يُعد ملف الهجرة غير النظامية عبر البحر (الحرقة) من المواضيع الأكثر استمرارية على طاولة النقاش الاجتماعي في تونس خلال العقدين الأخيرين، إذ كان ولا يزال موضوعًا يؤرق كل نظام مرّ على البلاد، ويؤجج مشاعر الفقد والحسرة عند السواد الأعظم من الطبقة الشعبية والمتوسطة. فبحسب إحصائيات منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ظلّت أعداد من يعبرون البحر نحو أوروبا في تتصاعد مع كل تحوّل سياسي يحصل في البلاد، وكأن منطق المهاجرين غير معنيّ البتة بما يراود عامة الناس من آمال في الثورات كما الانقلابات.
ولا يكاد يخلو وجدان أي شخص تونسي من ذكرى لفرد من عائلته، أو أحد أصدقائه وزملائه، الذين اتخذوا قرار ركوب البحر ليغرقوا في أعماقه، أو يقعون في قبضة خفر السواحل، فيتبخر حلمهم ومعهم آلاف الدينارات التي دفعوها لمنظمي الهجرة.
أما القصص ذات النهايات السعيدة، التي يعود فيها المعني من بلاد الڨاوري (أوروبا) مع سيارة فخمة وزوجة جميلة وأطفال من نسل مختلط؛ فقد تراجعت تدريجيًا في الذاكرة الجماعية للتونسيين، لتصبح شاهدًا على حقبة ما قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، وحتى ما قبل اتفاقية شنغن لحرية التنقل سنة 1985 (التي تنفيذها الفعلي في 1995).
ومع تراجع سردية الحارق/المهاجر الذي نجح في تغيير حياته جذريًا، تراجعت معه قدرة هذه الطبقات المهمشة على التخيّل والتغنّي بالضفة الشمالية للبحر المتوسط، من خلال أغاني "المزود الشعبية"، التي مثلت الحرقة/الهجرة إحدى ثيماتها الأساسية منذ نشأتها، وخاصةً في التسعينيات وبداية الألفينات. وحل محل هذا الفن، أو كاد، في ما يتعلق بالهجرة غير النظامية، أشكال تعبيرية أخرى.
عمّا نتحدث حين نتحدث عن المِزْوِدْ؟
سمّي هذا النمط من الموسيقى الشعبية على اسم آلة النفخ المستعملة في ممارسة هذا الفن، وهي عبارة عن قربة أو كيس من جلد الماعز، توضع في طرفه قصبة بثقوب جانبية وقرنا ثور، ينفخ داخله المزاودي ويحرك أصابعه على ثقوب القرون ليكوّن الألحان الواردة في الأغنية.
ظهر المزود بداية القرن العشرين، وتطور من ناحية الوسائل والمضامين بصورة مستمرة، حيث أدخلت عليه إيقاعات الطبل والدفوف والدربوكة وغيرها، وكانت أنغامه وأغانيه صدى لهموم الشارع في المناطق الشعبية، وخاصةً في أطراف الحواضر.
ويتبنى كثيرون نظرة دونية للمزود باعتباره فنًا سوقيًا يخص الفئات الفقيرة والمهمشة التي لا يغيب عن أعراسها، ويرتبط كذلك بشرب الكحول الرخيصة ومعدلات العنف والجريمة العالية، وهي نظرة نمطية كرستها سلطة الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال، من خلال استبعاد هذا الفن من المنابر الإعلامية والاحتفالات الوطنية والحزبية.
مع ذلك، يبقى هذا الأمر محل نقاش، إذ يعتبر آخرون بورقيبة بريئًا من تشويه هذا النمط الموسيقي وتهميشه، مثل الباحثة الموسيقية عائشة القلالي التي تنفي وجود أي دليل على منع الرئيس لتواجد المزود في المهرجانات. وكذلك صالح الفرزيط، أحد رواد هذا الفن، الذي يرى أن إقصاء المزود من المجال العام الرسمي لم يكن لأسباب متعلقة بالذوق، وإنما لاعتبارات سياسية متعلقة بأغنية "إرضى علينا يا لميمة"، التي اشتهرت في السبعينيات لتناولها موضوع حقوق المساجين.
