أدب سنوات الرصاص

كيف أعادت سنوات الجمر والرصاص تشكيل الأدب المغربي؟

9 يونيو 2025

"وها هو الكهرباء يحل في بدني قبل وصوله إلى البوادي، رغم أنني لم أطلب ذلك من أحد. فكيف تشتكي الحكومة من قلة ذات اليد، وهي توزع الكهرباء بهذا السخاء وبدون مُقابل؟". عبارة ساخرة، لكنها تخفي وراءها سنوات من السجن والتعذيب قضاها الشاعر والمعتقل السياسي السابق، صلاح الوديع، خلال ما يعرف في المغرب بسنوات الجمر والرصاص.

هذه العبارة التي يصوّر فيها الوديع بشكل تهكمي وساخر تعرُّض بطل روايته للتعذيب بالصعق الكهربائي، لأن الدولة بادَرت إلى "تزويد" جسده بالكهرباء قبل أن توفرها للمناطق المهمشة، وردت ضمن رواية "العريس" الصادرة في طبعتها الأولى سنة 1998، وهي واحدة من الروايات التي جعلت من الفترة التي تُعرف في المغرب بـ"سنوات الرصاص"، موضوعًا لها، إذ تناولت تجربة الاعتقال السياسي في البلد.

و"سنوات الرصاص" أو "سنوات الجمر والرصاص" مصطلح يُشار به إلى الفترة الممتدة بين ستينيات ومنتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي شهدت انتهاكات من طرف النظام المغربي الذي مارس وقتها ضد معارضيه أبشع الممارسات من اختفاء قسري وتعذيب واعتقالات دون محاكمة، وذلك نتيجة لمحاولتَي انقلاب فاشلتين، أدى المجتمع المدني ثمنهما غاليًا في الأرواح والتنمية، ما خلّف تأثيرات على البنية الداخلية للمجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا، ومن ثمة أدبيًّا.

في هذا السياق برزت كتابات روائية انطلقت من هذه الحقبة وحاولت تصويرها ومساءلتها، حتى صارت موضوعا لجل روايات تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة وذلك فيما يمكن تسميته بــ "أدب سنوات الرصاص".

وقد كتب بعض الكُتاب نصوصهم وشهاداتهم بأنفسهم كما فعل عبد القادر الشاوي مثلا، فيما تعاون آخرون، خاصة الذين كانوا ضحايا تلك الفترة، مع كُتّاب معروفين أو صحافيين محترفين كما هو الحال في تجربة مليكة أوفقير التي تعاونت مع الروائية الفرنسية ميشيل فيتوسي لكتابة روايتها "السجينة". 

لكن السؤال الذي ظل يتردد طيلة هذه السنوات هو هل استطاع الأدب المغربي أن يبلور خطابًا نقديًّا مستقلًا عن الدولة و"المصالحة الرسمية"، أم أنه جرى احتواؤه ضمن إطار معين يفرض الرقابة والخطوط الحمراء؟ 

أدب ما قبل سنوات الرصاص

تميّز المشهد الأدبي المغربي خلال النصف الأول من القرن العشرين بنشاط ملحوظ على مستويين: أولهما، تمثَّل في انفتاح المثقفين والأدباء المغاربة على الأدب العربي في المشرق، وعلى التيارات الأدبية والفكرية في أوروبا خاصة بعد أن صارت مدينة طنجة منطقةً دولية وقطبًا أدبيًّا استقطب العديد من الكُتاب من الغرب مثل بول بولز وتينيسي وليامز وجاك كيروك وآخرون، وهو ما منح الإنتاج الأدبي المغربي طابعا حداثيًّا متنوعًا ومتفاعلًا مع السياقات الثقافية العالمية. أما الثاني فكان مشوبًا بالصعوبات التي فرضتها الرقابة الاستعمارية الفرنسية، والتي حدّت من حرية الصحافة والنشر، وكانت عائقًا أمام التعبير الأدبي الحر. في ظل هذا السياق، اتجه الأدب المغربي نحو بناء خطاب ثقافي مقاوم للاستعمار يسعى إلى ترسيخ الهوية الوطنية. 

