الراديو في حياة الفلسطينيين

موجات الراديو: ترددات تقاوم العدوان الإسرائيلي منذ النكبة

27 نوفمبر 2024

انتشر قبل أيام مقطع فيديو يظهر فيه جهاز راديو موضوع على نافذة مقوسة لبناء عتيق. في الخارج، وقف جنديان من جيش الاحتلال، وعندما سمعا صوت الإذاعة، قررا إغلاق النافذة من موقعهما في محاولة لإسكات البث الذي كان يغطي عدوانهم على قطاع غزة.

يقول لي مصعب شاور، وهو المصور الصحفي الفلسطيني الذي وثق المشهد بكاميرته: "التصوير كان من داخل قهوة بدران، مقهى قديم في البلدة القديمة بمدينة الخليل. تواجد الجيش والمستوطنون في المنطقة، وبدأ الجيش بإغلاق نوافذ وأبواب المقهى على من بداخله، ومنع حركة الفلسطينيين في المكان حتى انتهاء اقتحام المستوطنين. كان الراديو يبث إذاعة ناقلة لقناة العربي".

تعد قهوة بدران أقدم مقهى في مدينة الخليل، وتقع في سوق القزّازين وسط البلدة القديمة. يُعرف عنها صمودها منذ ما قبل النكبة، ويزيد عمرها على عمر الاحتلال نفسه، عدا عن امتلاكها أول مذياع في المدينة نقل، على مدار أكثر من مئتي عام، أثير القضية الفلسطينية. 

ينطلق هذا المقال من واقعية المشهد السابق، ليطرح خصوصية الراديو بوصفه وسيلةً إعلامية تقليدية لكنها حيوية في حياة الفلسطينيين، وأهالي قطاع غزة خصوصًا، في ظل تعطّل وسائل الاتصال أو انعدام البدائل الإعلامية الأخرى منذ بداية "الحرب على فلسطين في قطاع غزّة" (اصطلاح أطلقه المفكر العربي عزمي بشارة في توصيفه للحرب، واستخدمه عنوانًا لكتابه عنها)، إذ برزت في ظل هذه الظروف العودة للإعلام التقليدي كحاجة وظيفية.

يتناول المقال أيضًا كيف شكلت استدامة الراديو جزءًا من منظومة المقاومة الإعلامية، من خلال تحليل كيفية استجابته للسياسات الإسرائيلية القمعية، التي تهدف إلى عزل غزة والأسرى الفلسطينيين إعلاميًا وإنسانيًا.

 

الإذاعة: أثير يقاوم الإبادة الإعلامية

في ظل الحصار والعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، وما تعرضت له البنية التحتية المدنية، بما في ذلك وسائل الإعلام، من استهداف مباشر أدى إلى تعطل الإنترنت وشبكات الاتصالات بفعل الحجب والقصف والانقطاع المستمر للكهرباء؛ ظهر الراديو بوصفه أداةً إعلامية حيوية وبديلة للفضاءات التقنية تضمن، ولو جزئيًا، استمرارية نقل الأخبار ومواجهة احتكار إسرائيل للمعلومات.

كما ساهم في تشكيل فضاء رمزي جامع، يعيد تشكيل الروابط وصياغة كل ما يعمل الاستعمار على تفكيكه بين الأفراد والجماعات، وكليهما مع الوطن، من خلال سياسات القتل والتدمير التي تعكس بنية الإبادة التي يفرضها الاحتلال على القطاع، والتي يشكّل الإعلام جزءًا منها، وتسعى إسرائيل باستهدافه إلى تحقيق أهداف استعمارية عدة. 

لا تقتصر غاية استهداف الوسائل الإعلامية والصحفيين على القتل وتدمير البنية التحتية والمعدات اللوجستية للاتصال المحلي والخارجي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى سياسات استعمارية كامنة تسعى إلى إبادة وظيفة الإعلام نفسها، وكذلك المقاومة الرمزية المتمثلة في المحتوى الإعلامي والخطاب بالإضافة إلى السردية الفلسطينية الرقمية، مما يشير إلى وجود ما يمكن أن نطلق عليه "إبادة إعلامية". 

