في الذكرى الثامنة لرحيل الوراق التونسي "الحاج" الحبيب اللمسي (1930-2017) فكّرت ميغازين في إعداد ملف حول هذا الرجل وسيرته، مناضلًا بالسلاح ومكافحًا بالعلم ونشر الثقافة والوعي.
أولى الملاحظات التي قمنا بتدوينها لدى مباشرتنا العمل، من دار الكتب الوطنية بتونس العاصمة، هي تماهي ردّات الفعل في الوجوه وعلى الألسن، ما إن ننطق اسم الحبيب اللمسي. فقد استقبل مدير المؤسسة طلبنا تصويرَ المكتبة دون أسئلة كثيرة، وقادنا الموظفون والعَمَلة إلى الطابق الذي يحتوي على مكتبة الحاج اللمسي، التي تبرّع بها قبل وفاته. ومع كلّ شخص جديد نلتقيه، كانت تشرق نفس الابتسامة على محيّاه ما إن يسمع بغرضنا من الزيارة: "هي المكتبة الأكبر التي يتم التبرّع بها للمكتبة الوطنية على الإطلاق، نعمل على فرزها وأرشفتها منذ ثمان سنوات، ولم ننجز إلى الآن سوى قسط قليل". تقول السيدة سميّة اليحياوي المسؤولة بدار الكتب الوطنية.
تحتوي مكتبة الحبيب اللمسي على حوالي مائة ألف نسخة من كتب ودوريات نادرة، عمل على جمعها من كل المعارض والبلدان التي زارها. وكان حين يزوره صديق في بيته، يحرص على إطلاعه على مجلّدات أو مجلات ينقصه منها أعداد، ويوصيه بأن يبلغه في حال وجدها تباع في أي مكان. وإلى جانب كونه جامع كتب، كان اللّمسي كذلك جامع مكتبات، إذ حرص على اقتناء مكتبة المؤرخ التونسي الكبير حسن حسني عبد الوهاب ما إن عرضها ورثته للبيع.
من هو الحبيب اللمسي؟
ولد سنة 1930 بجزيرة جربة بالجنوب التونسي، حيث زاول دراسته الأساسية، قبل أن ينتقل إلى العاصمة لدراسة العلوم الشرعية في جامع الزيتونة، وببلوغه الثامنة عشرة من العمر سافر إلى فلسطين ليشارك في النضال المسلّح هناك، قبل أن يُعتقل ويرحّل إلى ليبيا، ثم إلى تونس ويسجن في مدينة صفاقس.
تمكّن لاحقًا من الفرار من السجن والعودة إلى صفوف المقاومين في فلسطين، إلا أن الهدنة دفعته إلى الاستقرار في مصر، وهناك أغرم بالكتب وتَملّكه همّ المعرفة، قبل أن يعود بعد الهدنة بخمسة أشهر إلى تونس، ويبدأ العمل في مجال المكتبات والنشر.

عمل بعدد من المكتبات الخاصة من بينها "مكتبة خوجة" بباب الجديد، ثم التحق بالوظيفة العمومية بالشركة التونسية للنشر والتوزيع، ثم بالشركة التونسية للتوزيع بعد أن تم الفصل بين النشاطيْن.
في عام 1979 اتخذ اللمسي قرار ترك وظيفته والسفر إلى بيروت، حيث سيؤسس دار الغرب الإسلامي، ويبدأ إصدار الكتب في السنة الموالية.
الغرب الإسلامي: مغامرة حياتية ومعرفية
مثّل تأسيس دار الغرب الإسلامي مغامرةً وحلمًا لم يؤمن به أحد سوى صاحبه، حيث كان لبنان يرزح تحت حرب أهلية طاحنة جعلت أهل المهنة هناك يتركونها أو ينقلون مؤسساتهم إلى بلدان أخرى، وهو ما أصاب زملاء الحاج اللمسي في الشركة التونسية للتوزيع بالدهشة والخوف على الرجل، كما عبّر عن ذلك الناشر ومؤرخ الكتاب التونسي الراحل الشاذلي بن زويتين، وحين سئل اللمسي فيما بعد في حوار نادر له عن قراره ذاك كانت إجابته: "إذا كان لدى الإنسان شيء عزيز عليه فهو يخاطر من أجله، سواء أكان هذا الشيء ماديًّا أم روحيًّا أم غير ذلك، فإنّه إذا كان فعلًا مقتنعًا بشيء، ويحبه، فهو يخاطر من أجله، ويتحمّل في سبيله المشاق، وأنا جئت إلى لبنان وقت حرب، فكان كلّ الناس يشتغلون، والحياة تسير".