يؤكد الكاتب بنعيسى يوسفي هذه الملاحظة في مقاله "الأدب المغربي.. من الطغيان السياسي والإيديولوجي إلى العودة إلى الذات والاستقلالية" بقوله: "الأدب في هذه المرحلة هو في خدمة القضية الوطنية أولًا وأخيرًا"، حيث كان يُستخدم كأداة للتعبير عن القضايا الوطنية ومناهضة الاستعمار، فلم يكن يُسمح للكُتاب بالتعبير عن مشاعرهم الذاتية، بل كان يُنظر إلى ذلك كتنصل من الواجب الوطني.

وقد ظل التأريخ لبدايات الرواية المغربية محل خلاف بين النقاد، خاصة بسبب تداخل بعض الأجناس مثل أدب الرحلة والسيرة الذاتية مع الشكل الروائي، كما في "الرحلة المراكشية" لابن المؤقت (1924) مثلا، و"الزاوية" للتهامي الوزاني (1942)، و"في الطفولة" لعبد المجيد بنجلون (1942)... لكن بعضهم يعتبر رواية "جيل الظمأ" لمحمد عزيز الحبابي (1967) أول عمل روائي متكامل وفق المعايير الكلاسيكية للرواية العربية الحديثة.

ومما يميز هذه المرحلة هو اعتماد الكُتاب على خطِّية السرد والتسلسل الزمني، بالإضافة إلى الحضور الذاتي للمؤلفين من خلال التعليق المباشر على الأحداث.

وقد استمر هذا التوجه بعد الاستقلال سنة 1956، حيث ظل الأدب محكوما بالهموم الاجتماعية والسياسية، خاصة في ظل الوضع الحقوقي والاحتقان السياسي الذي عرفه المغرب حينذاك، وفي ظل خيبة الأمل والإحباط والخذلان الذي شعر به كثير من المغاربة بسبب عدم تحقيق التغيير المنشود.

أدب الاعتقال السياسي: بين التوثيق والإبداع

مع تصاعد القمع السياسي في فترة "سنوات الرصاص"، ظهر في المغرب نوع جديد من الأدب وهو "أدب السجون"، إذ عمل المعتقلون السياسيون على توثيق تجاربهم في السجون من خلال السير الذاتية والروايات والقصص القصيرة وحتى الشعر.

فبرزت شهادات مؤلمة كُتبت بلغة التعذيب والترهيب والإخفاء القسري والدفن الجماعي، شهادات اختار أصحابها أن يجعلوا من الكتابة وسيلةً للاستشفاء والبوح، وأداة للتوثيق الذي عرفَت من خلاله الأجيال اللاحقة هول ما وقع، حتى لا تكون النكسة التي عاشها مغاربة ما بعد الاستقلال رهينة الصمت والإنكار، وحتى نكون أمام تاريخ بديل عن التاريخ الرسمي كتبه الضحايا أنفسهم.

وقد تميز هذا الأدب بالتركيز على معاناة السجناء والتعذيب والاختطاف والمحاكمات غير العادلة، حيث ظهرت أعمال تُعيد تمثيل العنف السياسي لا بوصفه حدثًا فقط، بل جرحًا نفسيًّا وجسديًّا غائرًا، ليس فقط في حياة كُتّابه وإنما أيضا في تاريخ شعب كامل، وهو الأدب الذي بدأ يتبلور مع جيلٍ عايش السجون ونجا منها، ومن أبرز وجوه هذا الجيل أحمد المرزوقي الذي وثق سنوات قضاها في سجن تزمامارت في رواية "تزممارت الزنزانة رقم 10".

قضى أحمد المرزوقي عشرين سنة وراء القضبان، 18 منها في سجن العذابات والأهوال والفظائع: سجن تزممارت الذي دخل إليه رفقة الضباط الذين شاركوا في محاولة الانقلاب الفاشلة على الملك الحسن الثاني سنة 1971. وفي روايته المذكورة يصف الحياة القاسية التي عاشها مع رفاقه في زنازين ضيقة ومظلمة بلا تهوية ولا إضاءة وقد حُرموا من أبسط مقومات الحياة الكريمة، مثل النظافة، حيث لم يُسمح لهم بتغيير ملابسهم أو الاستحمام لسنوات، وكانوا يتلقون أغطية مستعملة من حظائر البهائم، مما زاد من قسوة ظروفهم المعيشية.

