شكّلت المخيّمات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، منذ النكبة، فضاءات معلّقة بين إرادة البقاء وسياسات المحو الإسرائيلية، بوصفها مكونًا رمزيًّا وثقافيًّا من ملامح اللجوء الناتج عن محاولة محو الوجود الفلسطيني كأساس للصراع. ومع السابع من أكتوبر، بدت هذه الفضاءات كمختبرات مفتوحة لاختبار القوة واستعراض أساليبها في الخراب والتدمير بممارسات أشد عنفًا، واستهدافات أكثر حسمًا للصراع، عبر هندسة استعمارية تُدير الخراب في فعل عسكرة الحياة اليومية في المخيمات بعملية مركّبة ما بين الفعل العسكري والهدف السياسي، فتتداخل فيها أدوات واستراتيجيات العنف كفعل ماديٍّ ومعنويّ. في هذا السياق، يسعى المقال إلى طرح الدوافع الاستعمارية من ذلك، انطلاقًا من محاولة فهم التوظيف السياسي الاستعماري للعسكرة وإدارته دمارها.
إنتاج الفضاء وإخضاع المعنى
يُمثّل المخيم الفلسطيني بنية اجتماعية هجينة ومعقّدة؛ بوصفه فضاءً انتفاضيًا يحمل دلالات سياسية واجتماعية، وينتج معاني وطنية وثورية، فيجسد المقاومة كممارسة هوياتية مُعاشة، بمقابل تعرضه المستمر لسياسات الاحتلال الساعية إلى إعادة صياغته استعماريًّا بما يتوافق مع أهدافه السياسية والأيديولوجيه عبر إخضاعه بالعنف والعسكرة والهندسة الأمنية. فليس المخيّم مجرد فضاء مادي لإيواء اللاجئين، بل مساحة مكانية دلالية تُجسّد رمزيات تعكس التشابك العميق بين الجغرافيا والسياسة والذاكرة، وتُعيد إنتاج سؤال النكبة والانتماء والهوية. يقابلها سياسات استعمارية تعيد صياغة ذلك في ممارسات تكرّر إنتاج حالة اللجوء كواقع يومي متجدد عبر إنتاج الهشاشة البنيوية. وهو ما يمكن مقاربته مع منظور هنري لوفيفر حول "إنتاج الفضاء"، بوصفها عملية تعيد السلطة من خلالها تشكيل المكان بما يتناسب مع رؤيتها ومصالحها "كحيّز خاضع" للسيطرة، وجيوب هشّة محكومة بالرقابة والعنف وقابلة للضبط والتحكم؛ بهدف إفقاده معناه وإعادة تشكيله قسريًا. حيث لا يُنظر إلى المكان كحيّز جغرافي طبيعي أو محايد بل كنتاجٍ لعلاقات قوة، فلا يكتفي الاحتلال بانتهاكه وإنما يسعى من خلال السلطة إلى إعادة تشكيل واقعه الاجتماعي وتصميمه ماديًا ونفسيًا بما يقوّض القدرة على التنظيم والمقاومة، ويحيل إلى إفراغه من مضمونه السياسي والاجتماعي ومعانيه الرمزية والثقافية، من خلال عمليات العسكرة وإعادة التشكيل الهندسي والديموغرافي التي تشمل؛ الرقابة والحصار والاعتقالات والاغتيالات والاقتحامات الليلية، وتجريف البنية التحتية وتقييد الحركة وهدم البيوت؛ إذ تعمل الممارسات المكانية الإسرائيلية على إعادة تشكيل الفضاء الفلسطيني ليصبح مشهدًا مجزءًا، قابلًا للضبط، ثمّ للحكم والسيطرة.
