تعود جذور الاستشراق إلى القرن الرابع عشر، حين أصدر مجمع فيين الكنسي عام 1312، المنعقد في مدينة فيين الفرنسية، قرارًا بإنشاء كراسٍ لتدريس اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية، مثل باريس وأوكسفورد وبولونيا، ليشكّل هذا القرار انطلاقة مبكرة للدراسات اللاهوتية التي تناولت الإسلام من منظور استعلائي، تمهيدًا لتحجيمه وتقويضه، لا لفهمه بموضوعية.
لم يتبلور الاستشراق كحركة علمية ذات أهداف أيديولوجية وعنصرية وإمبريالية إلا مع أواخر القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الحين، عمل على اختزال الحضارة العربية الإسلامية في صور نمطية جاهزة، تدور حول انغماس رجالها ونسائها في الفسوق، ونزوعهم إلى الاستبداد، وامتلاكهم عقلية شاذة، ساذجة، ومتخلّفة، وكلّ ذلك في سبيل خدمة القوى الإمبريالية، وتسهيل عملية سيطرتها على الشرق.
بنى المستشرقون معرفتهم الغربية عن الشرق بالاستناد إلى أمثولات وصور متخيلة، صوّرت المجتمعات الشرقية بوصفها متشابهة إلى حدّ التطابق، ومناقضة تمامًا للمجتمعات الغربية "العقلانية"، فانبثق من هذه التصوّرات شرقٌ جامد، منغلق، رجعي، يرزح رجاله ونساؤه تحت وطأة الجهل والتخلف، ويحتاجون إلى من "ينقذهم" من واقعهم المرير.
وكانت النساء الشرقيات في قلب هذا الخيال الاستشراقي؛ فقد ظهرت المرأة الشرقية في واجهة الخطاب لا ككائن حي، بل كرمز متخيّل، وبرز جسدها في متونه بوصفه جسدًا مغويًا، ماحيًا، ضعيفًا، محجوبًا حينًا، ومكشوفًا حينًا أخر.
هذا التخيّل الجسدي المتكرّر شكّل ما عُرف لاحقًا بـ"الاستشراق الجنسي"؛ وهو المفهوم الذي يُسلّط هذا المقال الضوء عليه، متتبعًا جذوره من شهوانية لوحات المستشرقين المتأثرة بحكايات "ألف ليلة وليلة"، حتى تحوّله إلى أداة استعمارية تُستدعى تحت شعار "إنقاذ المرأة المسلمة".
مدخل إلى الاستشراق الجنسي وتعريفه
يُورد ممدوح الشيخ في كتابه "الاستشراق الجنسي: الحرب على النقاب"، أنّ بدايات الاستشراق الجنسي جاءت مترافقة مع بروز الحركة الرومانسية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وهي التي ظهرت كردّ فعل على التنوير والعقلانية الصارمة، وجاءت لتمجّد العاطفة، والفرد، والطبيعة، والخيال، كما كانت مشحونة بنزعة تمرد على السلطة والعقل والمنطق الجامد. فقد وجّه العديد من الرومانسيين الأوروبيين أنظارهم نحو الشرق، واتجهوا للبحث عن ملامح جمالية رومانسية في نسائه، وصوّروا هذا الشرق كفضاء بديل، غريب، وخارج عن المألوف الأوروبي.
منذ بداية القرن التاسع عشر، بدأت الرومانسية تتطوّر في العديد من الدول الأوروبية بشكل متزامن، وبدأ الاستشراق الرومانسي يأخذ صبغته القومية والمحلية بحسب الظروف والعوامل التاريخية والاجتماعية في كلّ بلد أوروبي. ففي ألمانيا مثلًا، برز الاستشراق الرومانسي في الأدب والفلسفة وعلم الجمال (مدرسة يينا، شليغل، شلينغ، ونوفاليس)، أما في إنجلترا، فقد ظهر في الشعر والرواية التاريخية لدى بايرون ووالتر سكوت وشيلي، بينما تجلّى في فرنسا في مختلف الفنون، من العمارة إلى الموسيقى والمسرح والفنون الخزفية.
رغم تباين المدارس الرومانسية، فإنّها جميعًا اشتركت في نزوعها نحو تصوير عوالم الشرق من منظور جمالي ووجداني، وتبنّت صورًا ومفردات مستمدّة من مخيال استشراقي صاغه الأوروبيون بأنفسهم. ومع تراكم هذا التصوير الجمالي، وازدياد حضور الشرق بوصفه فضاءً للحسّية والانفعال، بدأت تتشكّل ملامح ما بات يُعرف لاحقًا بـ "الاستشراق الجنسي".