شهادة المرزوقي عن تزممارت، والتي لم تكن الوحيدة عن هذا السجن، كانت توثيقا لمعاناة استمرت ثماني عشرة سنة كاملة من التعذيب النفسي والجسدي، ليكون بذلك شاهدًا على فترة مظلمة من تاريخ المغرب، ولينقل معاناة المعتقلين إلى الأجيال القادمة، محذرًا من تكرار مثل هذه الانتهاكات، وتاركًا في روايته سؤالًا كبيرًا معلقًا كالسحاب: "أي ربح يجنيه الجلادون من كل هذا التنكيل؟"

وإلى جانب أحمد المرزوقي، وثق محمد الرايس كذلك تجربة اعتقاله هو الآخر في نفس السجن، في سيرة ذاتية تحت عنوان "من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم"، يضاف إليهما نموذج فريد يتمثل في الطاهر بن جلون الذي اعتمد على مذكرات أحد المعتقلين لكتابة روايته "تلك العتمة الباهرة".

وتتجلى فرادة تجربة بن جلون في كونه، وعلى خلاف المرزوقي والرايس، لم يعش تجربة الاعتقال في تزممارت وإنما راقبها مع الانتهاكات الحقوقية التي عرفها المغرب في تلك السنوات في صمت، ليكتب عنها فيما بعد مستغلًّا ازدهار أدب السجون عربيًّا، وهو ما دفع "منتدى الحقيقة والإنصاف" إلى إصدار بيان يدينه فيه على سكوته إبان فترة التعذيب الذي تعرض له المختطفون أيام الاعتقال. 

أدب المصالحة أم أدب الخضوع؟

بعد إنشاء هيئة "الإنصاف والمصالحة" سنة 2004، بهدف معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال سنوات الرصاص، وذلك باعتبارها أول آلية للعدالة الانتقالية في العالم العربي، والتي عملت على تقصي الحقيقة وجبر ضرر الضحايا واقتراح إصلاحات تَحول دون تكرار تلك الانتهاكات؛ دخل المغرب مرحلة جديدة من الاعتراف الرسمي بسنوات القمع، لكنّ كثيرين يعتقدون أنها لم تكن كافية لبناء عدالة انتقالية حقيقية. ورغم انخراط بعض الأدباء في هذه المصالحة، فإن سؤال "الاحتواء" ظلّ مطروحا، ومعه طُرحت أسئلة كثيرة من بينها: هل تحوّل أدب سنوات الرصاص إلى أدبٍ يشتغل ضمن خطاب الدولة الرسمي؟ وهل أصبح يُعيد إنتاج ما تسعى السلطة إلى تمريره: أي الاعتراف والمصالحة دون محاسبة؟

في هذا السياق تأتي تجربة الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي، ومن خلال مجموعة من الأعمال أبرزها "كان وأخواتها" و"مربع الغرباء - 1981"، باعتبارها تجربةَ مقاومةٍ تحفر في ذاكرة الألم، وتنتقد بشجاعة صيغة المصالحة، وتدين الرواية الرسمية التي اختزلت الحقيقة في إطار العدالة الانتقالية دون مسائلة جنائية للمتورطين.

قال لي عبد القادر الشاوي الذي قضى خمس عشرةَ سنة في السجن، ما بين 1974 و1989، بأن تعبير "سنوات الجمر والرصاص" هو تعبير ملغز ابتدعَهُ من وصَفهم بـ "بعض السُذَّج من مُنَظِّرِي ما سمي بالعهد الجديد" وذلك بغاية التخفيف من حدة التوصيف "الجاهز المناسب" والذي "صقلته المعارضة التقدمية في معمعان صراعها المرير والمُحتدم طوال عقود من الزمن السياسي المهدور ووصفت به طبيعة النظام السائد آنذاك على أنه نظام استبدادي يعادي الديموقراطية ويستعبد الشعب."

وبالنسبة للشاوي فإن هذا التعبير لا يفيد من الناحية الرمزية إلا في "مسخ ظروف المرحلة التي تميزت بالاستثناء في كل شيء" إذ إن هذه التسمية اعتُمدت "للإيهام بأن عهدًا من الحريات قد أقبل، ولا بديل عن إرساء دولة المؤسسات وصون حقوق الإنسان والنهوض بها." وأضاف أن هذا التوصيف "الذي يكثف مرحلة مهمة من التطور السياسي في المغرب"، ومن باب الإنصاف على حد قوله، يمثل "من المنظور الرسمي السعيَ في إطار العهد الجديد إلى تغيير أهم السياسات التي تحكّمت من قبل في التطور العام للبلاد خلال فترات العهد القديم، ولو بدون قطيعة كلية معه." 