هكذا ركّزت الغارات الإسرائيلية على استهداف محطات التلفزيون والأبراج الإعلامية وبنية الاتصال عبر الإنترنت، بهدف إسكات الصوت الفلسطيني وتحقيق عَزلِ غزة إعلاميًا بهدف خلق "فراغ معلوماتي" يُمكّنها من فرض سرديتها دون منافسة أو مواجهة.

ولم تكن الإذاعة بمنأى عن هذا الاستهداف. فمنذ بداية الحرب، قصفت دولة الاحتلال الإذاعات المحلية في قطاع غزة، ودمّرت معدات البث وأجهزة الإرسال، ليكون استهدافها بالتعطيل جزءًا من استراتيجية "العزل الإعلامي".

تهدف هذه الاستراتيجية إلى حجب الحقيقة عن العالم الخارجي، وتغييب الفلسطيني عن الأحداث، وتكثيف الضغط النفسي عليه من خلال ما يمكن وصفه بـ"حالة التيه" التي تنتجها إسرائيل في القطاع، من خلال حرمان سكانه من معرفة الأخبار ومجريات الحرب، خاصةً أماكن القصف والنزوح الممكنة وتلبية الحاجة للمعلومات الآنية، وإيصال التحذيرات والإرشادات الأمنية والتقارير الفورية، ومشاركة التحديثات المستمرة حول التطورات والمعلومات الميدانية. 

لكن في ظل هذا العزل الإعلامي والحصار التقني وممارسات الإبادة الرقمية للمحتوى الفلسطيني، ظهرت الإذاعة بوصفها أكثر وسيلة إعلامية قدرة على الصمود، والوصول إلى السكان، وإعادة تشكيل علاقتهم بالواقع المحيط. يقول محمود الداوودي الذي يملك محلًا لبيع الهواتف والإلكترونيات في رفح جنوب القطاع، إنه: "منذ الأسبوع الأول للحرب، نفذت لدينا كل أجهزة الراديو في فروعنا الثلاثة، وفي المخازن كانت لدينا كمية كبيرة نفذت كلها". فقد دفعت الإجراءات الإسرائيلية السابقة السكان إلى اللجوء للراديو الذي يتجاوز القيود التكنولوجية الحصرية، بهدف الاستماع إلى الإذاعات دون الحاجة إلى الاتصال بتيار كهربائي أو بالإنترنت.

هكذا برزَ دور الإذاعات في المقاومة الإعلامية خلال حرب الإبادة، لا سيما بعد أن أعلنت قناة "الجزيرة"، ثم "التلفزيون العربي"، عن نقل البث الخاص بهما عبر أثير الإذاعات. كما استمرت ترددات بعض الإذاعات الوطنية والعبرية وهيئة الإذاعة البريطانية "BBC" في الإرسال والوصول إلى القطاع. وعلى الرغم مما يحمله هذا من نقد سنوضحه تاليًا، إلا أن له من الجدوى ما لا يمكن إغفاله مقارنةً بالغايات الإسرائيلية السابقة.

 

المقاومة في الإعلام: التقليدي المسموع في مواجهة الإسرائيلي الحديث

تظهر أهمية استدامة الراديو اليوم تبعًا للإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف الإعلام من حصار وتسييس وانتهاك للمحتوى الفلسطيني، وتضييق على وصول المحتوى الذي ينقل الرواية الفلسطينية.

وفي ظل محاولات إسرائيل الهيمنة على السرد الإعلامي الدولي عبر استهداف وسائل الإعلام الفلسطينية وتشويه روايتها، يبرز الراديو كأداة مقاومة تعيد تشكيل السرد الفلسطيني وتواجه الرواية الإسرائيلية، وتقاوم التضليل والتجييش الإسرائيلي للإعلام الحديث. فعلى الرغم من التوظيف الاستعماري للإذاعة عبر محطات عدة من تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، سواء في السياسات التحريرية أو في نوعية البرامج الإذاعية وكيفية توجيهها للمستمعين، يبقى الراديو الوسيلة الأكثر تحررًا من سلطة الاحتلال على الإعلام. وهو ما يمكن قراءته في ظل العدوان الحالي على قطاع غزة.