وسواء منع نظام ما بعد الاستقلال انتشار هذا الفن أم لا، فإن الثابت أن المجتمع التونسي تعامل مع هذا الفن دائمًا بانتقائية شديدة من حيث المضامين المرحب بها وتلك المسكوت عنها، والمنابر التي يجب أن تعطى له وتلك المحرمة عليه. وهذه الانتقائية والازدواجية تظهر حتى عند رأس الدولة، إذ قال أسطورة المزود، الهادي حبّوبة، إن بورقيبة كان يستقبل في قصره فرق الفن الشعبي، ومنها المزود، في حين كان يحرص على منعه في الإذاعة "القومية" آنذاك.
وما زالت هذه الانتقائية مستمرة، إذ يتكرر كثيرًا بدأ حفلات الأعراس بموسيقى غربية أو مشرقية، قبل يُلجأ إلى أغاني المزود المسجلة في آخر السهرات، بعد أن يضمن الحاضرون نوعًا من الألفة تساعدهم على التخلص من "البروتوكولات" وادعاءات الذوق الرفيع، و تدفعهم إلى الاعتراف الضمني بأنه "لا يحرّك حزام التونسي غير المزود".
ينقسم هذا النمط الموسيقي إلى تيارين رئيسيين؛ الأول هو الأغاني ذات النسق السريع التي تستعمل في حفلات الأعراس (الربوخ)، والتي تمكنت من تحصيل بعض الاعتراف في وسائل الإعلام، لكونها أغاني فولكلورية تحتوي على أهازيج بهيجة.
أما الثاني، فهو "المزود المزموم" (كما هو معلوم، "المزموم" هو أحد الطبوع التونسية في المالوف، لكن استعماله الشعبي يحيل على كل غناء حزين)، ويعتبر بمثابة المنطقة المظلمة للمزود، ويغلب عليه المواويل والنسق البطيء، ويتناول كذلك مواضيع الحب الضائع والطلاق والسجن والحرقة.
الهجرة غير النظامية من خلال المزود
لا يُعرِّف التونسيون، سواء في الأحياء الشعبية للعاصمة أو المحافظات الأخرى، هذا النمط الموسيقي إلا من خلال آهاتهم وأوجاع الفقد وويلات التهميش، ويعتبرون أن المزود الراقص المُقبل على الحياة انحرافًا وانزياحًا عن رسالته.
وكثيرًا ما يعبَّر عن ذلك في المقارنة الأبدية بين قطبي موسيقى المزود؛ الهادي حبوبة من جهة، الذي عُرف بموسيقاه الراقصة والمبهجة التي منحته شهرة عالمية بوصفه ممثلًا للفلكلور التونسي. وصالح الفرزيط، الذي اشتُهر بأغنيه التي تغلب عليها اللوعة والحزن، من جهة أخرى. وفي هذه المقارنة، دائمًا ما يكون الفرزيط هو نجم الأوساط الشعبية بامتياز، بينما يبقى الهادي حبوبة وجه المزود المقبول إعلاميًا.
بعيدا عن هذين العملاقين اللذين نشب بينهما خلاف حاد في الثمانينيات، والذي تم تداوله حتى صار بمثابة أسطورة، فإن فنانين آخرين من الجيل اللاحق رسّخوا، كلٌ بطابعه الخاص، العلاقة بين هذا الفن وبين عملية اجتياز الحدود البحرية خلسة بمختلف مراحلها والأحاسيس المرتبطة بها من توق و حلم، و تنفيذ ومعايشة، بل وحتى الندم.
ومن بين هؤلاء الفنانين محمد علي الأسمر، الذي اشتُهر بأغنيته الأيقونية "بالله يا طير"، التي يوصي فيها الطائر المسافر إلى البلاد بأن يُطمئن أمه، كذبًا، أنه في "عيشة هنيّة". وبالمثل، يصدح صوت لطفي جرمانة في أغنية "بيني وبينك الفيزا" التي تعبّر عن الفقد والحنين للبلاد في ضوء العنصرية التي اكتشفها في أوروبا. ويبكي سمير الوصيف في "هذاكا اللي كاتب ليا" البيروقراطية الأوروبية التي حرمته من ابنه، وأنهت إقامته هناك.