ويُردف الشاوي الذي عُيّن سابقا سفيرًا للمغرب في دولة تشيلي، أن "الشروط الضامنة للانتقال من عهد إلى آخر توفرت بالقدر الذي يفيد أن الأجواء السياسية والحقوقية، في أهم الجوانب التي كانت مقموعة من قبل، قد وَجدت لها سياقًا سيُتوج بما عُرف ابتداء من سنة 2004 بهيئة الإنصاف والمصالحة. والحقيقة أن الأجواء السياسية الانتقالية كانت قد تمهدت من قبل في أواخر عهد الملك الراحل بإطلاق سراح المعتقلين، السياسيين والعسكريين، وعودة المنفيين، إلى جانب إنشاء أول وزارة مكلفة بحقوق الإنسان وهيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة." 

ويرى عبد القادر أن الإنتاج الأدبي "قد انتعش في ظل المناخ العام، أو كانت له سياقا بسبب ما أوحت به من حرية، أو سهّلت في وجه من عانى من قسوة الظروف الاستثنائية لكتابه ما عانوه وأرادوا البوح به..." وحقق ما وصفه بـ "الازدهار والانتشار من حيث الكثافة النسبية والصدور المتواتر"، لكنه لا يرى أي مبرر لكي يكون الأدب توثيقًا لأي شيء، لأنه يعتبر أن "النظام اللغوي (التركيب، النحو، الصرف) في علاقته بالكتابة الذاتية الحميمة لا يسوّغ ذلك، ولا يمكن لأي تصور شخصي مبني على تداعيات الذاكرة من خلال الاستذكار أن ينتج وثيقة مطابقة أو غير مطابقة لوضع معين غالبًا ما تتشابك فيه مختلف المعطيات ويتطلب فحصًا موضوعيًّا دقيقًا للتأكد من الطبيعة الخاصة التي قد تكون له في الدلالة على واقعة أو حدث أو مسار أو تجربة تتوفر لها النظرة الفاحصة إلى الأشياء في تفاعلها وتناقضها مع غيرها أيضا."

في روايته "مُربع الغرباء - 1981"، الصادرة سنة 2023 يعود الشاوي إلى أحداث انتفاضة 20 يونيو 1981 بالدار البيضاء، التي اندلعت احتجاجًا على الزيادات في الأسعار في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، والتي نتج عنها استخدام الرصاص الحي وسقوط الكثير من الموتى والجرحى في صفوف المتظاهرين، لتتحول مدينة الدار البيضاء إلى حمام دم، أعقبه دفن عدد من الضحايا في مقابر جماعية سرية، من بينها ثكنة عسكرية تابعة لرجال المطافئ قرب الحي المحمدي في المدينة، وهي المقبرة الجماعية التي كشفت عنها التحريات التي أشرفت عليها هيئة الإنصاف والمصالحة فيما بعد، بالاعتماد على محاضر الشرطة وتقارير المنظمات الحقوقية وسجلات وزارة الصحة.

يستعرض الشاوي، عبر شخصيات روايته، التصدعات السياسية والنفسية التي خلفتها تلك المجزرة، موثقًا تفاصيل القمع والاعتقال والمنفى والانكسارات الفردية والجماعية. ومن خلال شخصية الصحافية "مارية" يكشف عن المقبرة الجماعية التي دُفنت فيها جثث الضحايا بطريقة عشوائية ومهينة، بأمر من وزير الداخلية وقتها، في مشهد يستحضر بشاعة التواطؤ الرسمي مع الجريمة.

ولا تكتفي الرواية باستعادة الماضي، بل تنخرط في نقد صريح لمسار "الإنصاف والمصالحة"، التي تورطت في تبييض الذاكرة دون مساءلة حقيقية للجناة. ويشير الشاوي إلى أن الكشف عن المقبرة تم بقدر من العنف الرمزي الموازي لما جرى في يوم المجزرة، إذ لم تُخضع العظام لأي فحوصات أو تحليل للحمض النووي، مما يؤكد رغبة الدولة في طمس الأدلة لا إحقاق العدالة. 