من ناحية نقدية، لا يمكن تجاوز بقاء الراديو في قلب الصراع الإعلامي، مع وجود دور سلبي له، كما هو الحال مع مختلف وسائل الإعلام، إذ يحتاج أهل القطاع اليوم إلى محتوى يتجاوز التحليلات العسكرية والسياسية لمسارات الحرب التي تبثها قناتا الجزيرة والتلفزيون العربي عبر أثير الإذاعة؛ إلى ما هو أكثر إلحاحًا من الناحيتين المعيشية والمصيرية. 

كما أن راديو "BBC" لا يخلو من الانحياز الغربي لإسرائيل، الذي ترسمه عوامل التأطير الإعلامي واللغة الإخبارية والخطابية والسياسات التوجيهية التحريرية، التي تشكل أساسًا في التكوين البنيوي لمنظومة السياسة الغربية التي توظف الإعلام لأهداف مباشرة وغير مباشرة.

ويحمل أثير الإذاعة العبرية مضامن إخبارية تنعكس سلبًا على أهل القطاع المحاصر، بفعل صناعتها للحدث وفق ما يخدم السردية الإسرائيلية، ويلبي تطلعات جمهورها الإسرائيلي والغربي. كما تنسجم هذه المواد الإذاعية مع العقلية الصهيونية، ويحافظ على ترسيخ إسرائيل فوقيتها الاستعمارية لدى جبهتها الداخلية.

لكنه، في المقابل، يبقى أكثر قدرةً على التكيف مع السياسات والظروف القمعية التي تفرضها إسرائيل على الخبر والاتصال، وكذلك مواجهة هيمنتها الإعلامية التي تسعى إلى طمس الرواية الفلسطينية. وشكّل الراديو خلال الحرب الحالية علاقة ما بين القمع الإعلامي والصمود الفلسطيني عبر الإعلام التقليدي. 

فمن جهة، حافظت الإذاعة على بث السردية الفلسطينية رغم محاولات دولة الاحتلال فرض العزل الإعلامي على قطاع غزة، وبطريقة استطاعت تجاوز تحيّز شركة "ميتا" لإسرائيل، والقيود التي فرضتها منصاتها على المحتوى الداعم لفلسطين.

كما لعبت الإذاعة دورًا مهمًا بوصفها منصة للفئات المحرومة والمهمشة لإيصال صوتها، والتعبير عن معاناتها وحجم تضررها. وشكّلت أيضًا وسيلة لإعادة تعريف الهوية الجماعية في ظل المعاناة اليومية المشتركة والمستمرة، وعزز وحدة الخطاب الفلسطيني الداخلي، والخطاب المجتمعي في القطاع.

ومن جهة أخرى، تتشكل استثنائية الراديو، في هذا العدوان، بوصفه الوسيلة التي لا تخضع لممارسات إسرائيل في فضاء الإعلام المرئي، خاصةً لناحية تحرر الإذاعة من عسكرة إسرائيل للصورة البصرية في مختلف منصات العالم الافتراضي وما تنقله قنوات التلفزة. وبالتالي، تحرر المستمعين من توظيف الاحتلال لها في إطار سياسات الإرهاب والعنف البصري، واستخدامها أداةً وسلاحًا في مشروعه الاستعماري. وذلك من منطلق: "الأثر التصويري على نفس المستعمَر ووعيه وصموده، وفق سلطة الصورة وتأثيرها النفسي والسياسي عليه من خلال المعنى الذي تنتهكه الصورة والذي تنتجه في ذات الوقت". ذلك أن للصورة: "عنفها وهناك عنف يرسمه مضمونها، تبيّنه القراءة البصريّة لها على اعتبارها خطاب استعماري مرئي للحرب يخاطب مشاعر وحواس المتلقيين ووعيهم". 

 

الدور الوظيفي المستمر للإرسال الإذاعي في فلسطين

تتعدد الأدوار الكامنة في الإنتاج الإذاعي الفلسطيني الذي يلعب أدوارًا سياسية واجتماعية تتجاوز نقل الأخبار، ليحقق أدوارًا وظيفية مهمة في محطات ومساحات عدّة، كان أبرزها في فترة النكبة، وتجاه الأسرى في السجون الإسرائيلية، وخلال الحروب كما في نموذج قطاع غزة اليوم.