بقليل من التأمّل في الجملتين الأخيرتين، ندرك أننا إزاء رجل من طينة مختلفة، لا يذكر مِن تلك الحقبة من تاريخ البلاد، التي عُرفت بالمرحلة الثانية للحرب الأهليّة، وإحدى أكثر مراحلها دموية، سوى أنّ الحياة كانت قائمة هي الأخرى ومتاحة، ولو بصعوبة، أمام أكداس الموت والركام، وأن الشجاعة التي تملّكته مقاتلًا شابًّا يدافع عن الأرض والشرف، ظلّت شعلتها حيّةً داخلَه، لتحمله كهلًا للدفاع عن الثقافة والحياة في مواجهة عبث الحرب.
سنة 1980 بدأت الدار إصداراتها بأربعة كتب، وهي "قطعة من موطّأ ابن زياد" بتحقيق محمد الشاذلي النيفر، وكتاب "مشيخة ابن الجوزي" بتحقيق محمد محفوظ، و "ترجمة معاني القرآن" للدكتور صلاح الدين كشريد، وكتاب "الأربعين حديثًا" لصدر الدين البكري النيسابوري، بتحقيق محمد محفوظ، لتنطلق المسيرة بعد ذلك إلى آخر نفس من عمر مؤسسها، فيتجاوز عدد إصداراتها الخمسمائة مؤلف، يتراوح معظمها بين ثلاثة مجلدات وثلاثين مجلدًا.
غطّت إصدارات دار الغرب الإسلامي طيفًا واسعًا من اختصاصات العلوم الشرعية والفقهية وكتب التراث، فصدر عنها في التفسير "مِلاك التأويل" لابن الزبير الغرناطي ، وفي السنّة وعلوم الحديث "موطأ مالك برواية علي ابن زياد" ، وفي الفقه المالكي "المعيار المعرب والجامع المغرب" للونشريسي و"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني، وفي أصول الفقه "إيضاح المحصول من برهان الأصول" للمازري، وفي الفهارس أصدرت "فهرست ابن عطية الأندلسي" و "فهرس الفهارس" لعبد الحي الكتّاني، وفي التراجم والتواريخ الأندلسية "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" و"تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، فضلًا عن كتب الطب القديم والرحلات وتاريخ بلاد المغرب القديم والحديث.
كان مشروع الحاج الحبيب اللمسي يهدف إلى العناية بتراث الغرب الإسلامي، والمقصود به بلاد المغرب والأندلس، وإخراج مكنون التراث العلمي لهذا الجانب من العالم الإسلامي من النسيان. مشروع جنّد فيه اللمسي خيرة المحقّقين والمختصّين في كل علم متقاطع مع التاريخ والفقه والأدب القديم، معظمهم من الجزائر وتونس والمغرب الأقصى، فيقول مفصّلًا معاييره في اختيار ما ينشره: "أن يكون الموضوع نافعًا، بعيدًا من الهزل والاستسهال، والجري وراء المادة، وأن يكون جديدًا لم يسبق نشره، أو أن يكون هناك اعتراف من أهل الاختصاص والخبرة بأن الطبعات السابقة لا تفي بالحاجة، بها نقص، وتحتاج إلى جهد، ولا أقبل بغير ذلك. ولا بد من استخدام مصادر جديدة لم تعرف ولم تستخدم في الطبعات السابقة، وأهم من ذلك أن يكون الذي يقوّم العمل من أهل اختصاص بذلك الفن".
أخذ الحبيب اللمسي على عاتقه تحقيق أكبر عدد من كتب التراث، التي يرى أن على الناشرين إعطاءها الأولوية، بدل ما يسمّيه "كتب نشر الأمّية": "هناك ملايين من الكتب في حاجة إلى تحقيق، لذا يجب أن يهتم الناشرون اليوم بالمخطوطات، فالمجهول منها كثير، حتى لو عملوا ليل نهار فلن يستطيعوا أن يغطّوا هذا الكم الكبير من المخطوطات، ففي تركيا وحدها يوجد ما لا يقل عن مليون كتاب لم يحقق بعد... لكن ناشري الأمّة يتسابقون إلى الطبعات التجارية لكتب مطبوعة أصلًا".
علاقة حميمة مع الكتاب والإنسان
يقول الحبيب اللمسي إنه وقع في حب الكتاب في شبابه، وكان في مصر حين أكثر من الأسئلة عن الكتب في إحدى المكتبات، ليردّ عليه المكتبي الضجر: هل ستشتري أم لا؟
وحين أجاب بأن لا مال لديه، قال له الرجل: لِم لا تزاول هذه المهنة؟
منذ تلك اللحظة جاء قراره بالعمل في مجال الكتاب ما إن يرجع إلى تونس، ليُسخّر له كل جهده وماله إلى آخر حياته.
