواءم العصر، فصار أشبه ما يكون بالوجبات السريعة بفعل انتشار ثقافة الإشباع الفوري. إن كانت الخيانة متاحة بسهولة وبسرية دون عواقب انكشافها، وإن كان الجنس متوفرًا بكثرة، وإن كانت الرغبات المتعلقة بمفاهيم كالحب والزواج والأسرة والأمومة والأبوة قد تراجعت في العالم الحديث وأمام الواقع الاقتصادي القاسي، فكيف تصمد حينها العلاقات العاطفية وكيف تستقر المؤسسة الزوجية؟!
في الصين على سبيل المثال لا الحصر، نجد ظاهرة مثيرة تتمثل بالدمى البشرية التي أصبحت تباع في المتاجر عبر الإنترنت وتصل إلى باب المنزل عبر خدمة التوصيل. فمن لا يريد تعكير مزاجه وحياته بالتعامل مع شريك بشري، بإمكانه ببساطة طلب دمية بمواصفات ومميزات محددة قادرة على التفاعل مع الشريك.
يعكس ذلك تغيرًا كبيرًا في فهم العلاقات الإنسانية، حيث يبدو أن الفردية قد أصبحت أكثر هيمنة في حياة الإنسان المعاصر، مما يعني تعويض العلاقات الغرامية وانتقالها، إلى حد ما، إلى علاقات بديلة، منها مع الذكاء الاصطناعي.
كيمياء الحب!
السرعة في التواصل والتفاعل قد تقلل من فرص التعلق العاطفي العميق. البشر، بطبيعتهم، يحتاجون إلى وقت لبناء الثقة والحميمية. عندما تكون العلاقة قصيرة أو سريعة، قد تكون عملية التعلق أقل وطأة على النفس. هل رؤيتي لشخص لمرة واحدة تعادل رؤيتي لشخص ألف مرة؟! وهل سماعي لصوت شخص لمرة واحدة يعادل سماعي لشخص ألف مرة؟! وهل شمي رائحة شخص ما لمرة واحدة تعادل شمي لرائحة شخص ألف مرة؟! وهل تقبيل شخص لمرة واحدة يعادل تقبيل شخص ألف مرة؟!
ما المغزى من هذه الأسئلة؟ بالتأكيد هناك ربط ما؛ فالجسد قابل للتعود بفعل التكرار، والتكرار عملية تتطلب وقتًا وزمنًا يتيح هذا التكرار، ويسمح بالتماس بين شخص مع شخص آخر، فتتآلف أجسادهما ومشاعرهما. إن تكرار العمليات الحسية وانطلاقها من شخص لآخر محدد، يمكن أن تخلق نوعًا من الاستثارات الهرمونية والعصبية شبيهة بتلك التي يحفزها التدخين أو الإدمان. هناك استثارة حسية عالية نتج عنها طلب لإشباع هذه الاستثارة، فالمدخلات الحسية الأتية من الخارج/الآخر المحدد تحفز الحاجة والرغبة للإشباع من الآخر بهدف إعادة التوازن النفسي والجسدي والعصبي.
أما عن الربط، فالسرعة هنا في العلاقات تقلل من الاستثارات فيما العلاقات طويلة الأمد وتضغط على الجسد عبر هذه الاستثارات. واحدة من هذه الضغوطات تشمل: الذكريات، كلما تعاظمت التجارب، كلما كبرت الذكريات، كلما صار من الأصعب اقتلاع هذه الذكريات وإيقاف استثاراتها، وبالتالي تنحية الشريك الآخر من حياتنا وإنهاء العلاقة العاطفية أو الزوجية، والعكس صحيح.
فهناك ارتباط قوي بين الهرمونات والجهاز العصبي وبين سرعة الحب. عند الوقوع في الحب، يحدث تفاعل معقد بين المواد الكيميائية في الدماغ، مثل الدوبامين، الأوكسيتوسين، والتستوستيرون، الفاسوبريسين، وهذه المواد تلعب دورًا مهمًا في تحديد كيفية تطور العلاقة ومدى سرعتها.
يبدأ الحب عندما يفرز الدماغ مواد كيميائية مثل الدوبامين المسؤول عن الشعور بالمكافأة، والأوكسيتوسين الذي يعزز الترابط، والنورأدرينالين الذي يسبب الشعور بالإثارة. هذه المواد الكيميائية تُحفز مراكز المكافأة في الدماغ، مما يجعل للحب شعورًا قويًا وممتعًا. مع مرور الوقت، يبدأ الدماغ بتحديد الشريك العاطفي كمصدر رئيسي لإفراز المواد الكيميائية المرتبطة بالحب، مما يعزز الارتباط العاطفي بين الطرفين.