بالتالي، فإن المخيم من منظور سوسيولوجي هو موقع للصراع على المعنى بين ما يسعى الاحتلال إلى فرضه، وما يُقاومه الناس على الأرض، وهو منظور لا يمكن فصله عن سوسيولوجيا الهيمنة؛ لذلك فإن قراءة سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه مخيّمات الضفّة الغربيّة، تحتاج إلى منظور يتجاوز القراءة الأمنية التقليدية لصالح فهم أكثر تركيبًا لطبيعة الفضاء كمنتَج سياسي يتناسب مع الرؤية الاستعمارية ويخدم أهداف السيطرة والتفريغ السكاني والرمزي. ذلك يعني أنه لا يمكن فصل البُعد المادي في الممارسة العسكرية المجردة عن البعد الرمزي الذي تمثل فيه العسكرة تعبيرًا عن هندسة استعمارية مقصودة للفضاء، فهدم البيوت مثلًا ليس مجرد تدمير لفضاء معاش (مأوى)، بل هو عملية إحلال لفضاء القمع والمراقبة مكانه من خلال توظيف الهدم كوسيلة لهدف أبعد يتمثل في محو السردية، وقطع استمرارية الذاكرة، ونفي للهوية وتحقيقًا للترانسفير.
المخيّمات كمختبرات للعنف ومسارح للحرب
شكّلت المخيمات الفلسطينية، منذ بدايات المشروع الإحلال لإسرائيل، فضاءات مشحونة ليس فقط بالتاريخ والرمز، بل بالاحتمالات السياسية والوجودية. ومع تصاعد "الخطاب الأمني" الإسرائيلي وتحوّله إلى بنية حكم يومية، تمّ تعريف هذه المخيمات بوصفها ساحات تهديد ومناطق خارجة عن "الجغرافيا الآمنة"، فتم إعادة تأطيرها العام ضمن خطاب أمني محض، لتشكل عصب من أعصاب الدولة الاستعمارية، التي تحكم من خلالها قبضتها الرمزية على الشعب إلى جانب إحكامها المادي، فتوجب احتواؤها وهندستها من جديد وفق منطق السلطة الاستعمارية.
وفي هذا السياق لا تنظر إسرائيل إلى المخيم باعتباره مجرد "مشكلة أمنية"، بل كـ"بنية اجتماعية غير منضبطة" بتعريفها، ويجب إخضاعها ثم تحويلها إلى نموذج قابل للتعميم في الفضاءات الفلسطينية الأخرى، خاصة وأن المخيم يمثل بما يحمله من رمزيات سياسية واجتماعية، موقعًا مثاليًا للاحتلال في ممارسة كافة أساليب هندسة القمع والدمار المُمَنهج، وآليات الضبط والترهيب، لاختبار دورها كأدوات عقاب جماعي في تطويع بيئته وإنتاج الخوف والخضوع، إذ تصبح المخيمات مختبرات ميدانية حيّة تُدار عبر منطق عسكري شمولي، تُجرَّب فيها وسائل السيطرة المادية والرمزية، فتُختبر فيها أدوات الضبط وأنظمة العنف وتقنيات السيطرة على الجماعات، وتُقاس فيها استجابات المجتمعات المدنية والمحلية والدولية للصدمة، وتُدرَّب فيها وحدات الاحتلال على القتال داخل بيئة مدنية كثيفة، أي أن اهداف الاحتلال تتجاوز رواية تفكيك مجموعات المقاومة إلى أهداف أوسع. وهذه المختبرات ليست هامشًا للحرب، بل قلب سياستها التي تتيح بالاختبار نقل أدوات السيطرة إلى فضاءات أوسع، أو تكثيفها في ذات الفضاء تحقيقًا لحسم الصراع فيها لا إدارته. إذ تمثّل المخيمات اليوم "جغرافيا طوارئ دائمة"، تُدار عبر منطق استثنائي (أغامبين: حالة الاستثناء) يسمح للدولة باستخدام أقصى درجات القوة دون مساءلة قانونية أو سياسية، وتدار فضاءاتها كمنطقة خارجة عن الزمن المدني، يُنتج فيه العنف كمنظومة حكم دون أن يأتي كرد فعل، بل يُنظَّم ضمن سيرورة مستمرة من الحصار، الهدم، الاقتحامات، وغيرها من ممارسات الإذلال اليومي.