"لا عشقت امرأة ولا عشقتني امرأة".
هكذا ينهي إجابته سريعًا حول سبب عدم زواجه، معلّلًا ذلك بتفرّغه للنشر والكتاب والمعارض، قبل أن يعود للحديث عن شغفه الأبدي، مشبّهًا ذلك بالإدمان على الحشيش: "عندما أدخل مكتبتي أبكي أحيانًا من دون أن أشعر، لأنني أجد نفسي عاجزًا أمام هذه الكتب، فأنا أضع إلى جواري عشرين كتاباً لأقرأها، وأحار بعد ذلك ماذا أقرأ وماذا أدع. صحيح القول: إن كثرة الكتب مضيعة للعلم".

لم يكن انطوائيًّا وكارهًا للتواصل كما قد يتبادر للأذهان حول رجل منهمك في فلْي المخطوطات وتدقيق التراجم، فأغلب من عايشوه وتحدثوا عنه يؤكدون أنه شخص ودود، يحب زيارة الأصحاب والزملاء، فيقول عنه حسن ياغي صاحب دار المركز الثقافي العربي أنه كان المبادر بزيارات له ولدار نشره في بيروت، مُثنيًا على جودة إصداراتها، بالرغم من أنّها عرفت بالمشاريع الفكرية التي تشتغل على نقد الفكر الديني. وفي نفس السياق، قد يكون من أكبر المفاجآت في دائرة اللّمسي الاجتماعية، الصداقة التي ربطته بعبد الله القصيمي، وأنهما كانا في بداية خمسينات القرن الماضي رفيقين يوميًّا في المجالس الفكرية والمقاهي في بيروت، رغم التّباين الحاد بينهما في العقيدة، إذ يروي لنا أن أكثر ما كان يقوله القصيمي عنه ليناكفه: "أنت عندك تخمة دينيّة، ولا بدّ من هزّك وخضّك" ليجيبه الحاج كعادته: "أنا عندي نقص ديني. لو عندي تخمة دينيّة لكنت رأيتني في عالم آخر."
كما زار طه حسين في مصر، والتقى سيد قطب عدة مرات وتراسل معه، وقد حافظ على طبعه المتسامح والمتفهّم لمختلف الأفكار التي قد يغالي أصحابها في الدفاع عنها، لكنه في نفس الوقت كان يتّخذ مواقف وآراءً واضحة من قضايا معينة، من ذلك رأيه في الفترة البورقيبية في تونس، ومعارضته للعلمنة المسقطة والاقتداء المفرط بالغرب، الذي كان الزعيم التونسي يكرّسه، رافضًا كلّ الأصوات التي تقدّم بدائل من أي نوع. وكان يسمّي دولة التسلّط والرّيع بالاستعمار الوطني فيقول إن " الاستعمار الأجنبي عندك حصانة داخلية في مواجهته، فهو دخيل عليك، وجاء لينهبك ويستعمرك. أما الاستعمار الوطني، فتسكن أنت وإياه في بيت واحد، وتأكلان على مائدة واحدة، ومن هنا تصبح قساوته كبيرة سببت تأخّر الحضارة عندنا".
نحن إزاء رجل استثنائيّ بالمعنى الحقيقي للكلمة، جمع صفات الشجاعة والإيثار على النفس والزهد في متاع الدنيا، وخاصة محبّة الحكمة وإجلال مكانة العلم والعلماء، واستطاع وحده أن يحقق في مجال جمع كتب التراث وتحقيقها وحفظها من الاندثار، ما تعجز عنه حكومات بسياساتها وميزانياتها. سمّاه قرّاؤه وزملاؤه بشيخ الناشرين العرب، وسمّاه المؤرخ عبد الواحد براهم "نبتة ورقية"، أمّا العامل الذي عاد ليوصلني إلى باب الخروج من دار الكتب الوطنية، فظل يسألني باهتمام عن رأيي في مكتبة "الحاج"، وهو اهتمام من النادر أن تجده في أي إدارة تونسية مهما كانت الخدمة التي تقدّمها.
هذا هو الأثر الطيب الذي سعى وراءه الحاج الحبيب اللمسي وناله، من خلال حياة هي بمثابة درس لأهل المهنة حول معنى أن تكون ناشرًا ذا همّ ورسالة، وللناس أجمعين حول كيفية الحياة والفناء في سبيل ما نحب.