طبعًا، ما أشير إليه نسبي، فدراسة الحب ليست كدراسة الأرقام، فالحديث هنا إنما يتخذ طابع النسبية وطابعًا تجريبيًا ذاتيًا أكثر مما يستند إلى دلائل علمية مطلقة. في الخلاصة هنا، فالسرعة في العلاقات، تعني أقل تحفيز واستثارة، مضافًا إليها العالم المفتوح والخيارات اللامتناهية المتاحة للعلاقات الجنسية، كلها تؤثر على الإنسان المعاصر لناحية انضباطه داخل المؤسسة الزوجية واستقرار هذه المؤسسة.
الحب وجيل الألفية!
ويتسم العصر الحديث بالحرّيات التي أعطت للنساء سلطة على أجسادهن، وما رافق ذلك من تنوير وتعليم للنساء، ما أدى إلى أن المراة صارت فاعلة ومقررة في العلاقات الغرامية وأصبح لها القدرة على المبادرة والاختيار وضمان حمايتها القانونية إلى حد ما. فالمجتمعات، وإن نسبيًا، صارت أكثر تسامحًا مع العلاقات الجنسية سواء قبل الزواج، أو خارج إطار الزواج، أو العلاقات البديلة كالجنس العابر، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الالتزام العاطفي بشريك واحد، مهددًا بتفكك العلاقات وانهيارها.
أما بالنسبة للجيل Z الحالي، أصبح طلب الالتزام الواضح فكرة قديمة. فبالنسبة لهذا الجيل، الحب قوة ديناميكية، كيان متغير باستمرار لا يمكن تقييده وحصره ضمن الفئات التقليدية للعلاقات. يركز أبناء الجيل الحالي على التجربة والمتعة والاستكشاف دون الارتهان لأي ضوابط وهياكل رسمية تقليدية. كما وأن الرفاه الشخصي والحب الذاتي والصحة النفسية أصبحت أولوية في علاقات الحب عند الجيل الحالي، وهو أمر لم يكن منتشرًا في الثقافة التقليدية. فهل يعيد هذا الجيل تعريف الحب من جديد؟!
وفي ذات السياق، يرى صافي أن قصر عمر العلاقات الغرامية وانعكاسه على المؤسسة الزوجية ينبع من ضياع يعيشه الفرد المعاصر، سواء من ناحية الاستعجال في الاختيار، أو اختيار الشريك الخاطئ، أو عدم فهم الفرد المعاصر لرغباته وحاجاته وما يريده، أو عدم فهمه للشريك، أو عدم إعطاء الوقت الكافي للتفاعل معه، إضافةً إلى اجتياح المنبهات الخارجية التي شَوَّشَت عقل أبناء الجيل الحالي.
هنا، لا بد أن أشير إلى دراسات أظهرت مدى الارتباط بين الرضا الجنسي وبين استقرار الزواج، ودراسات تتحدث عن زيادة استخدام الإنترنت وارتباط ذلك بانخفاض معدلات الزواج وارتفاع معدلات الطلاق، وتشير دراسة أخرى إلى أن نسبة أقل من البالغين متزوجون الآن، مقارنة بما كانت الحال عليه عام 1950 في الولايات المتحدة الأميركية، أي انخفضت النسبة من 82% إلى 62%، وتضاعف معدل الطلاق بين الفترتين من 11 حالة إلى 23 حالة لكل ألف امرأة متزوجة.
وفي عام 1950 كان هناك 211 زيجة لكل ألف امرأة غير متزوجة، مقارنة بحوالي 82 زيجة عام 2000 لكل ألف امرأة غير متزوجة. ترجع هذه الأرقام إلى معايير تتعلق بزيادة ساعات العمل وارتفاع التحصيل العلمي واستقلال المرأة الاقتصادي.
إذًا، القضية تتمدد وتشتد عند الجيل الحالي وستتفاقم عند الأجيال القادمة، إذ إنهم سينشؤون في رحم هذا المخاض، والمستقبل كفيل بكشف ما ستؤول إليه أحوال الحب، والمؤسسة الزوجية، والمسائل المرتبطة بهما.
الحب السلبي في مقابل الحب الإيجابي!