يُشير الاستشراق الجنسي إلى ذلك الاتجاه في الاستشراق الذي لعب فيه الجنس دورًا مركزيًا في خيالات المستشرقين وأعمالهم، حيث صوّروا الشرق باعتباره فضاءً مؤنثًا، خصبًا، ومشبّعًا بالدلالات الإيروتيكية. وقد ارتكز هذا التصوّر على ثلاثة رموز أساسية ظلّت تتكرّر في أغلب نتاجاتهم الفنية والأدبية: المرأة الشرقية الشهوانية، الحريم كفضاء مغلق وغامض، والحاكم المستبدّ. وكلّ ما أنتجه المستشرقون – في إطار هذا النمط من الاستشراق – من لوحات ونصوص وفنون، لا يخرج في جوهره عن هذه الرموز الثلاثة، بل يعيد إنتاجها باستمرار. فحزمة الصور التي مثّلت الشرق في هذا السياق باتت مألوفة، تَخدم تثبيت العلاقة بين الشرق والانفلات الجنسي، وتُرسّخ موقعه بوصفه الآخر الإيروتيكي في المخيال الغربي.
ألف ليلة وليلة وتخييل المرأة الشرقية
يُمثّل كتاب "ألف ليلة وليلة" إحدى أبرز المرجعيات التي اعتمد عليها المخيال الغربي في بناء تصوّراته عن الشرق. فقد سَحرَ هذا الكتاب أوروبا عند ترجمته إلى لغاتها، وكرّس مفاهيم استشراقية استمرّت طويلًا دون أن تتزحزح. خصوصًا فيما يتعلّق بعالم النساء الشرقيات، الذي صوّره هذا المخيال كعالم غامض وخفي، تعيش فيه نساء جميلات ومعزولات، يحاولنَ الانتقام من سلطة الرجل الوهمية عبر حيلة الجسد.
يتجلّى هذا التلقي الغربي لألف ليلة وليلة مرجعًا لتصوّر عالم النساء الشرقيات، فيما أورده البريطاني ريتشارد بورتون في مقدّمة ترجمته للكتاب عام 1885، حيث قال: "ثمة عنصر آخر في ألف ليلة هو الفُحش المطلق الذي يخدش، دون شكّ، حياء القرّاء الإنجليز، حتى أقلّهم احتشامًا".
وتظهر هذه النظرة أيضًا في أعمال الرحّالة والمستشرقين والأدباء والفنّانين الأوروبيين الذين زاروا الشرق، وسجّلوا انطباعاتهم ورؤاهم، ورسموا لوحاتٍ كثيرة تناولت المرأة الشرقية، مبرزين جانبها الحسّي على وجه الخصوص. حيثُ صوّروها ككائن غامض، يحيط به الأسطورة، وقدّموا هذه الصورة انطلاقًا من تصوّراتهم ومحاولاتهم لفهم ما اعتبروه غموضًا ووحدةً تحيط بها.
يُفهم أثر كتاب "ألف ليلة وليلة" في تشكيل المخيال الغربي من خلال تأمّل مفهوم "الجغرافيا المتخيّلة" الذي طرحه إدوارد سعيد لتفكيك علاقة الفنّ الاستشراقي بالشرق. هذا الشرق المتخيَّل –كما يشرح إدوارد– لم يكن سوى صدى لانبهار أوروبا بشرقٍ غير واقعي، شرق ألف ليلة وليلة. فالشرق الذي رآه الأوروبيون لم يكن موضوعيًا أو حقيقيًا، بل مُتخيَّلًا، محكومًا بصور نمطية ترى فيه فضاءً بدائيًّا، غريبًا، مكتظًّا بالعجائب، لا وجود له خارج صفحات تلك الحكايات.
وجَد الاستشراق الجنسي في هذا الشرق المتخيّل، المستمد من "ألف ليلة وليلة"، مادةً خصبة لبناء تصوّراته عن الغموض والغرابة، وبالأخص عن المرأة الشرقية، وقد كانت هذه التصوّرات تمهيدًا لتبرير الاستعمار، ومنحه طابع "المهمّة الحضارية"، تلك التي عبّر عنها روديارد كبلينغ بعبارته الشهيرة: "عبء الرجل الأبيض".
المرأة الشرقية في لوحات المستشرقين
لم يقتصر تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" في المخيال الاستشراقي على تصوير الشرق كجغرافيا غرائبية متخيّلة، بل امتدّ ليشمل تقديم الشرق كفضاء جنسي، يوحي للقادم إليه بتجربة حسية لا يمكن تحصيلها في أوروبا. فالحكايات الشرقية التي ضمّتها الليالي، أصبحت منبعًا خصبًا لخيال الشعراء وكتّاب الرحلات والروائيين والفنانين، وخصوصًا في تمثّلهم لعالم المرأة الشرقية.