أما أكثر من عالج موضوع الحرقة في أغانيه، فيبقى نبيل الوحيشي الذي اختلط مع أجيال الحرقة منذ بداية التسعينيات، وأقام في أوروبا بوصفه مهاجرًا غير شرعي، فعايش موت الحارقين في عرض البحر، واستقطاب آخرين للعمل مع مافيا المخدرات الايطالية، الأمر الذي أدى إلى نهايات مأساوية، إما في السجون أو قتلى برصاص هذه العصابات أو تلك. وقد وثق الوحيشي كل هذه المصائر في أغانيه، مثل "الليرة والدولار"، و"الغربة حكايات"، "قولوا لأمّي".
وتظل "يا روما" أهم هذه الأغنيات التي لاقت رواجًا واسعًا في التسعينيات وأكثرها شهرة، وقد صارت بمثابة نشيد مشترك لجميع الأحياء الشعبية، مما دفع صاحبها إلى إصدار جزء ثان لها عام 2012، ثم ثالث في عام 2020.
لا تحتاج أن تكون ناقدًا أو خبيرًا موسيقيًا لكي تلاحظ سقوط الوحيشي في المباشرة التقريرية في الجزأين الثاني والثالث من الأغنية، حيث طغت الرسائل السياسية والاجتماعية على حساب اللحن والشاعرية. كانت هذه الرسائل صادحة بتجربة صاحبها الطويلة، مرتحلًا بين ضفتي المتوسّط، ومتنقلًا من أمل خائب إلى آخر مع كل محطة في تاريخ البلاد المعاصر. وفي ما يلي جزء من المّوال الذي يستهل به الأغنية:
"أنا مجرّبها من أول ما بدات
من أول ما فرضوا الفيزا عام تسعين
مجرّبها الحرقة بالليرة في التسعينيات
كانت محصّن مضمّن توصل في الحين
عاشرت جيل خلّى في ميلانو إستوارات (تواريخ)
تبقى تاريخ عند الطليان ليوم الدين
كاستيلو أرجنتينا غاريبالدي كلها بيادزيللي (مدن إيطالية)
احتلوها رجال من غير ما نسمي معروفين
جرّبتها مع جيل الألفينات
جيل اليورو و الدوكيمانتي والمفقودين
جيل في زمانهم الحرقة شدّتها (سيطرت عليها) مافيات
تجارة أعضاء وتهريب وهو مسكين
ضاع شعبي في وسطهم ومات
لا دفينة لا صلاة ولا قبر يزوروه الوالدين".
إصرار الوحيشي على مواصلة التغنّي بروما على طريقته يمثل في حد ذاته إبحارًا ضد التيار، إذ لم يذع صيت أي أغنية مزود حول الحرقة منذ سنوات. فقد صار الأحباء والأصدقاء الذين يجتازون البحر المتوسط لا يغيبون سوى مسافة قصيرة، قبل أن تظهر صورهم على حسابات مواقع التواصل خلال ساعات بخلفيات أوروبية، وعادةً في أحياء خلفيّة متوارية. بل بات البعض يقوم بإنشاء بث مباشر من القارب بواسطة هاتفه وهو في عرض البحر، إذ يحاول الجميع لإظهار المرح المصطنع رغم الخوف على الوجوه الذي لا تخطئه العين.
لعل هذه المشهدية الطاغية على مغامرة الحرقة تمثل أحد الأسباب التي جعلت نصيب الخيال شحيحًا إلى حد كبير، إذ باتت حقائق معاناة المهاجر مبسوطة أمام الشاشات، فانحسرت الحاجة لنظم أشعار عن الطائر المهاجر، وعن الحبيبة الموعودة باللقاء، والأم المفجوعة على أبنائها.
"النوبة" محاولة إحياء أخطأت هدفها مرتين
في رمضان 2019، عُرض لأول مرة مسلسل "النوبة: عشاق الدنيا" للمخرج عبد الحميد بوشناق، وحقق شعبية هامة بوصفه مغامرة فريدة بعيدة عن النمط المعتاد للدراما الرمضانية التونسية. ورغم اللغط الذي صاحبه حول استخدام اسم عرض "النوبة" (1991)، بدون موافقة صاحبه الأصلي، إلا أن العمل ترك انطباعًا عامًا إيجابيًا، حيث أعاد للشارع التونسي، وخاصةً للشباب، متعة الاستماع إلى موسيقى المزود من دون أي حرج من الوصم الاجتماعي.