من هنا، يمكن فهم التسارع الخطير في طبيعة الاستهدافات الإسرائيلية لمخيمات الضفة الغربية؛ كجنين، ونور شمس، وبلاطة.. ليس من حيث الكثافة العسكرية، بل من حيث التوظيف البنيوي للمخيمات كحيّز لتجريب السيطرة على المستويين المادي والنفسي، ومواقع مفتوحة لاختبار تكنولوجيات العنف المستدام، وتكتيكات الحرب الحضرية بتجريدها من وصفها أماكن مدنية مأهولة والتعامل معهاكمناطق عمليات عسكرية مغلقة، من خلال القصف بالطائرات المسيّرة والاقتحام بالدبابات. فمثلًا؛ ما بين دورها كأداة للقمع ورمز للهيمنة، تفرض الدبابة واقعًا يجعلها أداة متعددة الوظائف في استراتيجيات الاحتلال؛ فليست عسكرة الفضاء الفلسطيني مجرد تكتيك عسكري، بل هي استراتيجية استعمارية تهدف إلى ترسيخ واقع الاحتلال، حيث تتحول الدبابة إلى رمز لسياسة القمع المستمر، فالعقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي لا تقتصر على الاستخدام التكتيكي للدبابات التي لا تمثل قوة ميكانيكية فقط وتأثيرها لم يعد مقتصرًا على ساحات القتال، بل تمتد إلى استراتيجيات قمعية تهدف إلى إدارة السكان الفلسطينيين ضمن منظومة استعمارية أوسع، وتطويع البيئة لصالح استمرار هيمنتها وتعزيز الفصل المكاني والهيمنة على المجال العام لتضعف قدرة الفلسطينيين على تشكيل مختلف أنماط المقاومة المنظمة، عبر تحويل الدبابات التي باتت جزءًا من المشهد اليومي للمجتمع الفلسطيني، إلى أداة سيطرة دائمة لا يقتصر دورها على المواجهة العسكرية، بل تمتد إلى ضبط تحركات السكان الفلسطينيين وترويعهم وإخضاعهم لنظام الاحتلال، وتنفيذ سياسات القمع الجماعي وإنتاج الخوف والخضوع وتعزيز مناخ العنف، فتصبح عمليات الاحتلال في المخيمات تعبيرًا عن سياسة منظمة لتضييق المجال الحيوي وتحويل الحياة اليومية إلى مجال للاختناق والاستنزاف الجماعي الممنهج.
من هذا المنظور، فإن ممارسات الاحتلال في مخيمات الضفة تتجاوز رواية استهداف المقاومين إلى تجربة مقاومة الناس للمعيش بالخراب الذي حول البيت لمختبر حرب، وحي المخيم لمسرح ميداني مفتوح للتدريب العسكري، لاختبار مدى صمود السكان في مواجهة الحصار المزدوج؛ العسكري والنفسي.
التوظيف السياسي الاستعماري للعسكرة
في سياق الاستعمار الاستيطاني، لا تُمارَس العسكرة بوصفها فعلًا أمنيًا أو عسكريًا تقنيًا فقط، بل بوصفها إستراتيجية سياسية متكاملة تهدف إلى إعادة تشكيل البُنى المجتمعية، والفضاءات الحياتية، والعلاقات الاجتماعية للمجتمع المستعمَر. وكذلك لا يمكن قراءة عسكرة مخيّمات الضفة الغربية كحالة أمنية معزولة بل كجزء من مشروع أوسع، فالمداهمات الليلية، الاغتيالات، الهدم، وغيرها، ليست سوى أدوات ضمن إستراتيجية يتم من خلالها تحويل المخيم إلى فضاء هشّ وقابل للإخضاع والتفريغ من بُعده التاريخي ومعناه الجمعي ورمزيته السياسية والاجتماعية، إضافةً إلى إعادة تدوير التهجير تحت عناوين إدارية وأمنية مضلِّلة، وإنتاج الهشاشة بوصفها أداة حكم انطلاقًا من الآثار الاجتماعية لسياسات العسكرة المستمرة واستهداف المخيمات على الواقع الاجتماعي ما بين المخيم والمدن، بتفكيك المظاهر الاجتماعية وتأثيرات ذلك على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية والوعي الجمعي والعلاقات الجماعية؛ كتطبيع العنف وزيادة التشظية وتقسيم المجتمع جغرافيًا واجتماعيًا.