انشغل العديد من الفنانين المستشرقين بتصوير هذا العالم الغامض، ولأنّ دخول البيوت المغلقة والوصول إلى النساء الشرقيات كان أمرًا عسيرًا على الرجل الأوروبي، فقد راحت فكرة "الحريم" تعبث بخيالهم كلما ورد ذكر الشرق.
منذ بداية القرن الثامن عشر، وبشكل خاص في القرن التاسع عشر، ركزت أغلب اللوحات التي أنجزها المستشرقون على تنميطات ذهنية راسخة في العقل الغربي، كان أبرزها صورة "الحريم"، تلك الكلمة التي تروي قصة هيمنة الأب أو الأخ أو الزوج على نساء يُعزلنَ خلف الجدران، أو تشير إلى الجناح النسائي الخاص في قصور الميسورين من تجّار وسلاطين وأغنياء.
في كتابها "هل أنتم محصّنون ضد الحريم؟"، تذكر فاطمة المرنيسي أنّ العديد من الفنانين الأوروبيين انشغلوا برسم عوالم الحريم (وخاصة محظيات العثمانيين)، وكان من أبرزهم الفرنسي هنري ماتيس. وتشير المرنيسي إلى أنّ الولع الأوروبي بصور المحظيات والحريم لم يكن نخبويًا فحسب، بل شمل مختلف الطبقات؛ فبينما كان الأثرياء يشترون اللوحات، كان الفقراء يستعيضون عنها بمخيلتهم الخصبة.
وقد صوّرت لوحات المستشرقين المرأة الشرقية في فضاء الحريم ككائن مستضعَف، ينتظر الرجل الأبيض الأوروبي ليمارس دوره المُتخيَّل: إما مُنقذًا أو متسللًا إلى عالمٍ مغلق يفترض أنه بحاجة إلى "اختراق".
خطاب "الإنقاذ".. الاستشراق الجنسي في عباءة إنسانية
في سياقٍ استشراقي طالما نظَر إلى المرأة الشرقية بوصفها كائنًا خاضعًا، محجوبًا، ومغويًا في آن، يطفو خطاب "إنقاذ المرأة" بوصفه النسخة الحداثية من التخييل الاستشراقي، حيثُ لا يُكتفى بتصوير المرأة الشرقية ضحية، بل تُجرّد من صوتها لصالح رؤية غربية تزعم التحرير، بينما تعيد إنتاج الاستعمار بثوبٍ إنساني.
هذا الخطاب لا يبتعد كثيرًا عن لوحة الحريم التي رسمها المستشرقون، لكنه اليوم ينهض بلغة أكثر ليونة، تختبئ خلف شعارات إنسانية مثل "الدفاع عن حقوق النساء" و"تحرير المرأة المسلمة من القمع"، بينما تبقيها معلّقة بين خضوعَين: خضوع لسلطة محلية، وخضوع لنظرة استعمارية تتنكّر في هيئة تعاطف.
تُفكّك الباحثة ليلى أبو لغد هذا الخطاب في مقالتها المهمة: "هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها"، إذ تُظهر توظيف صورة المرأة الأفغانية المحجبة كرمز بصري للاضطهاد، تُختزل من خلاله معاناة مجتمع بأكمله، وتُستخدم كذريعة أخلاقية لتبرير التدخل العسكري الغربي في أفغانستان.
في تحليلها، تُظهر أبو لغد أنّ البرقع –كقطعة قماش– حُمّل ما لا يحتمله من معانٍ رمزية واستشراقية. فبدل أن يُنظر إلى الحجاب في سياقه التاريخي والثقافي، بات شعارًا أيديولوجيًا لتصوير "الآخر المسلم" كمكبوت وقامع ومتخلّف. وكأنَّ الغرب لم يكن يعنيه سوى أن تُنقَذ المرأة المسلمة من ثقافتها، من جلدها، من ذاتها!
وهنا تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة، فكلاهما يرى في المرأة الشرقية جسدًا محجوبًا يجب كشفه، سواء بالريشة أو بالسلاح. وكأنّ الجسد الشرقي –الأنثوي تحديدًا– لا يُفهم إلا عبر انتهاكه البصري أو الرمزي.
لا يكتفي خطاب "الإنقاذ" هذا بتغريب المرأة الشرقية، بل يزجّ بها في معركة لا تخصّها، ويُقصي صوتها تمامًا، فبدلًا من أن يُسائل السياسات التي أنتجت معاناة هذه النساء، يركّز على "ثقافتهنّ" كعدو يجب القضاء عليه، وهنا تطرح أبو لغد سؤالها الجوهري: لماذا يبدو فهم ثقافة الآخر المقهور أهم من فهم الأنظمة السياسية التي تُنتِج قهره؟