وعرض "النوبة" هو عرض فني للمخرج المعروف فاضل الجزيري، قام فيه بجمع شمل أشهر مطربي الفن الشعبي والبدوي وعازفيه في مطلع التسعينيات، ضمن لوحة فنية واحدة لا تزال علامة فارقة في تاريخ العروض التونسية، باعتبارها بشرت، حسب كثيرين، برفع نظام بن علي يده عن الفن الشعبي الذي تعمّد سلفه بورقيبة إبعاده كما أسلفنا.
حضرت ألوان عديدة من الأغاني في هذا العرض، مثل الغناء البدوي الذي قدّمه إسماعيل الحطاب، والمزود عبر الهادي حبّوبة وصالح الفرزيط وغيرهما، وحتى المدائح الصوفية التي أدى بعضها الفنان لطفي بوشناق، والد المخرج عبد الحميد. لكن المزود، بثيمة الحرقة، غاب كليًا عن العرض، وهو أمر غير مستغرب، ذلك أن الظرف السياسي والاجتماعي كان يفرض رسائل معيّنة من الصعب تجاوزها، عدا عن أن معضلة الهجرة غير الشرعية، وما رافقها من تعبيرات فنية، كانت لا تزال آنذاك مشكلة مستحدثة بعد فرض نظام الفيزا.
لكن الغريب أن يغيب موضوع الهجرة غير الشرعية عن مسلسل "النوبة" بجزئيه 2019 - 2020، وعدم ظهور قامات برزت في هذه الثيمة، مثل نبيل الوحيشي ومحمد علي الأسمر، رغم مشاركة آخرين ممن لم يشملهم عرض قرطاج 1991، مثل سمير الوصيف وفوزي بن ڨمرة والتليلي الڨفصي.
يبدو حقًا أن للإعلام والفن الرسميين قوانين خاصة، ومن الخطأ المطالبة بتخطيها وتغييرها. فمهمة الإعلام الجماهيري (Mainstream media) في ما يتعلق بالفنون تكمن في تنقيتها إلى أبعد حد حتى تصير ملائمة وقابلة للبث على نطاق واسع، حتى وإن أدى ذلك إلى إفراغها من مضمونها وأصالتها.
وينطبق ذلك على كل المواضيع والأشكال التي لا تحظى بإجماع حول رسالتها وغايتها، ونلاحظ ذلك مع فن الراب الذي تختلف صورته الحاضرة في البرامج التلفزية وما يبث على الراديو، عن نسخته التي تتسرب إلى سمع الشباب المهمش عبر سماعات الأذن وفي الحفلات المغلقة.
وعن فن الراب تحديدًا، الذي يُعرف في تونس، والعالم العربي، بوصفه فنًا شعبيًا جديدًا؛ كان من الطبيعي أن يسهم ظهوره وانتشاره في منتصف الألفينات في تغييب المزود كمنارة للحارقين، حيث اشتهرت الكثير من أغاني الراب التي تصف رحلة اجتياز الحدود بكلمات مباشرة وطريقة لاذعة في نقد المجتمع، لا يملك المزود الأدوات لمجاراتها. ونذكر منها "اليوم مسافر" لـMascott، و"وين رايح" لـBalti، و"الأمل الضائع" لـPsyco M.
لا شك في أن موسيقى المزود، عمومًا، تعيش أزمة حقيقية منذ سنوات، فمعدل إنتاج الأغاني صار ضعيفًا جدًا، وقليل منها يحصل على الشهرة الكافية. كما بات فنانو هذا النمط يعيشون من الحفلات عبر إعادة غناء أغانيهم القديمة دون الجرأة على التجديد.
وفي الوقت الذي يغيب فيه جيل جديد قادر على إنقاذ هذه الموسيقى من الاندثار التدريجي، بات جمهور المزود يشهق مفجوعًا كلما رحل أحد فرسان هذا الفن، إذ غادرنا في السنوات الأخيرة كل من لطفي جرمانة، وعبد الرزاق ڨليّو وأشرف، وبتنا معتادين على ظهور أحد الفنانين بين الحين والآخر في الإعلام طالبًا المساعدة بعد أن عجز فنّه عن توفير لقمة عيشه، كما شهدنا خلال أزمة كورونا التي حرمت الكثير من أهل الفن من مصادر رزقهم.