وقد تمثّل ذلك من خلال نشر قيم خبرية وتقديم مواد تُنتج وفق خصوصية السياق الفلسطيني، وإطلاق البرامج الموجهة، والبرامج المشتركة، القريبة من المستمعين في مجالات متعددة، اجتماعية وسياسية وفنية وترفيهية، ما جعل للراديو دورًا مستمرًا في المقاومة بوصفه جزءًا من بنيتها الاجتماعية، والمتمثل بما يلي:

  1. فضاء اجتماعي متخيّل يقاوم العزلة والشتات

يمتاز الإعلام الإذاعي بدوره كوسيلة تواصل بين الفلسطينيين المشتتين جغرافيًا واجتماعيًا، وهو الدور الذي مارسه بعد نكبة 1948، ثم امتد إلى داخل السجون الإسرائيلية، ويتجدد اليوم على نطاق أضيق في قطاع غزة بفعل التشظي الذي يسببه النزوح المتكرر، وذلك في محاولة مستمرة لبناء الهوية الجماعية وتعزيز الهوية الوطنية من خلال إعادة بناء الروابط الاجتماعية بعد التشرد والتدمير الإسرائيلي للمجتمع.

مثلاً، في الحرب الحالية، يقول صالح الشنباري من بيت حانون: "من خلال برنامج غزة اليوم سمعت صوت أخي الذي فقدت التواصل معه في الحرب، فاطمأننت عليه وعلمت أنه ما زال على قيد الحياة". ويعد برنامج "غزة اليوم" الذي أطلقه راديو "BBC" منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وسيلة تواصل تذيع رسائل أهالي القطاع لبعضهم البعض بعد أن يرسلوها إلى الإذاعة، وهو ما يعيدنا إلى الدور الذي لعبته الإذاعة إثر النكبة، إذ شهد الفلسطينيون بعدها تشردًا قسريًا وتهجيرًا جماعيًا أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وتشتت العائلات.

ووسط هذا الواقع المأساوي، برز الراديو بوصفه وسيلة حيوية لبناء "مجتمع متخيل" في مواجهة اللجوء والإبعاد والتشتيت، والبقاء على اتصال مع الوطن بما يعزز من الانتماء له، ويُظهر كذلك قدرة الإعلام على تجاوز الحدود الجغرافية، وخلق لحظة جامعة بواسطة الاستماع وتقديم محتوى يحظى بالمتابعة من قِبل الجميع. 

 هكذا، لم يكن الراديو مجرد وسيلة للحصول على الأخبار، بل أصبح منصة للتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية، ووسيلة للاستفسار عن الأهل والأصدقاء في الشتات، إذ استخدم اللاجئون الإذاعات العربية للبحث عن ذويهم ولم الشمل والتعرف على أوضاع أحبائهم والاطمئنان على مصيرهم، ما جعل منه منبرًا للتواصل المباشر مع المستمعين، وبين المستمعين أنفسهم. ومن ذلك كله يمكن فهم التأثيرات الاجتماعية والنفسية للراديو في تعزيز الشعور بالانتماء الجماعي، وإعادة تعريف الفلسطينيين باعتبارهم جماعة واحدة وإعادة بناء النسيج المجتمعي رغم التشريد.

وعلى صعيد آخر، يلعب الراديو أيضًا دورًا محوريًا شديد الأهمية في مواجهة سياسات الاحتلال في السجون الإسرائيلية في ضوء استهدافها للبنى التحتية المعنوية للمقاومة، التي يُقْصَد بها "مجموع القيم الجامعة التي تجسد مقولة الشعب الواحد في الحياة اليومية"، بما يعزز الانتماء الجماعي عبر التواصل الوجداني بين الأسرى والعالم الخارجي، إضافةً إلى تحقيق التوازن العاطفي وتعزيز قدرتهم على الصمود في ظل العزلة الاجتماعية التي تفرضها إسرائيل بمعتقلاتها.