وتكمن أهمية الرواية في أنها لا تنحصر في سرد وقائع الماضي، بل تفتح مساءلة حادة للحاضر المغربي، حيث تَظهر انتكاسات الحريات وتكرار مناخ القمع في الحركات الاحتجاجية الحديثة كامتداد لتلك المرحلة، ما يطرح سؤالًا صادمًا حول جدوى المصالحة إن لم تكن مشروطة بالعدالة والمحاسبة؟ بهذا المعنى، تتحول "مربع الغرباء - 1981" من شهادة شخصية إلى نص سياسي وأدبي يفضح النسيان الممنهج وينتصر للذاكرة وللضحايا أحياء وأمواتا.

غير أن صاحب الرواية يرى أن الأدب يرتبك في عموم إنتاجه بالذات وبالتخييل حتى والكاتب يتصور أنه يستوحي الواقع أو التاريخ أو وقائع المجتمع." مضيفًا أن "النظرة الفردية في العموم نظرة تأملية فوقية لا تلامس، وليس في مقدورها اعتمادا على اللغة أن تتجرد من التصورات الخاصة ذات الطبيعة الإيديولوجية التي ترى من خلالها جميع الوقائع والموجودات. وبطبيعة الحال يمكن للأدب الذاتي أن يكون تعبيرًا وجدانيًّا عن التفاعلات التي تحدثها الوقائع في العقل والوجدان. ولا يجب الاشتباه في أي شيء آخر وإدراجه من حيث الوظيفة في مجال له طرائقه وأسلوبه وزوايا نظره وبحثه الدائم عن التعليل من خلال الوثيقة أو غيرها من أدوات البحث كالتاريخ مثلا." 

أدب يصف ولا يُسائل

لقد حاول عدد من الكُتّاب المغاربة، خاصة أولئك الذين خاضوا تجربة الاعتقال أو عايشوا فظائع سنوات الجمر والرصاص، بلورة خطاب نقدي مستقل عن الدولة و"المصالحة الرسمية" في مقدمتهم أحمد المرزوقي ومحمد الرايس وعبد القادر الشاوي... وذلك من خلال أعمال لم تكن مجرد توثيق، بل سرديات مقاومة تحفر في ذاكرة الألم، وتنتقد بشجاعة صمتَ الدولة، وتُدين الرواية الرسمية التي اختزلت الحقيقة في إطار العدالة الانتقالية دون مسائلة جنائية.

ورغم هذه المحاولات، فإن كثيرًا من الكتابات الأدبية خضعت، أحيانًا عن وعي وأحيانًا بدافع الرقابة الذاتية، لخطاب المصالحة الرسمي، وجرى تمجيد تجربة "الإنصاف والمصالحة" باعتبارها قطيعة نهائية مع الماضي.

وقد ظهرت إنتاجات أدبية تجنّبت الخوض في مسؤولية الأفراد والمؤسسات أو طرحَ الأسئلة المحرجة حول هذه الفترة القاتمة من مغرب ما بعد الاستقلال، ومن بين هذه الأعمال يمكن استحضار رواية "السجينة" لمليكة أوفقير، التي تسرد تجربة الاعتقال السياسي لعائلة أوفقير بعد محاولة انقلاب فاشلة قادها والدها ضد الملك الحسن الثاني، وعلى الرغم من أن الرواية تقدم شهادة مؤثرة عن المعاناة، إلا أنها تتجنب الخوض في مسؤولية الجنرال أوفقير عن الانتهاكات التي وقعت خلال فترة توليه مناصب عليا في الدولة، مثلها مثل رواية "حدائق الملك" لفاطمة أوفقير، والدة مليكة، التي تسير في نفس الاتجاه، حيث توثق تجربة الاعتقال دون التطرق إلى مسؤولية زوجها عن بعض الانتهاكات. 

جدير بالإشارة أن اتحاد كتاب المغرب كان قد نظم سنة 2006، ندوة بعنوان "قراءات في كتابات وروايات السجون" بهدف "دراسة القيمة الأدبية لهذه الأعمال" ولمحاولة الاستماع إلى أصوات المعتقلين السابقين، "والحفاظ على ذكرى تلك الفترة المظلمة من التاريخ المغربي"، خاصة في ظل نشر عشرات من النصوص التي توثق أحداثها، لكنها لم تُدرج أي عمل من أعمال أفراد عائلة أوفقير ضمن القراءات، لسبب يُرجعه البعض إلى صمت هذه النصوص عن مسؤولية الجنرال محمد أوفقير، في ما ارتُكب من انتهاكات جسيمة خلال فترة نفوذه، بما في ذلك الاغتيالات والاختطافات والتعذيب.