محو الحمولة السوسيوثقافيّة لمفهوم المخيّم
حمل المخيّم الفلسطيني منذ نشأته معاني تجاوزت اختزاله كمأوى بما يحفظ الهوية الوطنية، ويعكس سرديات اللاجئين، الذاكرة الجمعية عن الحدث النكبوي واستمرارية حق العودة، إلا أن الاحتلال لطالما سعى عبر توظيف العسكرة والعنف اليومي إلى نزع هذه الحمولة السوسيوثقافية بطمس معانيها وإعادة كتابتها سلطويًّا لتحويل المخيم إلى مجرد وحدة جغرافية مجردّة. وفي استهداف المخيمات ما بعد السابع من أكتوبر تعبيرًا عن ذروة هذه السياسة، فلا تمثّل عسكرتها الحالية تكثيفًا للعنف المادي فقط، وإنما إعادة تعريف لمعنى وهوية المخيّمات في المخيال العام كـ"بؤر عنف" و"جيوب إرهاب"، وطمسٍ لوصفه نتاجًا بنيويًّا لمأساة جماعية لسياسات الإقصاء والاقتلاع الاستعماري. وعليه يعتمد هذا المحو على أدوات تجمع ما بين العنف المادي وتوظيف الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي والدولي لتأطير المخيم كحيز للفوضى والتهديد تعزيزًا لشرعنة الإجراءات العسكرية ضدّه. ذلك ما يمكن تسميته بالإبادة المعنوية التي تهدف إلى قتل المكان بإنتاجه بصورة تمحو سياقه التاريخي كنتاج للنكبة والاستعمار، وتُفكّك دلالاته كرمز سياسي من فضاءٍ للنضال السياسي وانتظارِ العودةَ المُتخيلة إلى هدفٍ أمنيّ محض.
إنتاج الهشاشة الاجتماعية
يشكل فعل العسكرة الذي حوّل المخيمات إلى موقع حرب مفتوحة منذ السابع من أكتوبر، ذروة استراتيجية الاحتلال في إنتاج الهشاشة الاجتماعية داخل المخيمات، ليس كفعل عرضي أو كأثر للعنف، بل كهدف سياسي مباشر ومتعمّد لكسر "الذات الجمعية" التي راكمها المخيم، بجعلها مجتمعات مُستنزفة ومفتّتة داخليًا، بسياسات "إدارة الدمار" كشيء يتجاوز الفعل الفيزيائي ليشمل النفسي والاجتماعي.فلا تمارس العسكرة بوصفها فقط أداة للضبط الأمني وتطويع المساحة الجغرافية، بل أصبحت بنية يومية لإنتاج التفكك الاجتماعي داخل المخيمات الفلسطينية كبنية معنوية ونموذج لتفاعلات اجتماعية وعلاقات تضامنية نتجت في ظل غياب الدولة. أي أن غاية العسكرة هنا، هي إعادة تشكيل البنية المجتمعية للمخيم من الداخل لإنتاج الهشاشة الاجتماعية، بفعل تقويض الأمن الجماعي وتفتيت النسيج المجتمعي، نفيًا لأي إدارة جمعية ممكنة للتنظيم الذاتي الذي ميّز البنية الحيوية المخيم، بمقابل دفعها في دوامة المحاولة اليومية للنجاة، من خلال سياسات مركبة ما بين؛ الحصار والإغلاق، الاجتياحات المكثّفة والاقتحامات الليلية المستمرة، الاعتقالات الجماعية، استخدام المسيّرات، استهداف البنية التحتية ومرافقها المدنيّة والحياتية (المياه، الكهرباء، الشوارع) التي تشكّل قلب الحياة الاجتماعية؛ لاختزال الفضاء المعيش في كونه ساحة حرب، لا حيّز حياة.
وتجدر الإشارة إلى إن إنتاج الهشاشة داخل المخيمات، في العمليات العسكرية المتزامنة مع حرب الإبادة في غزة، ليس سوى استكمال لمشروع استعماري طويل، ولكن بوسائل أكثر قدرة على الحسم السريع وإدارة الهشاشة نفسها كأداة للسلطة، فالأخطر اليوم هو تغليف هذه الممارسات بخطابات أمنية وإدارية تُشرعن العنف تحت مسمى "عمليات استباقية" و"تفكيك البنى التحتية للإرهاب" في "البؤر الخارجة عن السيطرة"؛ ما يُنتج بيئة من التواطؤ الدولي والصمت المؤسسي الذي يفاقم من هشاشة المخيمات.