فعلى الرغم من استخدام إسرائيل للإذاعة كأداة للعقاب النفسي في السجون من خلال منع الراديو ومصادرته من الغرف، أو التحكم بنوعية الإذاعات والمحتوى الذي يبث في ساحات المعتقلات؛ إلا أن ضرورته للأسرى تكمُن في حرصهم على إنتزاعه بالأمعاء الخاوية والإضراب منذ الثمانينيات، تبعًا لاجتماعية مهنة الراديو وتأثير البرامج الإذاعية الموجهة للأسرى، خاصةً تلك التي تربطهم بذويهم وبأخبار التطورات السياسية الفلسطينية في محاولة لتخفيف التبعات النفسية والاجتماعبة الناتجة عن منع إسرائيل الزيارات في السجون، وهو الدور الذي يبرز اليوم مع الإجراءات القمعية التي اتخذتها إسرائيل في السجون منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

 

  1. توثيق وأرشفة ثم تأريخ 

يعتبر الراديو الفلسطيني نموذجًا للمصدر الشفوي الذي "من شأنه أن يؤرخ للحدث المنسي وللذاكرة الجماعية، وأن يسهم في بناء المسارات المجتمعية"، لا سيما أنه يؤدي دورًا محوريًا في تأريخ محطات من الواقع الاجتماعي والسياسي والفني الفلسطيني وتشكيل الوعي الجمعي به، وتوثيق أحداث المعيش في ظل الاحتلال، لتصبح أرشيفًا صوتيًا للذاكرة الفلسطينية، يحفظ السردية الفلسطينية ويشكّل مرجعًا تاريخيًا واجتماعيًا، كما يعيد الارتباط بالوطن ويتيح تشكيل الرموز والتواصل الثقافي بين الشتات في ظل اللجوء.

ويستمر الراديو اليوم في دوره بالتوثيق عبر نقل المعاناة الحالية في قطاع غزة من خلال روايات وسرديات النازحين في الشهادات الحية، التي ستشكل أرشيفًا صوتيًا يعكس وحشية العدوان الإسرائيلي، كما كان دوره سابقًا في توثيق النكبة عبر بث سرديات اللاجئين، إذ ساهم الراديو بعد النكبة في نقل معاناة وتجربة الفلسطينيين للخارج وتوثيق أحداثها وتبعاتها عبر الشهادات التي نقلت السياسات الإسرائيلية وعنف الاستعمار.

وعليه، يكون للتأريخ والتوثيق والأرشفة الدورَ في صياغة سردية "نحن"، بهدف تعزيز الهوية الوطنية وحفظ وبناء الذاكرة الجمعية، بما يمكّن من مواجهة التحديات والسياسات الاستعمارية، ويعكس القوة الاجتماعية للرموز الإعلامية في تعزيز الهوية الجماعية والحفاظ على التراث في وجه محاولات الطمس.

وهذا بالضبط ما تحققه نوعية المادة الإعلامية في البرامج الإذاعية، والذي به تجاوزت الإذاعة دورها كناقل للأخبار، إلى إنتاج ما يخاطب رغبات المستمعين من برامج ثقافية وتراثية وتقديم محتوى مشترك يعكس القيم والتطلعات الوطنية، ويوحّد الفلسطينيين حول رواية نضالية مشتركة.

ولذلك، لم يغفل الإعلام المسموع عن جعل بث الأغاني الوطنية جزءًا من هوية الإذاعات العربية والفلسطينية منذ بدايات نشأتها، لنقل وترسيخ الأدوار المقاومة التي تلعبها هذه الأغنيات، سواء في توثيقها للقيم الوطنية الجمعية، أو في كشفها عن محطات عديدة من تاريخ النضال الفلسطيني من خلال الواقع الشعبي الذي يحرص النص الغنائي على وصفه، بالإضافة إلى دورها المهم والذي يتلاقى مع أدوار البث الإذاعي، وهو المتمثل في الوظيفة العاطفية بالتعبير عن المشاعر والانفعالات في الأغنيات وفي مشاركة مشاعر الوداع والفراق والشوق التي نقلتها وتنقلها ترددات الإذاعات في برامج خاصة.