عموما لقد ساهمت "سنوات الجمر والرصاص" في إعادة تشكيل الأدب المغربي، حيث تحول من أداة نضال سياسي في خدمة الحركة الوطنية ضد الاستعمار، إلى فضاء للتأمل الذاتي واستكشاف الجوانب الإنسانية ومساءلة عنف الدولة والانتهاكات التي طالت المغاربة، وهو ما ساهم في إثراء المشهد الأدبي المغربي.

في هذا الصدد يختم عبد القادر الشاوي حديثه معي بقوله إن "معظم الإنتاج الأدبي المشار إليه أنتِج من طرف كتاب توسلوا بالكتابة الأدبية، عربية وفرنسية، للتعبير عن المعاناة أكثر من أي شيء آخر." ويضيف أنه "من المعروف أن ذلك الإنتاج أسبق بكثير عن فترة المصالحة الرسمية، وهو مكتوب من طرف معارضين في معظمه، ويتسم، من خلال التعبير عن الألم، بالبوح والشهادة. فضلًا عن أنه كُتب من الناحية الزمنية بعد فترة طويلة من تجارب الاعتقال والسجن. ولذلك أخمن أنه جاء محملًا بالشكوى، في نية أصحابه إدانة أوضاع بعينها كانت سببًا في مختلف المعاناة".

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا
ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

اليمن

الخاص والمشترك في تجارب وأحوال الأمم

تنْبع الأخطاء المعرفية وما ينجرّ عنها من مخاطر ومفاسد عامة عن وضع ظواهر وحوادث مختلفة بالنوع والزمان والمكان في لائحة تفسيرية واحدة والتعامل معها معرفيًا وكأنها الشيء نفسه وجودًا وعدما، كمًّا وكيفا.

محمد العلائي

الاستبداد

تحولات نظام الاستبداد في المجال العربي

من طريف سجالات الصراع بين عبد الناصر والإخوان أنّه كان يتهمهم بالعمالة لبريطانيا، في حين كانوا يصرّون على اعتباره رجل الولايات المتحدة

زهير إسماعيل

الكرامة الحمصي

محمد قويض.. الكرامة في ملعب الدكتاتورية

قدّم محمد قويض أبو شاكر نموذجًا مناقضا لما واظبت السلطة على ترويجه وشكّل تفنيدًا صريحا لسرديتها وتهديدًا لسلامة مفهومها حول السلم الأهلي

حيان الغربي

المزيد من الكاتب

يونس أوعلي

روائي وكاتب مغربي

بين ناس الغيوان والألتراس.. فلسطين في وجدان الأغنية المغربية

على اختلاف ألوانها ولغاتها، خصصت الأغنية المغربية مساحة واسعة للقضية الفلسطينية تعكس مدى اهتمام المغاربة بها وتضامنهم معها

أدب الدكتاتوريات.. هل الطغاة متشابهون في كل مكان؟

تعكس "روايات الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية" استبداد السلطة وتأثيرها المدمر على المجتمعات، وتعرض تشابهات عديدة مع طغاة العالم العربي

إخضاع الشعوب.. بين آليات الاستبداد وحقّ المقاومة

يوظّف المستبد آليات مختلفة لقهر الناس ودعم استمرار حكمه، وعلى الرغم مما ينطوي عليه المستبد من ضعف إلّا أن شعور الخوف الذي يعمّمه في المجتمع يحول دون تنبّه الناس ووعيهم بهشاشة الاستبداد ما يطيل من عمر الطغيان

من وسيلة لتحديد الوقت إلى بطل فوق خشبة المسرح.. الظل في التاريخ البشري

تاريخ الظّل زاخرٌ ومفعم بالدلالات والمعاني والتوظيفات المختلفة

حين سارت الإمبراطوريات خلف عبق القرفة

أحاطت بالتوابل حكايات وأسرار وأحداثٌ كبيرة وكثيرة، فهي لم تكن مجرّد إضافةِ نكهةٍ للطعام، وإنما لعبت أيضًا أدوارًا هامّة ومختلفة في التاريخ

الكتابات الجدارية.. صفحات ممزقة من تاريخ الإنسان

لم تكن هذه النقوش ترفًا فنيًا بقدر ما كانت وسيلة تواصل، وتعبيرًا عن جزء من الذاكرة الجماعية للإنسان ومكتبته الأولى في التاريخ