إعادة إنتاج اللجوء.. التهجير القسري البطيء
يثبت تكثيف فعل عسكرة المخيمات، الاستراتيجية المستمرة للاحتلال لإدارتها كمواقع لإعادة إنتاج اللجوء والاقتلاع بشكل بطيء ومنهجي من خلال إدارة الدمار. حيث تسهم العسكرة في إنتاج حالة النزوح الداخلي القسري، ثم رسم خارطة إعادة انتشار فلسطيني داخلي، في محاكاة مستحدثة للنكبة ولكن على نحو مجزّأ وزاحف؛ فلا تقع مرة واحدة، بل بصورة تدريجية ناعمة، من خلال استدامة الاحتلال لفعل المعاناة حتى يُصبح اللجوء المتجدّد خيارًا مفروضًا، نتيجة تدمير البنى التحتية، منع إعادة الإعمار، هدم المنازل، استهداف البيئات التربوية والصحية، إضعاف الاقتصاد المحلي وغيره. أي أنه إلى جانب حالة الإخلاء والطرد القسري من قبل الاحتلال، تسهم تلك الممارسات في إعادة تشكيل علاقة السكان (اللاجئين) بالمخيم وهويته لهم، من وصفه موطن مؤقت إلى خطر محقق على حيواتهم. وفي هذه الديناميكية، لا يُختزل التهجير في الانتقال الجغرافي، بل يمتد إلى شكل أخطر متمثل في التهجير الرمزيعن دلالاته بفعل تفكيك السردية وتفريغ المكان من رمزيته، فلا تستهدف العسكرة المخيم بوصفه خطرًا آنيًا، بل كـ تجسيد لمخيال وطني وجغرافي يجب محوه، وهو ما يجعل من إعادة إنتاج اللجوء جزءًا من حرب إسرائيلية على الذاكرة بوسائل مادية.
أضف إليه، أنّ التهجير الواقع اليوم على مخيّمات جنين وطولكرم مثلًا، لا يُفهم في سياق الإخلاء والطرد فقط، بل هو فعل يُنتج طبقات جديدة من "اللجوء داخل اللجوء"، حيث أن الأُسر التي تنزح من مخيّم بلاطة إلى أطراف نابلس أو من مخيم جنين إلى قراها المحيطة مثلًا، تُعيد صياغة وجودها "كمؤقت" مضاعف بعد أن يصبح اللجوء تجربة تتكاثر في الزمن والمكان. وهنا يمكن استدعاء مفهوم "النكبة المستمرة" الذي يشير إلى أن ما يجري ليس تذكيرًا بالنكبة، بل امتدادًا بنيويًا لها عبر أدوات جديدة. والمخيم لم يعد فقط رمزًا للنكبة الماضية، بل أصبح مسرحًا لـ"نكبات جزئية" متكررة ومستمرة، تعيد إنتاج حالة الهشاشة والتهميش واللاوطن كأفق دائم.
وعليه، تكشف المحاور السابقة أننا لسنا أمام سلسلة من الانتهاكات المعزولة، بل أمام بنية استعمارية محكمة، تُدير المكان والإنسان ضمن مشروع إحلالي تتسرب فيه السيطرة الإسرائيلية إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية في المخيم، محولة إياه، خاصة بعد السابع من أكتوبر، إلى جبهة مفتوحة للنكبة المعمارية والاستعمار الاجتماعي والنفسي، بشكلٍ أكثر وضوحًا لوصف العسكرة بأداة هندسة الفضاء التي لا يمكن اختزالها بتصوير الاحتلال لها على أنها استجابة لحدث أمني، فلا يمكن قراءة الاستهداف الإسرائيلي للمخيمات من خارج السياق الأوسع المتمثل في مشروع تفكيك البنية الوطنية والوجودية الفلسطينية من داخلها، عبر العبث بالخريطة المكانية والخريطة الرمزية للمخيمات في آنٍ معًا، وإدارتها ضمن العقلية الاستعمارية وما تفرضه إملاءات آلة الهدم والتدمير الإسرائيلية، لإعادة رسمه من معمار اللجوء إلى معمار التهديد.