أما بالنسبة إلى دوره في تعزيز الهوية الوطنية داخل السجون،فيمكن القول إن الراديو يعزز للأسرى شعور الانتماء إلى مجتمعهم وقضيتهم الوطنية، ويعيد إنتاج الهوية الجماعية التي تسعى إسرائيل لتفكيكها من خلال العزل والقمع، ليعكس استخدامهم له تحديًا للسيطرة الإسرائيلية على وعيهم وإدراكهم للأحداث، فيكون له الدور الحيوي في مواجهة السياسات القمعية التي تهدف إلى فك ارتباطهم بمحيطهم الاجتماعي وإضعاف روابطهم العاطفية معه لتفكيك هويتهم الوطنية.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

الاستعمار وخرافة العِرقْ.. الجذور الخفية للإبادة الجماعية في رواندا

تعود جذور الإبادة الجماعية في رواندا إلى حقبة الاستعمار الأوروبي، وسياساته العنصرية التي فرّقت بين الروانديين على أساس العرق الذي سعى الألمان والبلجيكيون لإثبات وجوده

2

12 يومًا هزّت العالم.. كيف سقط النظام في سوريا؟

سقط الأسد بأيدي السوريين الذين وصمهم وحاربهم وشرّدهم، ولم يكن السقوط مجرد نهاية طاغية، بل فتح مرحلة تاريخية جديدة لسوريا وشعبها، وتتويجًا لنضال عصيب

3

الإرث المرابطي في الذاكرة الموريتانية.. جدل التاريخ والهوية

تركت الحركة المرابطية إسهامات واضحة على الكثير من المظاهر الثقافية والاجتماعية والمجالية للتاريخ الموريتاني المعاصر

4

بين ناس الغيوان والألتراس.. فلسطين في وجدان الأغنية المغربية

على اختلاف ألوانها ولغاتها، خصصت الأغنية المغربية مساحة واسعة للقضية الفلسطينية تعكس مدى اهتمام المغاربة بها وتضامنهم معها

5

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

اقرأ/ي أيضًا

adb-aldktatwryt

أدب الدكتاتوريات.. هل الطغاة متشابهون في كل مكان؟

تعكس "روايات الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية" استبداد السلطة وتأثيرها المدمر على المجتمعات، وتعرض تشابهات عديدة مع طغاة العالم العربي

يونس أوعلي

طلائع
طلائع طلائع

حزب البعث وأدلجة الطفولة في سوريا

عبر أدوات مثل الأنشطة المدرسية، الأغاني، وتكرار الشعارات، نجح النظام في تحويل العملية التعليمية إلى وسيلة لتدجين الأطفال وإخضاعهم نفسيًا وفكريًا

إسراء عرفات

سجن صيدنايا

سجون الأسد: ضرورة فهم ما يفوق "حيونة الإنسان"

تبقى سجون نظام عائلة الأسد، وعلى رأسها سجن صيدنايا، أكثر رموز حقبتهم رهبةً وقوة لما جسدته من وحشية تتجاوز حدود الخيال

حسن زايد

تمثال حافظ الأسد في شوارع حماة

12 يومًا هزّت العالم.. كيف سقط النظام في سوريا؟

سقط الأسد بأيدي السوريين الذين وصمهم وحاربهم وشرّدهم، ولم يكن السقوط مجرد نهاية طاغية، بل فتح مرحلة تاريخية جديدة لسوريا وشعبها، وتتويجًا لنضال عصيب

فريق التحرير

جبل قاسيون

جدلية الصمت في تركة الاستبداد السوري

يقودنا الفهم العميق لآليات السلطة إلى معرفة الكيفية التي حوّلت بها تلك السلطة الصمت إلى استراتيجية للبقاء، لكن في المقابل تقودنا تلك العملية إلى معرفة طرق المقاومة الخفية التي قد تنبع من هذا الصمت نفسه

رامز صلاح

المزيد من الكاتب

إيمان بديوي

باحثة أردنية

استيطان التشويه: جُرح المستعمِر على جسدِ المستعمَر

تسلط هذه المادة الضوء على جسد الجريح الفلسطيني الذي يتخذه الاحتلال الإسرائيلي ساحةً للحرب والتدمير، وجبهةً يجني منها مكاسب سياسية