التصورات الرومانسية حول الحب والزواج غالبًا ما كانت مستوحاة دينيًا، باعتباره شراكة بين رجل وامرأة يلتقيان، ويقعان في الحب، ويتزوجان، وينجبان الأطفال، ويرفضان اللقاءات الجنسية أو الرومانسية مع أي شخص سوى الزوج أو الزوجة، ويعيشان في سعادة دائمة. هذه التصورات أصبحت تُسائل الآن. فالحب، الذي كان يُعتبر يومًا ما شعورًا عميقًا يهز الروح، يبدو وكأنه يفقد جوهره في عالمنا اليوم. تشير ملاحظات اجتماعية ودراسات حديثة إلى أن التصورات حول الحب أصبحت تتبدل بفعل التركيز على الإشباع الفوري والسعي الدائم وراء التجديد.
عالم النفس إريك فروم، في كتابه "فن الحب" يحلل القضية مشيرًا إلى أن الحب نشاط إيجابي وليس مجرد تأثر سلبي، بمعنى أن الحب مهارة تتطلب الوقت والجهد والنية والالتزام والمثابرة والعمل الجاد والانكشاف، والتنازل، والاتصال العميق، والاستثمار في العلاقة مع الشريك.
أصبح تمرير الشاشة يمينًا أو يسارًا على تطبيقات المواعدة هو القاعدة، حيث يُختزل الإنسان غالبًا إلى مظهره أو مدى قدرته على تلبية الرغبات الفورية. ضمن عالم "سوق العلاقات"، يبحث الأفراد عن "الحزمة" الأكثر جاذبية، تمامًا كما نتأمل واجهات المحلات، بحثًا عن المنتجات التي تتماشى مع تفضيلاتنا.
ففي مشهد المواعدة الحديثة، يظهر مفهوم "سوق الشخصيات"، حيث أدى انتشار تطبيقات المواعدة ووسائل التواصل الاجتماعي إلى غرق الأفراد في عالم رقمي يعزز السطحية، وهو ما انتقده فروم بشدة. أصبح الناس اليوم يصممون شخصياتهم الإلكترونية بعناية لتتماشى مع الاتجاهات والقيم السائدة، ويعرضون صورًا مثالية لحياتهم، سعياً وراء التقدير الخارجي بدلاً من بناء روابط حقيقية. وفي خضم هذا السعي ليكونوا "قابلين للتسويق"، يتحول التركيز بعيدًا عن عمق المشاعر والأصالة، لصالح زيادة الجاذبية الاجتماعية والقيمة السوقية. لم يعد الهدف العثور على حب حقيقي، بل أن يُنظر إليهم على أنهم مرغوبون وجذّابون في أعين الآخرين، في تكرار لتحذيرات فروم من النهج الاستهلاكي للحب.
ونتيجة لذلك، تترسخ فكرة "الحب السلبي" في عالم المواعدة الحديثة، حيث ينتظر الناس قدوم الشريك المثالي إليهم بدلاً من السعي بنشاط وراء بناء علاقات ذات معنى. هذه السلبية، كما يحذّر فروم، قد تؤدي إلى حالة دائمة من البحث المستمر، وإلى شعور بالانفصال عن علاقاتنا الحالية، مما يساهم في تسليع الحب وتحويله إلى مجرد منتج يُعرض في السوق.
في هذا العالم الذي تحكمه النزعة الاستهلاكية في الحب، كما صوّره فروم، ترسخت فكرة أن الحب، مثل أي سلعة أخرى، يجب أن يلبي رغباتنا وتفضيلاتنا. واعتاد الأفراد على ثقافة الراحة والسهولة، وتقلصت فكرة استثمار الوقت والجهد في بناء علاقة ذات معنى، وطويلة الأمد تبدو.
يشير الفيلسوف زيجمونت باومان في كتاباته حول السيولة العاطفية، بقوله أن التكنولوجيات المعاصرة ساهمت في زيادة الفردانية، حيث أصبح الناس في علاقاتهم أكثر تركيزًا على أنفسهم واحتياجاتهم الفردية بدلاً من بناء علاقات متينة وطويلة الأمد. هذه الفردانية تتفاقم حدتها في عصر السرعة، حيث بات الأفراد يتجنبون المسؤوليات، مما يساهم في جعل العلاقات أكثر عابرية.
بدوره يربط هيربرت ماركيوز بين تسارع العلاقات العاطفية في السياق التكنولوجي مع تحول الوجود البشري إلى وجود كمي وميكانيكي. بمعنى آخر، تبسيط وتحويل كل شيء إلى مخرجات قابلة للقياس، مثل الخوارزميات في تطبيقات المواعدة، مما يؤدي إلى فقدان القيمة الفلسفية لعمق الوجود الإنساني في العلاقات العاطفية.